ربما يمكن اعتبار انهيار الاتحاد السوفياتي احد أبرز احداث القرن الماضي من ناحية تبعاته المختلفة، التي كان من بينها فقد الثقة لدى التيارات الفكرية اليسارية المختلفة وإعادة النظر في عدد من المسلمات. ويمكن المراقب ان يلاحظ هذا بوضوح بالاطلاع على الادبيات الصادرة عن مفكرين يساريين خلال العقد الماضي، اذ ان السؤال الأساسي الماثل امامهم اليوم هو: ماذا يعني اليسار اليوم في زمن العولمة وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي؟ ماذا يعني من ناحية فكرية ومن ناحية سياسية؟ ولا غرو ان كلمة "يسار" تحمل مدلولات مختلفة ومتعددة سواء من جانبها الفكري او السياسي. ولكن "الأزمة" طاولت مختلف التيارات اذ ان سؤالها الأساسي الآن يتعلق بكيفية الحفاظ على تواصل فكري بين "ما قبل" و"ما بعد"، وبهوية المشروع اليساري وعناصره كمشروع سياسي في هذه المرحلة التاريخية، وتحويله الى برنامج عمل سياسي قادر على تعبئة الجمهور. وعلى رغم اختلال الاشتراكيين واليساريين في العالم وتعدد الوجهات بينهم خصوصاً حيال الاتحاد السوفياتي و"الاشتراكية القائمة فعلاً"، الا ان وجود الاتحاد السوفياتي كدولة وفّر دعماً سياسياً مباشراً وضمنياً، ووفّر ايضاً دعماً فكرياً ومعنوياً، فقط بمحض وجوده كدولة، لمختلف تيارات اليسار في العالم، حتى تلك التي كانت مناهضة للاتحاد السوفياتي. فوجود دولة اشتراكية مجسدة على الأرض مهما قيل فيها من نقد يعطي "حقيقة" وحياة وتجسيداً لفكرة، حتى لو اعتبر انها شوهت بهذا التجسيد. ومن هنا الربط والعلاقة بين زوال الاتحاد السوفياتي، وتأثر الفكر اليساري بذلك وتضعضعه على نطاق شعبي. وعلى رغم ان الجانبين، اي الفكري من جهة والسياسي المباشر من جهة اخرى، منفصلان منطقياً ونظرياً، الا انهما مرتبطان نفسياً ومن ثم فكرياً عند الشخص العادي وربما عند المثقفين أيضاً، بدليل بحث اليسار بماهية اليسار، اليوم. ان هذا الخلط بين ماركس وتركته الفكرية من جهة، والاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية الحليفة من جهة اخرى، امر بيّن وواضح، الا ان الحرب الباردة وتفاعل الاتحاد السوفياتي معها اسهما في تعميم هذا اللبس على نطاق شعبي. إذ سعى الاتحاد السوفياتي الى الاستحواذ على تركة ماركس الفكرية بالاضافة الى اسهامات لينين وستالين على وجه الخصوص، فمن ثم ظهور "الماركسية اللينينية". من جانب آخر، وفي خضم الحرب الباردة، والدعاية، والدعاية المضادة، دخلت اطراف اخرى حلبة الصراع الفكري خصوصاً الولاياتالمتحدة وبعض حلفائها في الشرق والغرب. وسعى هذا التيار ايضاً الى عدم التمييز بين تركة ماركس والاتحاد السوفياتي. وربما من المفيد التذكير في هذا الصدد بأن مركز الماركسية كحركة فكرية وكمراس سياسي سابق لظهور الاتحاد السوفياتي تمحور حول عمل وفكر الحزب الديموقراطي الاجتماعي الألماني، وحتى اوائل العشرينات من القرن الحالي. وقد شكل ظهور الاتحاد السوفياتي انشقاقاً عميقاً في الماركسية كحركة فكرية وسياسية. وقد اسهم بروز الاتحاد السوفياتي على الصعيد العالمي في الفقدان النسبي للاهتمام بالتيار الماركسي الآخر، والذي شكل امتداداً للفكر الذي تمحور حول الحزب الديموقراطي الاجتماعي الألماني. وقد عرف هذا التيار لاحقاً بالماركسية الغربية. وتميزت الماركسية الغربية عن "الماركسية اللينينية" بتنوعها وتعددها والمرونة الفكرية التي تناولت فيها افكار ماركس، والنقد الشديد الذي وجهه بعض ابرز مفكريها الى النظام الشمولي في الاتحاد السوفياتي. في أي حال، تتعلق القضية الأساسية في هذا السياق برد الاعتبار لماركس وتركته الفكرية في عدد من جوانبها على الأقل، وإنقاذها من ركام انهيار النظم الاشتراكية. وهذا امر حاصل على نطاق ضيق بين كتاب اليسار في دول مختلفة من العالم، ولكنه متقوقع وأحياناً متخندق في مواقع دفاعية لا تتناسب مع اهمية فكر ماركس لعالم اليوم. وأشير هنا مباشرة الى "العولمة" كظاهرة محددة لها سمات فكرية واقتصادية وسياسية، من بين سمات أخرى، وادعائي الأساسي هنا هو انه لا يمكن فهم العولمة كظاهرة مركبة لها عدة عناصر من دون اطار نظري محدد، وانه لا يوجد اطار انسب لهذا الفهم سوى ما يوفره ماركس في اسهامه النظري الأساسي المتعلق بتحليل عناصر وآليات عمل النظام الرأسمالي كنظام اقتصادي وسياسي واجتماعي. وأضيف، ان هذا امر معروف لدى المهتمين بما في ذلك مفكرون اقتصاديون غير ماركسيين، ولكن لم يؤد ذلك الى رد الاعتبار لجوانب محددة على الأقل من فكر ماركس على نطاق اوسع ولم تسلم كتابات المفكرين العرب المعاصرين في الغالب من هذا النقص. ولإيضاح المقصود أشير الى الآتي: 1 - ان "العولمة" باستثناء المصطلح، ظاهرة ليست بجديدة، على رغم اننا بدأنا نشهد خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة مرحلة اخرى بدأت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن ثم فتح المجال لعولمة مختلف اقطار العالم. ويكمن انجاز ماركس في انه أول من رصد تاريخ تطور العولمة عبر قرون عدة وسعى الى تفسيرها من خلال اطار نظري محدد، متوقعاً ان تستمر في التطور بمعالم أساسية من بينها تلك التي نشهدها اليوم. وبهذا المعنى لا يكمن فهم عالم اليوم من دون اسهام ماركس، حتى لو اختلفت التفسيرات حول ما هو جديد في العولمة الجارية حالياً. واستذكر هنا فهمه النافذ لجوانب محددة من هذه الظاهرة كما يجيء في عباراته الشهيرة حول التوسع التدريجي للأسواق، الذي ادى بتحول التصنيع الى سوق عالمية، "وأدت السوق العالمية الى تطور التجارة والملاحة والمواصلات البرية بصورة هائلة"، وباستثمار السوق العالمية يُصبغ "الانتاج والاستهلاك في كل الاقطار بصبغة عالمية". ومكان "الانعزال المحلي والوطني السابق والاكتفاء الذاتي تقوم بين الأمم صلات شاملة وتصبح الأمم متعلقة ببعضها البعض في كل الميادين. وما يقال عن الانتاج المادي ينطبق ايضاً على "الانتاج الفكري". وأخيراً وليس آخراً، فإن زيادة الاستهلاك والطلب على المنتجات "بمثابة مدفعية ثقيلة تقتحم وتخرق كل ما هنالك من أسوار صينية". 2 - ليس كل ما في تركة ماركس الفكرية مناسباً او مقبولاً اليوم. فلا يوجد "حتمية" في التاريخ ولا توجد "قوانين". توجد فقط احتمالات ويوجد مجال لتدخل البشر. اما "المادية الجدلية" فمن المفضل نسيانها دون ان يترك ذلك اثراً سلبياً على التفسير المادي للتاريخ في صيغته المرنة، وغير الدوغماتية كإنجاز مهم بدأه ماركس. ومع وجود رأسمال وعمل مأجور يوجد صراع طبقي يتخذ اشكالاً مختلفة. ومع هذه الحقبة الجديدة من العولمة ينشأ السؤال عن المستقبل: آفاق الصراع، قضاياه، القوى المتصارعة. فمع عولمة رأس المال لكافة ارجاء المعمورة، هل سيتحول الصراع الى نطاق عالمي، هل ستؤدي "أممية رأس المال" الى "أممية القوى المناهضة لتبعاته"؟ هناك بوادر تشير الى هذا الاتجاه وإن كانت ما زالت جنينية، وأقصد الاحتجاجات والتظاهرات في سياتل في ولاية واشنطن وأخيراً في دافوس في سويسرا. والمشترك بين الحدثين هو تركيز الاحتجاج على تبعات الرأسمالية على نطاق عالمي وليس في بلد ما محدد بعينه. 3 - يتساءل بعض المفكرين والكتّاب العرب، بما في ذلك يساريون منهم، عما اذا كانت العولمة أياً كان تعريفها الدقيق قدراً كاسحاً لا مناص منه. والاجابة لديهم غير واضحة او غير اكيدة فمعالم المرحلة الحالية لا تزال ملتبسة. ولكن يرى البعض انه اذا كانت العولمة قدراً لا مفر منه، فإن هناك حدوداً "لأممية رأس المال" اي لتوسعه على نطاق عالمي، وحدوده هي حدود التوسع الممكن على سطح هذا الكوكب. ومن المتوقع ان ترافق هذا التوسع "هزات" مختلفة كما شاهدنا خلال الأعوام القليلة الماضية في آسيا، وتبعات للبشر وللبيئة ستؤدي الى تقوية الحركات المناهضة للعولمة او لنتائجها على نطاق عالمي أيضاً. وفي معرض الحديث عن التغيير، اولى ماركس اهمية خاصة للطبقة العاملة "أخص منتجات" رأس المال. ومن دون الانتقاص من اهمية هذا المدخل، يجب في عالم اليوم ان نسأل ايضاً عن ادوار لآخرين من "حركات اجتماعية" او "حركات احتجاجية" او حركات تقوم على قضايا محددة مثل البيئة او مصير الغابات او طبقة الاوزون او حركات المحرومين في "مدن الصفائح" في العواصم الكبرى في العالم. صحيح انه من منظور ماركس يصبح بعض هذه الحركات مرادفاً "للاشتراكيين الطوباويين" الذين انتقدهم نقداً صارماً في "البيان الشيوعي" لأنهم يكتفون بمناشدة مدمري البيئة مثلاً او الضغط عليهم بدلاً من العمل لتغيير نوع النظام الذي سيدفع باستمرار بهذا الاتجاه بهدف الربح. ولكن السؤال السياسي المتعلق بالتغيير في عالم اليوم سؤال أوسع من ان تقتصر اجابته فقط على تصور ماركس في عصره. ليس لأن الاجابات الآن سهلة بينة، ولكن لأن لكل مفكر مهما كان لامعاً وفذاً حدود تفرضها معطيات زمنه وعصره وبيئته الفكرية. * عميد الدراسات العليا وأستاذ فلسفة في جامعة بيرزيت - فلسطين.