الكتاب: "صمت البيان". الكاتبة: رجاء بن سلامة. الناشر: المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة. يندرج كتاب "صمت البيان" للباحثة التونسية رجاء بن سلامة في حقل الدراسات البلاغية العربية الحديثة، وهي دراسات غير تقليدية في مجال يبدو للكثيرين جد تقليدياً. إذ تحاول هذه الدراسات أن تقرأ الماضي البلاغي العربي من منظور جديد، ينطلق من الانفجار المعرفي الحادث منذ عقود في حقول اللغة، والعلامات، والبلاغة. لكن كتاب "صمت البيان" يختار لنفسه موقعاً دقيقاً وصعباً، إذ بدلاً من دراسة النطق والكلام والإفصاح يدرس الصمت والسكوت. في الثقافة العربية الإسلامية يأخذ الكون هيئة عالم من الأدلة التي تبين عن خالق هذا الكون الذي لم يخلق عبثاً، بل خلق لحكمة، يمكن لمن ينعم النظر في الاشياء من حوله ان يعقلها، فالحكمة الكامنة في الأشياء تقود الى الاعتقاد الذي يؤدي بدوره الى العبارة عنها، فنجد أنفسنا في عالم الكتابة. هذا معناه ان البيان فهم وإفهام ونشر للحكمة، مما يجعله كلاماً واستدلالاً في آن، والعلامة دليلاً وحجة، ومن ثم ينبغي أن تتمتع النصوص بالايضاح وتحقيق الفائدة والاعتدال. أين يقع الصمت في الفضاء، في هذه السيمائية الكلية المغلقة، التي تشير كل علامة أو قرينة فيها الى خالق الكون؟ البيان كلام ونور، ولكن العدم لا يعدو أن يكون ظلمة. فالصمت عدم إضافي، بيد أنه ليس مظلماً، فهو على رغم سلبيته ايجاب له وظائف ودلالات، ولذلك فهو شيء آخر غير العيّ والحبُسة، والهذيان والحظل، وهي جميعاً اسماء لدرجات وأنواع من الصمت السلبي، أي أنها أشكال من العجز والمرض، تصيب الانسان فتجعله غير قادر على الكلام والإفصاح. اما الصمت الايجابي فهو فضيلة وعبادة بنص القرآن الكريم "فقولي له إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً". وفي الحديث المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم "العبادة عشرة اجزاء، تسعة منها في الصمت"، ولذلك يحذر عبدالقاهر الجرجاني من "تبرج الدلالة" التي تقود الى الفتنة. يصبح الصمت فضيلة حين يأخذ صاحبه بعيداً عن الهذر والثرثرة ومضغ الأكاذيب. وتناول أعراض الناس، فالصمت مبدأ قصد وتعقل، ولذلك توصي الأخلاقية الدينية به، ف"لكل شيء دليل، ودليل العقل الفكر، ودليل الفكر الصمت"، كما يقول جعفر الصادق. كأننا هنا مع حنين للعودة الى عالم ينعدم فيه اللفظ، خوفاً من بهرج اللفظ وغوايته، وهو ما يشير، ربما الى إنعدام الخوف من الكتابة، التي تنفي الكلام الحي. والخوف من الكتابة هو الخصصة التي يعتقد جاك دريدا، انها لصيقة بالثقافة الغربية. فالمكتوب ظل، في ما المخاطب الحيوي الحي الصادر عن الانسان مكتف بنفسه، لا حاجة به الى معونة أحد. أما في الثقافة العربية فالأمر مختلف، لأن أول الآيات القرآنية تأمر بالقراءة، وتنسب فعل الكتابة الى الله الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم. وقد كان هذا الموقف أحد أهم الأسباب التي ساعدت على انتقال هذه الثقافة من مرحلة الشفاهة الى مرحلة الكتابة. وهكذا يتحول تفضيل الصمت في بعض المواقف الى هلع من سحر اللغة وغوايتها، وقدرتها على المخاتلة والخداع، والانفلات من قبضة المتكلم، فيصبح الكلام نميمة عن صاحبه، وفضحاً للعالم. وقد فضل بعض المنظرين للعشق النصبة على البيان باللفظ، لأن الخبر يحتمل الصدق والكذب، فيما تفترض النصبة وجود الدال والمدلول والمرجع معاً. ولأن اللغة تخلق مساحة بين المتكلم والمخاطب والذاكر والمذكور، فتحول دون فناء العاشق في المعشوق، دعا المتصوفة الى الصمت بل جعلوه مراتب ودرجات، ينتقل العارف عبرها من صمت اللسان الى صمت القلب الى صمت السر. ولكن تثمين المتصوفة للصمت له منطلقاته المعرفية المناقضة لمنطلقات المتكلمين، فصمت الصوفي لا يعني فقره بل فقر اللغة وتأبى الفيوض على الدخول الى بيتها الضيق. وصنف الجاحظ المعتزلي وسائل البيان الى اللفظ والخط والعقد والاشارة ثم اضاف اليها النصبة، وتعني الحال الدالة من دون لفظ، فهي صمت ناطق ومن ثم له معنى ودلالة. أي أنها مقابل البيان الذي يدل على عظمة الخالق باللفظ والاشارة الانسانية، ومن ثم، تختص بالحيوان الأبكم الصامت غير العاقل، فهي أقل في المنزلة من البيان. لكن رجاء بن سلامة تخالف الجاحظ في دونية النصبة، على أساس أنها تندرج تحت الرمز، ولكنه رمز من نوع خاص، لا تستعمل فيه الوسائط، ومجرد ظهورها دليل على الله. ومن الواضح أن العقل الاسلامي الذي يفرغ من الفوضى يجهد لخلق تصورات عقلية هي هذه السيمائية الكلية المغلقة. وترى المؤلفة أن النصبة أشبه شيء بما يطلق عليه الباحثون في علم العلامات مصطلح الأمارة symptome أو مصطلح قرينة indice وهي الأدلة يصدرها الباحث من غير قصد فهي تبعث من مصدر طبيعي او أشبه بما يدعوه جريماس الأدلة الطبيعية عندما دعا الى عدم الفصل بين الطبيعة والثقافة لأن الانسان يملأ الطبيعة بالمعنى ويخضعها لسلطته وقوالبه الذهنية والثقافية. لكن التصور الجاحظي يجعل الكون بأسره دالاً، مرسله هو الله ومستقبله هو الانسان، ومن ثم تقترب النصبة من العلامة المحولة كما يدعوها القديس أوغسطينوس، لكن الفارق بين منظومة الجاحظ ومنظومته. إن الجاحظ اهتم بقنوات الاتصال، فيما اهتم اوغسطينوس بالاشياء بوصفها علامات، فهناك الاشياء التي لا تدل إلا على نفسها، والرموز، والعلامات المحولة، والعلامات المحض وهي الاشياء التي لا تصلح إلا للدلالة على أشياء أخرى. منظومة الجاحظ الرمزية تحول كل شيء الى علامة وكل علامة مدلولها الأقصى هوالله وهو وحده ليس علامة على شيء آخر غير ذاته، الاسماء تحيل على المسميات والمسميات تحيل على الخالق الذي علم الاسماء. وهي طبعاً تخالف الأنظمة الميتافيزيقية التي ذكرها ايكو للتمثيل على السيمائية الكلية التي تجد مرجعها في النظرية الافلاطونية، حيث لا تعكس الاشياء الأرضية عالم المثل إلا مشوهة ومحرفة فهي علامات ناقصة تمثل انحطاطاً انطولوجياً لنماذج تامة. أما في النظام الاسلامي فإن حكمة الله تظهر في كل شيء، وتدل على أنه الواحد. لكن على رغم جهد الجاحظ في بناء رمزيته الكلية تلك إلا أن الشعور بالنقص لم يفارقه، ذلك لأن مفهوم البيان قد يكون حلاً لمشكل صمت العالم بعد انقطاع اتصال الارض بالسماء وإغلاق باب النبوة، وقد يكون وثيق الصلة بعقلانية المعتزلة، ولكن ثمة العقبات الناتجة عن منطلقات البناء الميتافزيقي، لأنه إذا كان الكون دليلاً على خالقه، فكيف يصيبه التحول ويشوبه النقص. وإذا كانت حكمة الله جلية للعيان، فلماذا يجب الكشف عنها، واذا كانت الاشياء تدل بذاتها فما امتياز المفكر والشاعر. ألسنا بهذا نحصر عمله في تفصيل المجمل، ووصف العجائب، لتتسق نتائجه مع مقدماته، وكيف يكون الأمر حين يدخل العالم في التحول والتغير بفعل التجربة البشرية؟ وتقرأ الكاتبة نصية لقصيدتين لابن خفاجة الأندلسي، لتحديد معنى النصبة، وما يعتور معناها من تحول، أولاهما قصيدة "في الاعتبار بالقمر" وثانيتهما قصيدة له تصف نصبة بشرية، مكونة من رأسين بشريين بقيا من جثتين لم تسترا ولم تكفنا ولم تواريا تحت التراب. وهي قراءة موجهة لفحص معنى النصبة وتحولها. ففي القصيدة الأولى تقتنص المفارقة بين ما قاله الشعر في تصدير القصيدة، من حيث أن القمر شيء منصوب ليدل على خالقه، وبين انفلات القصيدة من هذه الغائبة، حيث تكتب القصيدة الموت، موت الكائن البشري، وزواله، وتقارنه بغياب القمر، ثم عودته، مرة أخرى الى الحياة. في الثقافة العربية يصبح خطاب الذات مكوناً من ثنائية ضدية تتكون من البوح والكتمان. فالعشق سر وهو يقتضي الظهور والتجلي، والعاشق يتعرض للمعشوق الذي هو موضوع العشق، ليحصل على اعترافه. في هذا يصبح افشاء سر الحب والبوح باسم المحبوب فراراً من الهباء والتبدد، لأن الكائن ينطوي على مبدأين متناقضين: الانغلاق والانفتاح. وأباح منظرو ايديولوجيا الحب العذري للعاشق أن يبوح حين يغلبه الشوق، ويصبح الكتمان محالاً، في هذا السياق ترفض رجاء بن سلامة ما اتهم به شعر عمر بن أبي ربيعة من إباحية، وترى فيه مجرد نمط من البوح جاوز الحد الى الثرثرة، وامتهان الحبيبة بالإيغال في النظر والوصف. واذا كان شعراء الحب العذري احاطوا المرأة المعشوقة بالحب، فتحول الكتمان الى وجهة جمالية، فقد عرض شعر عمر هذه العفة الى الخطر، وخرق تقاليد شعر الغزل. وهو المسار الذي يعمقه الشعراء المحدثون في القرنين الثاني والثالث الهجريين بشار وسلم الخاسر ومطيع بن إياس، ثم الحسن بن هانئ. وتتوقف الكاتبة أمام أشعار النساء، فالمرأة هي الصامت التاريخي، التي كان عليها أن تتخلى عن أنوثتها لتحصل على الفحولة الشعرية، كما حدث مع الخنساء البكاءة المعتزلة، وفي هذا يتوزع كلام النساء بين الرثاء والغزل لأنهما من أكثر أغراض الشعر تعبيراً عن الذات. ولعل ذلك يفسر لنا خوف الثقافة العربية من هذا الشعر الأنثوي، فالأنثى تفتن الناس. كما أن المرأة اذا كانت معشوقة أحيطت بالسر وأعلى من شأنها، واذا كانت عاشقة صارت محلاً للريب، أي أن العاشقة تغرق في الواقعي، على رغم أنها تريد الارتفاع عنه بالشعر. وهكذا يكشف شعر الرثاء والغزل عن سلبية المرأة، التي تستمد من الموت ومن سلبيتها القدرة على إنهاء ولادة الرجل وإيصاله الى نهايته، وتهيئة الخاتمة له، وذلك حين تكون بكاءة حادة. أما حين تكون عاشقة، فلا يعترف بها بأنها شاعرة، بل تختزل في كونها زوجاً أو أختاً. وتلتقط الكاتبة فكرة بالغة الرهافة حين تتنبه الى أن باب الشعر ينفتح بالغياب، فالرجل ينشد الأشعار في المرأة الغائبة، والمرأة تنشد في الرجل الميت، ولذا تنقلب المواقع والأدوار كثيراً، فقد يغادر الرجل موقع الشاعر الرسمي، المداح، الهجاء... فيحقق الشعر. كأن تبرز البكاءة المنفية داخل الرجل فيحدّ من شعره ويبكي. وهذا يعني أن في كليهما يوجد الآخر، كلاهما طريد المدن الفاضلة، وكلاهما ينقصه العقل والدين فيزداد حرية ويصبح أقدر على تجسيد الخسران الانساني. لكن الكاتبة هنا تضع يدها على الفكرة، وتمضي من دون ان تتوقف طويلاً لديها. وإن تذهب الكاتبة بعيداً في فضاء الثقافة العربية لتجمع المزق والغثارات كما يفعل المنقب عن بقايا آثار تختفي تحت الركام والتراب، ولكي نعثر عليها ونجلو عنها الغبار والنسيان، ونجعلها تتألق بالمعنى، لا بد أن نتحلى بالصبر وموهبة التأويل. ولأن الكاتبة تحرص على ألا تشيء النصوص القديمة، أو تبسطها أو تؤطرها، تقدم قراءة ذات طابع أخلاقي تدعوه بالحياء المعرفي، فالناقد لا يهدف الى هتك حجب النصوص، لأن معرفته مشروطة بحدود المعرفة، والنصوص ذوات تفعل في قارئها كما يفعل فيها، ومن ثم تنطوي فصول الكتاب على حس بمشكل أخلاقية القراءة. ولا يعني هذا طبعاً أن المؤلفة تعمل على موضوع الوعي المعرفي بأخلاقيات القراءة، على النحو الذي يهدف إليه غي هيليس ميلر في كتابه الرائد "أخلاقيات القراءة" انما نحن مع مسار منهجي يعي عوائق القراءة، وقراءة النصوص القديمة على وجه الخصوص، وأتصور أن قراءة خطاب رجاء بن سلامة يمكن القارئ من أن يكشف عن النسق الاخلاقي الحاكم لخطابها. وهو نسق ينتصر للعفة والكتمان ويفرق من البوح والهذيان والجنون. هذه الرغبة في الصمت، لعلها المسؤولة عن لغة الخطاب، وهي لغة تميل الى الإيجاز، حتى لتبدو مصمتة، شحيحة، مع صلابة تجهد لإخفاء الذات. وعلى رغم حنكة الكاتبة في قراءة الخطاب البلاغي القديم، وبراعتها في رفد قراءتها بالفكر الحديث وما بعده، إلا أن مسارعتها الى تحويل النصوص الشعرية والسردية الى مفهومات، يهدد هذه الحنكة. مع ذلك ينبغي أن يعترف المرءُ أنه مرت عليه سنوات تقرب من العقد، لم يقرأ فيها كتاباً في البلاغة العربية بمثل هذا العمق والثراء.