استقرار الحكومات في الدول الديموقراطية من استقرار الاقتصاد، والحكومة الناجحة هي التي تحقق مثل هذا الاستقرار. حكومة "العمال الجدد" البريطانية قدمت، الاسبوع الفائت، هذا النموذج الذي لا يكفل فقط بقاء الحكومة حتى نهاية مدتها الدستورية، بل يؤهلها للفوز في الانتخابات المقبلة لدورة ثانية. ويبدو ان هذا كان من بين الأهداف الرئيسية لوزير مالية بريطانيا غوردون براون عندما قدم موازنة الحكومة الى مجلس العموم الثلثاء الماضي. يقولون ان براون محظوظ، بل أكثر وزراء مالية بريطانيا حظاً خلال النصف الثاني من القرن العشرين. فالفائض في الموازنة أفضل دائماً من العجز، ووزير مالية مع فائض يعيش في هناء أكثر من وزير مالية مع عجز لا همّ له الا التفتيش عن مصادر تمويل لسد هذا العجز. وبالنسبة الى براون، وبالتالي الى حكومة توني بلير، فان توفر الفائض حوالي 13 بليون جنيه استرليني في الموازنة قبل 15 شهراً من الانتخابات المقبلة - كما يشاع - هو النعيم بحد ذاته. فالموارد التي تتدفق على خزينة الدولة فاقت التوقعات: توقعات الوزير وتوقعات مستشاريه في آن. فالاقتصاد البريطاني انطلق ثانية في أفق الانتعاش بمعدل نمو يعادل ثلاثة في المئة، على عكس تنبؤات البعض، مطلع العام الماضي، بدخوله في دورة الكساد. فخلال أقل من عامين، تمكنت الحكومة البريطانية من خلق أكثر من 800 ألف فرصة عمل، إذ وصلت معدلات البطالة الآن الى أدنى مستوياتها خلال أربعة عقود. وهذان النمو والانتعاش يجريان على قدم وساق من دون أن يرافق ذلك أي ارتفاع يذكر في معدل التضخم، جراء الجنيه القوي وكبح ارتفاع الأسعار الذي يتحقق بفعل التقدم التقني. فالأرقام الرسمية تشير الى أن أسعار المفرق ترتفع بمعدل 2 في المئة فقط، وهذا أدنى معدل في أوروبا. وزير المالية براون أدرك ان صحة الاقتصاد باتت تسمح له باصدار وصفات سريعة وضرورية لمعالجة المشاكل الاجتماعية المرتبطة بالانفاق العام. وقد اختار نظام الرعاية الصحية كأولوية حيث حصل هذا النظام على حقنة فورية قوامها ستة بلايين جنيه استرليني، اضافة الى حصة الرعاية الصحية السنوية في موازنة الحكومة. فهذا القطاع يلامس عصب كل مواطن، بغض النظر عن خلفيته الطبقية أو العرقية، أي انه يلامس كل ناخب وصاحب صوت يستخدمه في زمن الانتخابات. لكن قبل كل شيء قرر براون تسديد 12 بليون جنيه من الدين العام: فهو مطمئن تجاه الفائض الذي سيصل الى حوالي 36 بليونا في السنوات الثلاث المقبلة، ليؤكد على شعار سياسته منذ توليه منصب وزارة المالية: الاستقرار. أما بالنسبة الى النظام الضريبي، فقد توقع المراقبون ان يعلن براون عن خفض ضريبة الدخل ليقدم الى المواطن "حلوى الاغراء"، كما يقال. لكنه قرر خفض الضريبة فقط بالنسبة الى رجال الأعمال الجدد أصحاب الصناعات المتوسطة في قطاع التكنولوجيا المتنامي بسرعة dot.com، والى المحتاجين في المجتمع مثل العائلات ذات رب الأسرة الواحد، والمسنّين، والمتقاعدين، والعاطلين عن العمل الذين مضت عليهم سنوات طويلة. فالمعروف أن صناعات التكنولوجيا الحديثة في بريطانيا تقوم على مشاريع صغيرة أو متوسطة الحجم تستخدم عادة حوالي 25 موظفاً في المشروع الواحد. وهذا يعني، من وجهة نظر الحكومة والوزير براون، ان دعم هذا النوع من المشاريع سيؤدي الى خلق المزيد من فرص العمل. ومن هنا جاء اهتمام ميزانيته بأصحاب هذه المشاريع التي تجد نفسها تنتقل من مشروع برأسمال متواضع الى مشروع يدرج خلال فترة زمنية وجيزة على قوائم الأسهم في حي المال في لندن. أما بالنسبة الى الانفاق العام، فقد اختار براون أهم قطاعين: الصحة والتعليم: فلأول مرة منذ تأسيس نظام الرعاية الصحية قبل خمسين عاماً، تقوم الحكومة البريطانية بحقن هذا النظام بكمية كبيرة من المال هو في أمسّ الحاجة اليها. ولكن في الوقت نفسه ركزت الموازنة على ضرورة اصلاح هذا النظام الذي لم يتعرض لأي نوع من المراجعة حتى الآن، والذي يتطلب إعادة نظر هيكلية ليتماشى مع متطلبات العصر والمستقبل. وأما قطاع التعليم فقد خصّه الوزير بمساعدة اضافية وفورية مقدارها بليون جنيه سنوياً من الآن وحتى ست سنوات مقبلة، حيث بات بمقدور كل مدرسة ابتدائية، من أصل 18 ألف مدرسة في بريطانيا، شراء الكتب ووسائل الايضاح اللازمة سنوياً بحوالي 3500 جنيه لكل مدرسة، وستقوم الحكومة بتسديد تكاليف تطوير وتزويد المدارس بأجهزة الكومبيوتر الحديثة، بهدف التركيز على تخريج أعداد أكبر من الطلبة في مجالات العلوم والتكنولوجيا. القطاعات العامة الأخرى، مثل قطاع النقل والمواصلات، لم تحظ باهتمام كبير في هذه الموازنة. ولعل ذلك يعود الى تفضيل براون التريث لما بعد انتخابات محافظ لندن التي ستجري في شهر أيار مايو المقبل، ومعرفة مصير سياسة التفريع التي تتبعها الحكومة في الاقاليم قبل اتخاذ قرار بهذا الشأن. وباختصار فموازنة براون الأخيرة تهدف الى المحافظة على الاستقرار الاقتصادي لأنه السبيل الى اقتصاد صحي هو، بدوره، السبيل الى عقل الناخب.