اتضح الآن على الصعيد السياسي أن ايهود باراك ليس على الذكاء الذي أملناه فيه، وان افتقاره الى الحنكة السياسية كلّف عملية السلام وقتاً ثميناً، وربما أدى الى القضاء عليها. لماذا احتاج كل هذا الوقت، منذ أواخر صيف السنة الماضية وأوائل خريفها، للبدء بالعمل الجدي على واحد من المسارين الرئيسيين في ديبلوماسية السلام؟ ولماذا استمر، بعدما وافق في تشرين الثاني نوفمبر الماضي على "العودة الى التفاوض مع السوريين من النقطة التي وصلتها الجولة الماضية من المفاوضات"، في محاولة التملص من الالتزام المشروط الذي قدمه اسحق رابين بالانسحاب الى خط 4 حزيران يونيو 1967 مقابل سلام معقول مع سورية؟ هل اعتقد ان في امكانه ان يخدع الرئيس حافظ الأسد للقبول بانسحاب يقلّ عن ذلك؟ أم هل فكّر في ان في امكانه اجبار الرئيس السوري على القبول بصفقة ناقصة، مفترضاً أن حاجة الأسد الى السلام ملحّة الى حد الموافقة على شروط أقل من تلك التي عرضها بالفعل رابين وخلفه شيمون بيريز؟ لكن الافتراضات الخاطئة ليست وقفاً على باراك. إذ سبق لي أن افترضت أن باراك عندما وافق على العودة الى التفاوض "من النقطة التي وصلتها المفاوضات السابقة" كان سيسير على خطى رابين في التزام الانسحاب الى خط 4 حزيران. وعندما سرّب الى عكيفا ايلدار محتويات الوثيقة التي قدمها الأميركيون في شيبردزتاون، اعتبرت ان عدم ذكر الانسحاب في الوثيقة كان خدعة هدفت الى التغطية على استمرار تفاوضه مع دمشق على أساس الانسحاب الكامل. لكن يبدو ان هذا لم يكن الواقع، بل انه كان بالفعل يحاول التملص من التزام رابين وبيريز. ما حصل بعد ذلك، كما يبدو، هو ان باراك شعر بالحاجة الى البرهنة على صلابته، عن طريق اطلاق مغامرته العسكرية البائسة ضد لبنان. انه لأمر مؤلم ومدمر لكل من تهمه مصلحة لبنان. فلماذا يتحتم على كل زعيم اسرائيلي يتسلم السلطة ان يتعلم من جديد، على حساب شعب لبنان وبناه التحتية، الدرس الأساسي عن استحالة "قصف لبنان نحو سلام منفصل"؟ المذهل ان الديموقراطية الاسرائيلية الشهيرة تبدو مفتقرة الى ذاكرة مؤسساتية يتوارثها رؤساء الحكومات. اذ ترينا الاحداث ان كل رئيس حكومة تولى المنصب منذ 1983 اضطر الى تعلم هذا الدرس من جديد. في حال قراءة أي منهم هذا المقال، لأكرر لهم هذا الدرس. انه كما يأتي: "مهما كان من تفوق اسرائيل الحاسم في كل درجة من درجات التصعيد العسكري في لبنان فلا يمكن ترجمة ذلك الى فصل ما بين الديبلوماسيتين اللبنانية والسورية". هناك اضافة المقولة البسيطة الملازمة، التي يبدو ان علينا ايضاً التذكير بها، وهي: "كلما اكثرت من قصف لبنان كلما صعب عليك الحصول على اصدقاء هناك". لماذا لا يفهم الاسرائيليون هذه البديهية التي تنطبق على كل انسان؟ السبب الوحيد الذي أراه هو ان من الصعب على الكثير من ساسة اسرائيل ان يعتبروا اللبنانيين مساوين لهم في الانسانية. لكن ربما كان من المفيد ان نتساءل أكثر عن دوافع باراك لاطلاق هجومه البشع على لبنان. هل كان ذلك بمثابة رسالة الى الأسد عن "صلابة" رئيس حكومة اسرائيل وقدرته على التخريب، آملاً من خلال ذلك بإجبار الأسد على القبول بانسحاب جزئي فقط من الجولان؟ أم هل كان يتصرف وفق هذا الاعتبار العاطفي الآني، وهو ان حزب الله تجاوز الحدود في الاستفزاز عندما قتل سبعة من جنوده في جنوبلبنان؟ اذا كان هذا الأخير هو الدافع الحقيقي فهو يشير الى أمر محزن لكن في الوقت نفسه مثير للانتباه. فقد كتبتُ في مقال سابق عن ادراك مسؤولي التخطيط في الجيش الاسرائيلي أن هامش تحمل الرأي العام الاسرائيلي للخسائر في لبنان تراجع كثيرا خلال السنوات الأخيرة. لكن وصول ذلك التراجع الى الحد الذي يجبر باراك على التحرك بعد مقتل سبعة جنود في عمليات عسكرية أمر جدير بالملاحظة. ورأينا اضافة الى ذلك، وللمرة الأولى، جنودا اسرائيليين اثناء الخدمة وفي وضع ميداني وهم يعبرون صراحة على شاشات التلفزيون عن الرعب، وهو بالتأكيد ما لا يريد أي قائد أو رئيس وزراء اسرائيلي ان يراه مستقبلا. لو كان باراك على نصف الذكاء الذي افترضناه له سابقاً، لتصورت انه، بعدما شاهد تلك التقارير التلفزيونية، وبعدما فشلت قواته تماما في استفزاز حزب الله لدفعه الى خرق اتفاق نيسان ابريل 1996، كان سيطلق هذه السلسلة من الأحداث: أولاً، ان يبذل كل ما في وسعه للاتصال بحزب الله ربما عن طريق الوسطاء الألمان ومحاولة التوصل الى اتفاق يسمح بانسحاب اسرائيلي احادي، وهو ما لم يستطع باراك فرضه على حكومة لبنان. لا شك ان حزب الله كان سيرفض طلبا كهذا. وهنا كان لباراك ان يلجأ الى الرئيس الأسد كلهم يفعلون ذلك في النهاية لتخليص قوات اسرائيل من ورطتها في لبنان. اذن ربما كان ايهود باراك يأمل بالتوصل سراً الى اتفاق كامل مع سورية ولبنان بحلول منتصف الشهر الجاري. وربما كان هذا ما دفعه، في محاولة لتهيئة الرأي العام الاسرائيلي للقبول بالاساس الذي لا غنى عنه لذلك الاتفاق، الى ان "يكشف" لحكومته والصحافة نهاية الشهر الماضي ذلك السر المكشوف أصلا: العرض المشروط من قبل رابين وبيريز على سورية بالانسحاب الى خطوط 4 حزيران 1967. يا لذكاء باراك، ويا لدهائه! لكن المشكلة هي انه أهدر كل هذا الوقت منذ حزيران الماضي، وهي الفترة التي شهدت ما يأتي: 1 التراجع الكبير في موقع باراك السياسي في الداخل، عموما وفيما يخص القضايا المتعلقة بالجولان. ولنا ان نتذكر ان الناخب الاسرائيلي قضى تماما في انتخابات أيار مايو 1999 الاشتراعية على حزب "الطريق الثالث" المهووس بالحفاظ على الجولان، فيما حصل باراك نفسه في انتخابات رئاسة الحكومة على تفويض قوي لبرنامجه السياسي، الذي كان من بين أهم نقاطه العمل على احراز تقدم حقيقي في عملية السلام. لكن الشهور التسعة التي تلت اعطت القوى الرافضة للانسحاب من الجولان فرصة كافية لاعادة تنظيم صفوفها وشن الهجوم المضاد، كما تمثّل بالخطوة المذهلة التي اتخذها الكنيست بعد أيام على تسريب باراك ل"وديعة" رابين وبيريز، عندما أقرّ تشديد شروط الاستفتاء على اعادة الجولان. النتيجة ان اقناع الرأي العام بتقديم التنازل الضروري هناك أصبح أصعب مما كان عليه الصيف الماضي. 2 بدد باراك الكثير من الثقة بنياته التي عبّر عنها الرئيس الأسد الى باتريك سيل أواخر حزيران الماضي، في الوقت الذي تشكل فيه الثقة بين الطرفين شرطا مهما لانجاح ديبلوماسية السلام. هل يستطيع باراك استعادة علاقة عمل ايجابية مع الأسد أو ممثليه؟ وهل يتمكن من القيام بذلك قبل أن تتدخل اعتبارات سياسية في سورية لكبح العملية، وهو ما قد يحصل؟ هنا أيضا، المهمة كانت أسهل بكثير الصيف الماضي. 3 قُتل المزيد من المدنيين اللبنانيين والعسكريين من الطرفين أيضاً خلال الفترة. ولا أزال أجهل السبب في عدم ادانة الغرب لهجوم باراك على محطات الكهرباء اللبنانية باعتباره مثال صارخ على ارهاب الدولة، أي استهداف المدنيين توصلاً الى هدف سياسي. ويمكننا بسهولة ان نتصور رد فعل واشنطن لو الحق طرف من الأطراف بشبكة الكهرباء الاسرائيلية عُشر الدمار الذي الحقته اسرائيل بالشبكة اللبنانية. يقودني هذا الى الدور المخزي الذي تلعبه ادارة بيل كلينتون في هذا الوضع. لكن مشاعر القرف، وايضا الافتقار الى المساحة، لا يسمح بتناوله بالتفصيل. لذا اكتفي بالقول ان الادارة الأميركية، التي تجنبت دوماً كل ما يوحي بأنها تضغط على اسرائيل، مهما كانت "نعومة" الضغط، في اتجاه التوصل الى اتفاق، غرقت في شكل متزايد منذ كانون الثاني يناير الماضي في دورها ك"خادمة" لا أكثر. وليس لسلبية واشنطن، ولتلك السلسلة من الاخطاء التي ارتكبتها باراك سوى ان تجعل مهمة السلام في الشرق الأوسط أصعب مما كانت عليه في أي وقت مضى. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الاوسط