سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الجغرافية العربية استكشاف مجاهيل البرّ والبحر ومسارات النجوم . أحمد بن ماجد أوّل من اقترح شقّ قناة السويس بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسّط 1 من 2
يَوْهَم أغناطيوس كراتشكوفسكي 1 حين يقرّر أن الجغرافية الأرضيّة والفلكيّة لم يعرفها العرب إلا بعد اطّلاعهم على العلوم الهنديّة أولاً واليونانيّة ثانياً 2. ويبدو أنّه "يتكرّم" بذكر الهنود قبل اليونانيّين، لأنه شرقيّ أصلاً، أما الغربيون من أمثال المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل فقد قدّموا اليونانيين على الهنود، متّفقين مع كراتشكوفسكي وغيره من القائلين بأنّ العرب لم يعرفوا الجغرافية إلا بعد اختلاطهم بالأمم الأخرى. وأظنّ، وحسن الظنّ مرغوب به أحياناً، أن البحوث القيّمة التي قدّمها هذان الباحثان وغيرهما في موضوع الجغرافية العربية، خصوصاً، لم تكن نتيجة مؤامرة بالضدّ من العرب، بل لعوامل نفسيّة اختلطت في مناهج أبحاثهم، وأثّرت بالتالي في النتائج التي توصّلوا اليها. فالهند، عندهم، عالم مليء بالغموض، يكتنفه السحر وتلفّه الأساطير، كما كان شأنها لدى العرب أنفسهم، حتى نسبوا الى الهند "كليلة ودمنة" وشيئاً كثيراً من "ألف ليلة وليلة"، بل تردّد ذكرهم لدى الجاحظ وغيره من الكتّاب القدماء، في البيان والحكمة والبلاغة، فليس من المستغرب أن يعيد اليهم بعض باحثي هذا العصر ومؤلفيه كلّ ما يغمض عليهم من نشأة العلوم بمختلف ميادينها، وعلى تصوّر مسبَق أن العرب عاشوا في الصحراء التي لم تمنحهم إلا فن الشعر. فأصبحت صورة العرب في المؤلفات الأجنبية عموماً تُظهرهم وكأنّهم لا يمكن أن يكونوا مبدعين أو مجددين، وأنّ غاية ما أمكنهم أن يقدّموه أن يقلّدوا غيرهم ويأخذوا عنهم شيئاً من العلوم. وتقدّم أوضاعنا الثقافيّة الحاليّة أدلّة وفيرة على صدق أولئك المؤلفين. ومن ظواهر هذا التخلّف أنّ العرب المعاصرين أهملوا، في ما أهملوا، العلوم الجغرافيّة التي برّز فيها آباؤهم وأجدادهم، وقدّموا للعالم كلّه خدمات جلّى يقصر عن استقصائها الاحصاء. إذا عدنا الى أقدم النصوص المنقولة لنا عبر التاريخ، وهي ملحمة كلكامش، سنجد أنها تتحدّث عن جولة واسعة قام بها كلكامش بحثاً عن الخلود، فقادته سفرته من جنوبالعراق القديم الى مراكز المدنية على شواطئ الخليج، والتي كانت تمثّلها في تلك الفترة الموغلة في القدم كل من البحرين وعُمان واليمن، حين ظنّ كلكامش أنّه سيجد بغيته في واحدة منها. كلكامش لم يكن هنديّاً ولا يونانيّاً، ومما لا شكّ فيه أنّه لم يقم بتلك الرحلة لولا أنه يعرف الطريق الى المراكز التي سيسافر اليها، وليس من المعقول أنّه سيخترق المجهول نحو مجهول. هل كانت رحلة كلكامش عودة الى الأصول، وبحثاً عن الجذور، وفق النظريّة القائلة بهجرة أقوام سمّوها ساميّة من الجنوب نحو وادي الرافدين؟ ولكن، إذا لم يكن أولئك الناس يعرفون المواقع والمواضع فكيف هاجروا من غير أن تكون لديهم معرفة مسبَقة بوجود أرض خصبة ترويها الأنهار؟ لا يمكن أن نطمئن الى القائلين بانقطاع التواصل بين أجزاء تلك البلدان، بل نحن أميل الى الاقتناع بأنّ ثمة أواصر بين جميع تلك الأرجاء، بدءاً من شواطئ اليمن وعُمان، وصعوداً الى الحجاز ونجد فبلاد الرافدين وبلاد الشام. وليس من الصدف أن نرى ميناء في لبنان الآن اسمه صور، وميناء آخر في عُمان يحمل الاسم نفسه، كما ليس من المستغرب أن تشيع بين أهل الجبل الأخضر في عُمان أيضاً، حكاية تقول انّ مياه ذلك الجبل، وهي مياه عذبة يقترب طعمها من طعم نهر الفرات، تأتي اليه من مدينة البصرة. ثمّ تصحّرت أرجاء واسعة من الجزيرة وما جاورها، فانتقل قسم كبير من السكّان الى أهاليهم وأقاربهم في الأرجاء التي نجت من التصحّر، وكان ذلك الانتقال على شكل هجرات جماعيّة تعرف الهدف الذي تسعى اليه. ومعرفة ذلك الهدف دالّة على معرفة القوم منذ ذلك الوقت المبكّر من فجر الحضارات بالوجهة التي سيتّخذونها وصولاً الى حيث الماء الوفير وأرض السواد. ولا نشكّ في أنّ تلك المعرفة بالأماكن والمواضع والبقاع لم تكن إرثاً شفوياً بين الآباء والأبناء فحسب، بل لا بدّ أنّ هناك من دوّنها، بحيث أصبحت في ما بعد دليلاً لا غنى عنه لمن ظهر من المستكشفين. ويمكن أن نمعن النظر في مسألة الحج الى مكّة لدى المسلمين ومن سبقهم من أقوام منذ عهد إبراهيم الخليل، عليه السلام، لنتبيّن أن التوجّه الى مكّة المكرّمة يفترض أن الناس كانوا على علم بالطريق المؤدي اليها، والمنازل التي يجب عليهم أن يقطعوها. وليس من المعقول أن يؤمر الناس بالحجّ الى الكعبة المشرّفة وهم لا يعرفون الطريق اليها، كما انّه ليس من المعقول أن تكون للعرب قبل ظهور الاسلام رحلتا الشتاء والصيف الى اليمن وبلاد الشام من غير معرفة مسبقة بالطريق ومستلزماته، وليس من المعقول أبداً أنّ يتوجّه المسلمون الأوائل الى الحبشة لاجئين الى حاكمها النجاشي من غير أن يكونوا قد عبروا البحر اليها وعرفوا دينها وخلق حاكمها. ومثل هذا ما نراه في مسير الفتوحات الاسلاميّة، فكان الجيش يمضي الى بلد في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، وهو يعرف الى أين يسير. وقد تقول لي ان الجيش لم يكن كله يعرف الطريق، بل كان هناك أدلاء يرشدونه. وهذا صحيح، وهو يثبت ما نراه. فوجود الأدلاء مؤشر على ظهور فريق من الناس يأخذ نفسه بتعلّم الجغرافية التي لا تقتصر على معرفة البر ومواقع البلدان، بل لا بد من معرفة طبيعة الأرض التي سيمرّ فيها الجيش، وهل هي آمنة أم غير آمنة، وأنواع الحيوانات التي فيها، والأنواء والأجواء والأوقات التي تُقطع فيها المسافات. وكل هذه المعرفة لم تتولّد بين عشيّة وضحاها، فلا بد أن تكون ثمة آثار مكتوبة وأخرى منقولة شفاهاً من جيل الى جيل. كما انّ تلك المعارف التي على الدليل أن يعرفها تجعلنا في وضع أفضل لفهم أن العرب كانوا على اطّلاع بميادين الجغرافية المتعددة، من وصفية وبشرية واقتصاديّة، إضافة الى جغرافية الفضاء ذاته من مواقع النجوم وحالات الطقس وأوقات الشروق والزوال والغروب. فحين ظهر الاسلام أذكى في نفوس الناس ضرورة التوسّع في هذا العلم، سواء بطريق مباشر حين دعاهم الى طلب العلم ولو في الصين أم بطريق غير مباشر حين وضع لهم مواقيت العبادات من صلاة تعتمد على حركة الأرض تجاه الشمس لتحديد أوقاتها، والتوجّه نحو الكعبة المشرّفة، ومن صيام يعتمد على حركة الأرض تجاه القمر، ومن حج يعتمد - كما قلنا - على معرفة طبيعة الأرض بتضاريسها، ومن الزكاة والأعشار والخراج وغيرها مما يتعلّق بطبيعة الأرض نفسها وانتاجها من المحاصيل الزراعية والحيوانيّة، استيفاء للحقوق الشرعيّة التي فرضها الاسلام في الأموال. إن مطالعة ميسّرة لكتب البلدان في التراث العربي، مثل معجم البلدان 3 والمسالك والممالك 4 وغيرهما، تضع أمامنا معلومات نافعة عن دور العرب في الجغرافية منذ أن ظهرت حاجة الناس للتعرّف على الأرض، وانتهاء بحاجتهم للتعرف على الأنواء. ويجب أن نعترف انّ المؤلفات الجغرافية غير العربية، ومنها مؤلفات بطليموس، سبقت هذه المؤلفات العربيّة، ولكن هذا السبق لا يدلّ على الريادة، إلا في جانب واحد هو ما وصل الينا، فهل كتب العرب مؤلفات لم تصل الينا مما يسبق مؤلفات بطليموس، مثلاً؟ انها مسألة بحاجة الى مزيد من الجهد لمعرفة إجابتها. ومن المعلوم أنّ المعرفة شيء والتأليف فيها شيء آخر، فالتأليف لا يكفي لاثبات سبق طرف على آخر إلا في كونه تأليفاً، وكثيراً ما يكون التأليف نفسه مبنيّاً على معلومات أخرى استقاها المؤلف من غيره، كتاباً أو مشافهة. ويعترف أحد المؤرّخين الغربيين للحروب الصليبيّة، وهو بروتز Pruts، بأنّ ما كتبه العرب المسلمون في ميادين الجغرافية المختلفة بما فيها الكوزموغرافيا، وهي الأوصاف العامّة للكون بسمائه وأرضه وبحاره، يفضل بمراحل متعددة ما كتبه الغربيون. ثم يؤكد ذلك بقوله: "ويكفي، في هذا الشأن، تصفّح ما خلّفه المؤرّخون العرب، ومقارنة ذلك بأحسن ما أنتجه فن التاريخ في أوروبا، ليبدو للوهلة الأولى، وبدون تردد، أين يكمن الفهم والإحساس التاريخي والوعي السياسي والذوق في الشكل، والفنّ في العرض، ولم يكن في وسع الأوروبيين أن يقدموا مثالاً يفضل مؤلفات العرب" 5. وهو هنا لا يقصد التاريخ لوحده بل التاريخ والجغرافية معاً، كما يبدو من كتابه كله. أما ما ذهب اليه بعض الكتّاب العرب من أن الجغرافية العربية عيال على ما أنتجه السريان، فيكفي في الرد عليه ما قرّره لوند Lund من أنه من العسير القول بوجود مصنفات ذات أهمية في وصف البلدان والشعوب لدى السريان. ويؤيده كراتشكوفسكي بتعقيبه عليه: "وفي الواقع أنّ اللغة السريانيّة لم تحفظ لنا أي مصنّف كبير في الجغرافية" 6. ولم يقتصر ذلك على ما دونوه، بل أيضاً على ما تناقلوه شفهياً، مع الإقرار بوجود معلومات جغرافية لديهم استقوها من محيطهم الذي يعيشون فيه، من غير أن يبادروا هم الى استكشاف الآفاق وتنفيذ الرسوم والخارطات الجغرافية. وللتدليل على منزلة العرب في هذا الضرب من العلم، ابتكاراً وتطويراً، دعونا نعود قليلاً الى ما حدث في وقت متأخّر نسبياً، بين الملاحين العرب والمستكشفين الأوروبيين، بمن فيهم قادة الجيوش التي غزت الهند والخليج العربي منذ انطلاق الاستعمار البرتغالي. ففي القرنين التاسع والعاشر للهجرة، حين كان الملاحون العرب سادة البحار، ظهر ملاح عربي اسمه أحمد بن ماجد كان له الفضل الأكبر في تكوين الجغرافية الغربية الحديثة. فلقد حدث أن فاسكو دي غاما، المستكشف البرتغالي المعروف، تاه في رحلته التي أرادها غرباً، فاذا بها تحمله نحو الجنوب فالشرق، وهكذا، ومن دون أن يدري، دار حول رأس الرجاء الصالح، الى أن وصل في اليوم الخامس عشر من آذار مارس العام 1498 الى الساحل الجنوبي الشرقي لأفريقيا، وضاعت عليه الاتجاهات، فدلّه بعض أهل ذلك الساحل الى من وصفوه له بأنّه أعلم الناس بالبحر، فسعى فاسكو دي غاما اليه، وتعرّف عليه، وأوهمه أنّه تاجر يريد أن يصل الى بلاد الشرق للتجارة، فدلّه أحمد بن ماجد على أسلم الطرق البحريّة الآمنة المؤدية الى الهند، وكان الغربيون قبلها لا يعرفون تلك الطرق، فكانت جميع رحلاتهم السابقة تبوء بالفشل نظراً الى شدّة الأمواج في الطرق التي كانوا يسلكونها، إضافة الى عدم اتقانهم الاسترشاد بالنجوم والآلات والخارطات التي كان العرب قد عرفوها قبلهم بزمن طويل قد لا يُستطاع تحديده. لقد ذكر قطب الدين النهرواني في القرن العاشر للهجرة حكاية التقاء فاسكو دي غاما بأحمد بن ماجد، وروى كيف استطاع دي غاما أن يخدع ابن ماجد ويعرف منه الطريق الى الخليج وبحر العرب والهند. وكانت تلك الحكاية مثار اهتمام الدارسين الغربيين الذين أصبحت بلادهم بحاجة ماسّة الى علم الجغرافية بألوانه المتعددة، نظراً الى رغباتهم التوسّعيّة، في أول نشأة مرحلة الاستعمار. وتصاعد هذا الاهتمام بعد التعرّف على مؤلفات أمير البحر التركي علي ريس الذي كان قد أفاض في مقدمة كتابه عن رحلاته البحرية في الحديث عن بعض مؤلفات أحمد بن ماجد، بأسمائها وعناوينها. وهكذا بدأ اسم هذا البحار الذي ولد على شواطئ عُمان يشتهر في البحوث الأوروبية، غير أنّ الاستفادة المثلى من مؤلفاته تمّت بعد ذلك، حين تمكّن بعض الأوروبيين من العثور على الخارطات البحرية التي كان ابن ماجد قد رسمها. ثم اكتشف المستشرق رينو لأحمد بن ماجد مؤلفات أخرى كانت قد نُقلت أو قل نُهبت من الشرق ووضعت في المكتبة الأهليّة في باريس، أسوة بالكتب المنهوبة الأخرى الموجودة في شتى مكتبات العالم. ومن الجدير بالذكر أن الكثير من مؤلفات ابن ماجد لم يقيّض له أن يرى النور بعد. ولعلّ من طرائف الأمور أن ابن ماجد هو أول من استخدم البوصلة للاهتداء بها في الرحلات البحريّة، وله مواقع بحريّة ما زالت مسمّاة باسمه في شواطئ الهند وأفريقيا. وبمقدار كون هذا الأمر طريفاً، إلا أنّه ليس مستغرباً. فابن ماجد من عائلة بحريّة اشتغل أفرادها بقيادة السفن، وسبق لابيه ماجد ان وضع أرجوزة باسم "الارجوزة الحجازية" تضم الف بيت في وصف عالم الملاحة، وصحّح الابن أحمد تلك الأرجوزة بعد أن خاض غمرات البحار، ووجد أن أباه كان قد وَهَم في وصف بعضها. وترك ابن ماجد تراثاً ضخماً حيث أحصى بعض الدارسين مؤلفاته المخطوطة المبثوثة في مكتبات العالم بأكثر من خمسين مخطوطة، منها ما كتبه شعراً، وما كتبه نثراً، إضافة الى الرسوم والخارطات. وتقدّم لنا مخطوطته "كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد" تجاربه الغنيّة في البحار والمحيطات، نظرياً وعملياً، ويفيض الكتاب في الحديث عن الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي وأرخبيل جزر الهندالشرقيةوالبحر الأحمر. وفي حديثه عن البحر الأحمر، يشير ابن ماجد، وللمرة الاولى في ما نعلم، الى أن البحر الأحمر هو امتداد للبحر الأبيض المتوسط، وأنه أوطأ منه قليلاً، وأعمق منه. ويذكر أن الفاصل البرّيّ بينهما يمكن أن يُفتح ليلتقي البحران تسهيلاً للملاحة بدلاً من الدوران حول رأس الرجاء الصالح، الذي كانوا يسمّونه "جبال القُمْر". ولكنّ هذه الرؤية لم يأخذ بها أحد من الشرقيين، ربما لعدم حاجتهم اليها نظراً الى طموحاتهم المحدودة، ولكنّ الغربيين تلقّفوها، فكانت قناة السويس! * الأمين العام للمجمع العلمي للبحوث والدراسات/ لندن. الهوامش 1- مستشرق سوفياتي توفي في سنة 1951. 2- تاريخ الأدب الجغرافي العربي، كراتشكوفسكي 1/18. 3- معجم البلدان لياقوت الحموي. 4- المسالك والممالك للاصطخري. 5- الأدب الجغرافي، بروتز 53-54. 6- كراتشكوفسكي 1/22.