كان الموت نزيلاً مقيماً في بيت التشكيليين المصريين خلال الاسابيع الأخيرة من القرن الفائت، فألقى ظلاً ثقيلاً على هذا البيت مع دخوله الألفية الثالثة، فقد اختطف على التوالي أربعة من كبار الرسامين، بدءاً من عبدالرحمن النشار، ثم مصطفى أحمد، وتلاهما ماهر رائف، وأخيراً منير كنعان، ولكل منهم بصمة مميزة على التشكيل المصري خلال النصف الأخير من القرن المنصرم، ساهمت في تحديث اللوحة المعاصرة برؤى مبتكرة. الأولان هما الأصغر سناً، ولم يمنعهما المرض من المشاركة في أنشطة الحركة الفنية حتى قبيل رحيلهما بقليل، إلى حد أن النشار كان منشغلاً بإنشاء متحف لأعماله، وأن مصطفى تقدم بأعمال جديدة إلى مسابقة الخريف للقطع الصغيرة، وفاز عنها بعد رحيله بجائزة! وكالعادة نتذكر بعد رحيل أحد الرموز المهمة أنه لم ينل ما يستحقه من التكريم والاهتمام، وهو ما ينطبق على الاسماء الأربعة، وربما كان أفضلهم حظاً منير كنعان، الذي كرمته الدولة قبل عام من رحيله بجائزة تقديرية بعد أن شارف عامه السبعين. عبدالرحمن النشار كان النشار استاذاً في كلية التربية الفنية، وتخرجت على يديه أجيال منذ الستينات. حفر مساره في خضم متغيرات الحركة الفنية المصرية، فيما هي تتحرر من سيطرة الاتجاهات الأكاديمية والتشخيصية، وراح يبحث عن هوية خاصة وسط الهرولة المحمومة خلف فتات موائد الحداثة وما بعد الحداثة في الفن الغربي الحديث. وقد كان مسعاه ثابتاً ومتواصلاً في دأب، نحو تأسيس جمالية عربية، تجمع بين الشكل العضوي والشكل الهندسي، وكان ينظر بإحدى عينيه نحو التراث الإسلامي، يستلهم منه طاقة روحية متجددة، تتجاوز أبعاد المادة إلى آفاق صوفية، وتحفل في الوقت ذاته بالزخرف الهندسي في جماليات الفنون العربية، وتربط هذا وذاك بتكوينات عضوية أشبه بشرائح مجهرية من أجسام حية، فيما ينظر بعينه الأخرى إلى نتائج اجتهادات مدارس التجريد الغربي، وخاصة تلك التي استلهمت فنون الشرق في بدايات وأواسط القرن العشرين، من كاندينسكي وموندريان، إلى ماتيس وبول كلي، وانتهاء بفازاريللي. واستطاع بتحليله وهضمه لكل تلك الروافد أن يحقق إبهاراً على مستوى الرؤية البصرية، وأن يثير اسئلة كبيرة في المشاهد نفسها، عن الحياة والوجود وما فوق المحسوس. والنشار من مواليد القاهرة عام 1932، وتخرج في كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام 1956، وحصل على دبلوم أكاديمية الفنون الجميلة في بودابست عام 1970، ونال دكتوراه الفلسفة في التربية الفنية من جامعة حلوان عام 1978، وكان الضلع الرابع لمربع "جماعة المحور" في القاهرة عام 1980 مع أضلاعها الثلاثة الآخرين: أحمد نوار، مصطفى عبدالمعطي، فرغلي عبدالحفيظ، التي وضعت البذرة الاولى لاتجاه "العمل المركب" في حركة الفن المصري الحديث، وألغت الحدود والفواصل بين أنواع التشكيل مثل التصوير والتجسيم والتجهيزات المعمارية في الفراغ، وجمعت بينها جميعاً في عمل يتخطى الوظائف التقليدية للوحة والتمثال، إلى مجال آخر يرتبط فيه العمل الفني بالحيز الفراغي في وحدة عضوية. ولا تقتصر هذه الوحدة على أنواع التكوين بتقنياتها المختلفة فحسب، بل اشترك أعضاء الجماعة - في كل معرض أقاموه - في عمل فني واحد، من دون أن تذوب ملامح كل منهم في الآخرين. وعندما انفصمت عرى الجماعة بعد أعوام قليلة، كان النشار قد أسس منظومته الجمالية المستقلة، وكان تأثير فكر الجماعة عليه متمثلاً في كسره الحاجز بين المسطح والمجسم في بناء اللوحة، وإضافة خامات غير مألوفة إلى تشكيلها، فيما تبرز بعناصر مثيرة بصرياً خارج السطح، مثل مكعبات الخشب وقطع المرايا، مستفيداً من شكل المربع الهندسي، وقد اصبح الإطار المفضل للوحاته، في توليد متواليات لا نهائية من المربعات، المقسمة بدورها إلى مثلثات متناهية الصغر، تخلق بتكرارها وتوالدها الفسيفسائي دندنات متراتبة ومتقابلة، تشبه تقاسيم اللحن الشرقي على العود أو القانون، وبقدر ما تحقق من تطريب نغمي - على الطريقة العربية - تسمو إلى مدارج صوفية، أشبه بالذكر والتسبيح لله الواحد الأحد، يتطلع الفنان من خلالها إلى إدراك معنى امتلاء الوجود بذات الله التي ليس لها أول ولا آخر، وبقدر ما يسكن الله ذلك الوجود الممتد، فإنه يسكن كل جزئية فيه. مصطفى أحمد عاش مصطفى أحمد ومات متوحداً نائياً عن الاندماج في شؤون ابناء المهنة وصراعاتهم، مكتفياً ببحثه الفني الذي انعكس فيه أثر هذه العزلة، وإن يكن قد تسامى به إلى رؤى درامية وميتافيزيقية. وانعكس زهده الحياتي في بنائه الفني، فكانت لوحته مقتصدة في ألوانها وعناصر تكوينها، لكن بما يكفي لأن تضعنا - دفعة واحدة - أمام سؤال الوجود الإنساني، مشدوهين بغموضه ومأسورين بلغزه. لذلك تفرد عالمه ولفت بقوة اهتمام النقاد المصريين والأجانب مع أول معرض للفنانين المتفرغين يشارك فيه عام 1966. ولد مصطفى أحمد عام 1930، وتخرج في كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام 1954، وكان ترتيبه الأول على دفعته، واشتغل مدرساً للتربية الفنية في المعاهد الأزهرية، غير أنه لم يركن إلى خمول الوظيفة، ودفعه طموحه إلى المشاركة في المعارض والمسابقات التي كانت تقيمها الدولة أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، وفاز في بعضها بجوائز مهمة. بيد أن جائزته الكبرى كانت منحة التفرغ للفن التي منحتها الدولة له عام 1965 ضمن كوكبة من كبار الفنانين، وهي أنقذته من ربقة الوظيفة أعواماً عدة، أنجز خلالها أبرز ملامح مشروعه الفني، من خلال موضوع محدد هو "الرحيل عن النوبة" بعد تهجير أهلها من ديارهم قبل أن تغرقها بحيرة السد العالي، وكان ذلك الحدث منبع إلهام للكثير من الفنانين آنذاك 1964 - 1966، في حين انشغل معظمهم بجماليات العمارة النوبية، وبالطابع الفلكلوري للبيئة المحيطة. وكان مصطفى أحمد منشغلاً بلحظة الاختيار المصيرية للإنسان، أمام أمر قدري لا راد له بالرحيل والاقتلاع من الجذور، تلك اللحظة التاريخية التي تضمر فجيعة - غير مسموح بالبوح عنها - أمام مصلحة أكبر للوطن الأم. أما ملامح رؤيته الفنية لهذا الحدث - والتي تبلورت خلال أربعين لوحة زيتية عرضها في معرض المتفرغين الذي جذب إليه أنظار النقاد عام 1966 - فتتلخص في اختزال المشخصات الإنسانية إلى مستطيلات ساكنة كجذوع أشجار مبتورة أو كتل أحجار مدكوكة، تمثل نسوة تصطف في مواجهة خط الأفق الذي يقسم اللوحة إلى قسمين، متطلعات إلى كوكب غامض متفحم لا يشع ضوءاً، وهن في تجمُّعهن لا يشكلن جماعة، بل يظل لكل منهن توحده المستقل ككائن أسطوري، يغلفهن الخوف والغربة والتطيُّر، فيما يضعن أيديهن على رؤوسهن في انتظار حدث كوني. وقد ساعد على إعطاء عالم الفنان بُعداً ميتافيزيقيا يتجاوز الزمان والمكان: عدم اكتساب شخصياته أية ملامح في الوجوه أو الأزياء، وعدم إحاطتها، بأية عناصر تشي بجنسيتها أو مكانها، وإن كانت أقرب إلى حاملات القرابين أو المنشدات في الكورس اليوناني القديم، تردده الدعاء للآلهة، مسربلات بأردية بيضاء فضفاضة، تجعلها كأنما تنبثق من الظلام المحيط بها كالأشباح! وحتى يكتمل للفنان بعده الرمزي المفارق للواقع، اختزل ألوانه إلى حد الدرجات الترابية والجبلية، وعالج سطح اللوحة بعجائن السكين والتجريحات، مضيفاً إليه ضراوة الطبيعة البدائية، ما جعل الاشخاص جزءاً عضوياً من كوكب صخري. وقد ظلت هذه الملامح الأسلوبية والتعبيرية تلازم الفنان مصطفى أحمد طوال مشواره الفني بتنويعات قليلة، وحتى عندما رقت موضوعاته وازداد اقتراباً من المنظر الطبيعي، امتلأت لوحاته بالجدران الشاهقة التي تسد أمام الإنسان الطريق إلى البحر أو إلى شاطئ النيل، فيما يتهادى في نهاية المشهد شراع أبيض كقارب على صفحة الماء، يسري في حلم غامض بعيد المنال! ماهر رائف عندما يؤرخ لجيل الوسط في الحركة الفنية المصرية، فلا بد أن يذكر اسم ماهر رائف ولد عام 1936، فهو أحد فرسان "جماعة الفن المصري المعاصر"، التي تشكلت عام 1946 من حامد ندا وعبدالهادي الجزار وسمير رافع وابراهيم مسعودة وآخرين، بتوجيه ورعاية من الفنان حسين يوسف أمين استاذهم في المدرسة الثانوية، وصنعوا نقطة تحول فارقة في حركة الحداثة الطليعية التي قادتها قبلهم بست سنوات جماعة "الفن والحرية" وعلى رأسها رمسيس يونان، بتوجهها المطلق نحو الفن الأوروبي خلال الحرب العالمية الثانية، وبنقدها اللاذع للمؤسسة الرأسمالية السياسية والعسكرية التي صنعت الحروب والدمار، لكنها لم تبالِ ظروف المجتمع الذي ظهرت فيه، وبالسمات الثقافية والذوقية لديه، فانعزلت كحركة نخبوية متمردة على المؤسسة الحاكمة، وعلى الفكر الرسمي، ومتعالية - في ذات الوقت - على الثقافة الشعبية، وإن تحدثت باسم الشعب معظم الأوقات. أما جماعة الفن المصري المعاصر فكانت استمراراً لنهج الحداثة من منطلق محلي صميم. لقد أخذ اصحابها من "الفن والحرية" تمردها على الأكاديمية، ومنها إلى الحداثة الغربية، لكن من منطلق "الموضوع الشعبي"، حيث سعوا إلى أن ينفذوا إلى ما وراء الظواهر الخارجية للحياة وأنماط السلوك، وأن يرجعوها إلى مخزون العقل الباطن الجمعي وليس الفردي كما فعل فرسان الفن والحرية، لذا اقتربوا من عالم المعتقدات والاساطير الشعبية والرؤى الغيبية المتأصلة فيها، ما قرن عالمهم بالمدرسة السريالية. وقد حفلت لوحات ماهر رائف في تلك السن المبكرة - أواخر الاربعينات - بصور الحياة البدائية والرؤى السريالية للوجود، من خلال المعتقد الشعبي ورموزه السحرية، أو من خلال مشاهد الطبيعة في البحر وحياة الصيادين. وكان طبيعياً أن نرى أوجه شبه غير قليلة بينه وبين زملائه في الجماعة، ممن تأثروا بفكر استاذهم الذي يزاوج بين البحث في الموروث والتمرد عليه. ولكن بقيت لرائف خصوصية متمثلة في اتساع أفق الرؤية لديه خارج الذات الجمعية إلى رحابة الكون. وعلى عكس زملائه ندا والجزار ورافع - الذين نضجت رؤاهم الفنية وتطورت في اتجاه فكر الجماعة نفسها - مركزين على الجانب الحسي في الإنسان والطبيعة، فإن رائف انقلب انقلاباً نهائياً لا رجعة فيه على فكر الجماعة واسلوبها، بعد اعتناقه الاصولية الاسلامية ودعوته الى تحريم التشخيص في الفن. ولم تكن أمامه إلا حروف الخط العربي يمارس من خلالها إبداعه الفني. وقد ساعده تخصصه في الغرافيك على إشباع قناعته بهذا التحول، بما تحققه تقنيات الطباعة اليدوية من تنوع وثراء جمالي. غير أن المشكلة كانت في رفضه القناعات الجمالية المغايرة، ما وضعه في عزلة عن الحركة التشكيلية، حتى سافر إلى الولاياتالمتحدة الأميركية ليقضي سنواته الأخيرة إلى جانب ابنه. وقد وافاه الأجل هناك ودفن بعيداً عن وطنه. ولكن تبقى له مكانته الريادية في تاريخ النهضة التشكيلية المعاصرة في مصر، ولو كره ذلك! منير كنعان كان منير كنعان المولود عام 1929 صاحب موهبة استثنائية في الرسم الواقعي، حتى إن رسومه الصحافية منذ الاربعينات في صحف او مجلات دار الهلال وأخبار اليوم المستوحاة من الاماكن الشعبية في الشوارع وغيرها كانت تفَّضل على الصور الفوتوغرافية. وعلى الرغم من أن له أعمالاً مبكرة انطباعية وتعبيرية، كانت تؤهله لمكانة متميزة في هذا الاتجاه، فقد اختار طريق التجريد البحت، بل تجاوزه إلى فن الكولاج، أو "قص ولصق" مجتزآت من صور ومواد رخيصة، واستخدام نفايات التغليف والروبابيكيا لعمل تكوينات لا تشكل موضوعاً أو فكرة رمزية، بل تبقى شكلاً بحتاً هو غاية ذاته، شكلاً يضمر جماله الخاص ويكسر منظومة القيم الجمالية المستقرة ويستفز المشاهد مثيراً للدهشة والتساؤل.. وهكذا قرر الاستغناء عن فرشاة الرسام ولوح الألوان ومسند الرسم، واستعاض عنها بقطع الخيش والخشب وسيور الجلد وجدائل الخوض وصناديق الكرتون من بقايا تغليف البضائع بما تحمله من حروف مطبوعة. ولو كان ذلك قد حدث في السنوات الأخيرة من القرن الفائت لما أثار ما أثاره، بعد أن أصبح اسلوباً شائعا. لكن الغريب حقاً أن يحدث ذلك أوائل الستينات، في ذروة هيمنة الفن الموضوعي والتشخيصي، وسيطرة الاتجاه المحافظ على كل المؤسسات الفنية، إلا أن العودة إلي بداياته تفسر هذه النزعة المتطرفة لديه، فقد ارتبط مبكراً بالفكر التشكيلي الجديد لجماعة الفن والحرية في الاربعينات، من دون أن يرتبط بفكرها السياسي الثوري، وشارك في معارضها حتى الخمسينات، ومنذ ذلك الحين أعطى ظهره تماما للواقعية، ولكل المدارس التشخيصية إلا في أعماله الصحافية التي تمثل مصدر رزقه. ولعله أول فنان مصري يستخدم الكولاج، وربما كان مبهوراً بأعمال جماعة "الدادئية" التي ظهرت في أوروبا عقب الحرب العالمية الأولى، متخذة هذا الاسلوب للسخرية من البرجوازية، وقيم النظام الرأسمالي. وتوالت معارضه ومشاركاته في مصر والعالم من دون أن يفقد الإيمان باختياره أو أن يتردد في الاستمرار فيه، على رغم الاستهجان الذي قوبل به والتجاهل الرسمي له عشرات السنين، إلى أن حظي في السنوات الأخيرة ببعض الاعتراف والتكريم. فمثل مصر في بيناليهات دولية عدة، وحصل على الجائزة الأولى في بينالي القاهرة الدولي الأول 1984، وأخيراً كرم بجائزة الدولة التقديرية 1999. وسواء اتفقنا أم اختلفنا مع تجربة كنعان، فإن الحكم على بقائها واستمرار أثرها متروك للزمن. لكن المؤكد هو أن تجربة كنعان نبعت من أصالة صاحبها وصدقه، وليس من كتالوغات المعارض والمتاحف الأجنبية، كما يفعل كثير من مدّعي الحداثة! * فنان تشكيلي وناقد مصري.