صدرت - أخيراً - الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر محمد عفيفي مطر، عن دار الشروق في مصر، لتُوَاجَه بصمتٍ نقديِّ غريب. ثم فاز مطر بجائزة العويس للشعر عن عام 1999، ليُواجه هذا الفوز، كذلك، بصمتٍ نقديٍّ غريب. هنا سنحاول كسر هذا الصمت - الذي يكاد يكون متعمداً - بإطلالة سريعة على هذا الشاعر الذي قدّم للحركة الشعرية العربية المعاصرة انجازاً من أهم انجازاتها المبدعة. محمد عفيفي مطر واحد من شعراء جيل ما بعد الريادة في الشعر العربي في مصر، وهو الجيل الذي يُسمى "جيل الستينات". وقد زامله في الصف الشعراء: أمل دنقل ومحمد ابراهيم أبو سنة وفاروق شوشة. لكن مطر ودنقل تميزا بين كل المجايلين تميزاًَ واضحاً. وأذكر أنني كتبتُ - قبل سنوات - ما معناه أن جيل الستينات جسّد نفسه في ثلاثة شعراء ذوي مدارس مختلفة: دنقل يصدر عن اتجاه الالتزام المبشر بالقضايا السياسية والاجتماعية في تحريض ساخن ملحوظ. وأبو سنة يصدر عن الاتجاه الرومانسي - في العاطفة الوطنية ايضاً - مصبوغاً بصبغة إنسانية واضحة. ومطر يصدر عن الاتجاه التركيبي التجريبي الذي يجترح آفاقاً فنية غير مألوفة. ولعل ذلك النزوع التركيبي التجريبي عند مطر كان سبباً في أن يتهمه كثير من النقاد والمثقفين والسياسيين بالإغراق في الشكلية والغموض، والابتعاد عن قضايا الشعب وهموم الوطن ومعاناة الفقراء. وقد ساعد على شيوع هذه التهمة على ألسنة الكثيرين أن فترة الستينات وأول السبعينات - التي ظهر فيها مطر - كانت فترة ازدهار مذهب "الواقعية الاشتراكية" في صورتها الحديدية الضيقة التي طالبت المبدعين بتحريض الجماهير على الثورة، وتصوير الصراع الطبقي، والتأكيد على الفجر القادم والمستقبل المشرق. ولم تشفع مقالات غالي شكري وصبري حافظ - حينذاك - في توضيح الأبعاد الفكرية والاجتماعية التي تنطوي عليها التشكيلات الجمالية والتراكيب الفنية عند مطر، بما يُخرجه من خانة "المغضوب عليهم" ويدخله إلى خانة "المعترف بهم" عند النقاد والسياسيين اليساريين الذين يملكون صكوك النيابة عن قوى الشعب العامل. مع أن شاعرنا كان وقتذاك يصرخ: "بيني وبين الجدارْ / أبخرةُ الزنزانةْ / وفي فروع النهارْ / تفاحةٌ عريانةْ / وفي طريق الفرارْ / رصاصة أو خيانةْ". والحق أن جيلي - الذي يُسمى جيل السبعينات - عاش علاقة معقدة طويلة مع عفيفي مطر، اختلط فيها الامتنان بالنكران، والاعتراف بالأبوة والفضل بالتمرد على الأب وقتله، والمودة بالجفاء. والواقع أن معظم شعراء السبعينات - وأنا منهم - يعتبرون مطر أحد آباء حداثتهم الشعرية. وكثير من متابعي الحركة الأدبية المصرية يقرّون صلة الأبوة والبنوة التي تربط بين عفيفي وجيل الحداثة المعاصرة، حتى أن الناقدة العراقية المقيمة بمصر، فريال غزول، حينما أصدرت عدداً خاصاً من مجلة "ألف" عن جيل السبعينات، قبل سنوات قليلة، أهدت العدد إلى مطر، كإشارة إلى تلك الصلة الحميمة. وأذكر أن إعجابنا بمطر عبّر عن نفسه مبكراً، حينما أعددنا ملفاً كاملاً عنه عام 1974 في مجلة "الشباب" احتفالاًَ ببلوغه عامه الأربعين! وحينما كتب رفعت سلام دراسة مطولة عنه، في العدد الثاني من مجلتنا المستقلة "إضاءة 77" عدا القصائد التي أُهديت إليه من علي قنديل وجمال القصاص ومحمد سليمان. وكذلك كان عفيفي مطر حدباً على تجربتنا الشابة، وقد تجلى ذلك من خلال احتضانه بعض أصواتنا الجديدة أثناء إصداره مجلة "سنابل"، التي رعتها محافظة كفر الشيخ، ولم تستمر أكثر من عامين، إذ سارعت السلطات الى إغلاقها بعد أن نشرت قصيدة أمل دنقل الشهيرة "الكعكة الحجرية"، التي تحيّي انتفاضة الطلاب المصريين واعتصامهم في ميدان التحرير، قبل حرب تشرين الأول أكتوبر 1973. وتجلى ذلك الحدبُ ايضاً من خلال المقدمة الكبيرة التي كتبها مطر لديوان علي قنديل - وكان أحد تلاميذه المباشرين - الذي صدر بُعيد رحيله المأساوي عام 1975 بعنوان "كائنات علي قنديل الطالعة". على أن تبلور تجربة بعض شعراء السبعينات وتميز بعض الأصوات المستقلة فيهم، دفعا نفراًَ منهم في لحظة من لحظات هوس التمرد على الأب الى التنكر لدور مطر وجحد دوره الحق، وهو النكران الذي تضافر مع جحود الحياة الأدبية ليساهم في الحالة التي اسميها: "عزل مطر". وكان لا بد أن تجري مياه كثيرة، وأن تمر أربعة عقود كاملة حتى تلوح في الأفق الثقافي بوادر انفراج "عزل مطر". كان لا بد أن ينهزم الجانب الحديدي من نظرية "الواقعية الاشتراكية"، تحت تأثير عوامل عدة: منها انهيار المعسكر الاشتراكي، وتراجع حركة التحرر العربية ونظريتها في "الالتزام الأدبي". ومنها التطور الفلسفي الذي أصاب النظرية النقدية في العالم كله، وألقى بظله على بعض نقاد الالتزام العرب بخاصة، وعلى الحركة النقدية العربية في مصر بعامة، وقد نتج عنه إعادة نظر في تجربة مطر وغيره من شعراء الحداثة. وهذا ما فعله نقاد تقدميون مثل محمود أمين العالم وابراهيم فتحي وعبدالمنعم تليمة وغيرهم. وقد ساعد على ذلك ظهور حداثة السبعينات التي جعلت مطر رأساً لسهم واضح، أو موجة كبيرة في نهر متدفق، بحيث لم تعد تجربته - بالنسبة للسياق المصري - نبتة غريبة في الحقل. ومنها مرور عفيفي مطر بتجارب حياتية تراجيدية لفتت الانتباه إلى مواقفه الفكرية والسياسية التي لا بد أن تكون لها تجليات في عمله الشعري. أبرز هذه التجارب كان اعتقاله إبان غزو العراق للكويت 1991، بضعة شهور تعرض خلالها للتعذيب بالكهرباء تعذيباً ترك أثراً باقياً على أنفه حتى الآن، وعلى شعره. وقد عبّر عن هذه المحنة التراجيدية في ديوان هو أكثر دواوينه سخونة وعنوانه "احتفاليات المومياء المتوحشة" 1995، "حيث كما يقول، مستحدثُ التعذيب بالكيمياء يكشطُ من ظلامك طينة للخلق فالملكوتُ يسطعُ، والحشودُ المبهماتُ، وأنهرُ الدم، والملوكُ، على الآرائك يتكي الجلادُ منتظراًَ سقوط الصقر محترقاً بجائش حلمه، لما يزل وهمُ البلاد هو البلاد". وكان لا بد أن تدرك المؤسسات الثقافية الرسمية قدره، فتحاول أن تعتذر له - سواء عن الإهمال الطويل او الاعتقال - بصور شتى: منحه جائزة الدولة التشجيعية من غير أن يتقدم لها 1990، وإن كانت متأخرة، تعيينه في لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة يمتنع عن الحضور، تكريمه في المجلس نفسه، قبل عامين، لبلوغه الستين. وكان لا بد أن تخفت - مع الوقت والنضج - نعرة إنكار الأب عند شعراء حداثة السبعينات، ليجدوا أن مطر جذرٌ لهم وهم شجرةٌ له. وفي تصفح ألف وخمسمائة صفحة من الشعر، وهي مجموع صفحات "الأعمال الشعرية" لمطر في ثلاثة أجزاء يتضح لنا ما يلي: 1 - عبر أربعين عاماً من الانتاج الشعري قدم عفيفي مطر المجموعات الشعرية التالية، بالترتيب: مجمرة البدايات، الجوع والقمر، دفتر الصمت، ملامح من الوجه الأنبادوقليسي، رسوم على قشرة الليل، كتاب الأرض والدم، شهادة البكاء في زمن الضحك، النهر يلبس الأقنعة، رباعية الفرح، أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت، فاصلة ايقاعات النمل، احتفاليات المومياء المتوحشة. 2 - يُلاحظ أن مطر كان من أوائل السبّاقين في حركة الشعر الحر في تقديم تقنيات فنية تشكيلية وطبوغرافية جديدة: مثل وضع بعض المقاطع داخل مربعات أو مستطيلات تجاور أو توازي بقية المقاطع. ومثل إيراد "هوامش" شعرية على "متن" النص، أسفل صفحة الكتاب. ومثل تطعيم النص الموزون بمقاطع نثرية. ومثل تقديم النص عبر "نهرين" متجاورين، أحدهما "قرار" والثاني "جواب". والنموذج الطيب على هذه التقنية الأخيرة هو "نصٌ وقراءة" حيث نجد قصيدة بعنوان "1968" كتبها عام 68، وفي جوارها قراءة أخرى للقصيدة كتبها عام 1975. وقد شاعت هذه التقنيات وأمثالها، لفترة غير قصيرة، بين نظراء عفيفي وبين الأجيال التالية بصرف النظر عن رأينا في ضرورتها الفنية. 3 - هناك ثلاثة ملامح أساسية ترافق تجربة مطر من بدايتها إلى نهايتها: الأول هو بروز الطابع "الفلسفي" في شعره وقد درس مطر الفلسفة، ودرّسها مدة عشرين عاماً في المدارس الثانوية. ويهيمن هذا الملمح على ديواني "ملامح من الوجه الأنبادوقليسي" و"رباعية الفرح" ويقوم الاخير على أربع قصائد طويلة، كلُّ واحدة منها تتعلق بأصل من أصول الحياة في الفلسفة اليونانية القديمة: الماء، والهواء، والنار، والتراب. والثاني هو الاستناد الشامل على التراث العربي الإسلامي، حتى ليخيل لك أن تجربة مطر هي تجربة الغوص في التاريخ العربي القديم لتقديم إحالة معاصرة. ولذا نواجه الحسن بن الهيثم وغيلان الدمشقي وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وهو بطل أساسي في ديوانين كاملين هما: كتاب الأرض والدم، وشهادة البكاء في زمن الضحك. ونواجه المتصوفة العرب وأظن أن مطر كان واحداً من السبّاقين في الكشف عن نبع المتصوفة الثر، بعد أن كان محجوباًَ. والثالث هو النهل من أساطير القرية وتجسيد الخرافة الريفية، مع تسجيل شعري لطقوس الزراعة وشعائر الفلاحة. ويبزغ هذا الملمح - أكثر ما يبزغ - في ديوان "فاصلة إيقاعات النمل"، حيث نجد تجسيداً شعرياً مدهشاً لطرق تعامل الفلاح مع دوابه وأدواته وبذوره. وهكذا ينسج مطر - من الأسطورة اليونانية والأسطورة العربية والأسطورة الريفية - سبيكة / أسطورته المركبة الفريدة. 4 - مسيرة هائلة كمسيرة مطر لم تكن لتخلو من المثالب الصغيرة أو الكبيرة. أول هذه المثالب: أن "تجريبه" كثيراً ما يصل إلى "تجريد" هائم مقفل. ثانيها: أن حرصه الحميد على أصالة لغته وجزالتها، يتحول في بعض النصوص إلى غرام بالحوشيِّ من الألفاظ القديمة لذاتها، فتصير "البكارة" المنشودة نوعاً من "العقم" الصلد. وثالثها: أن استلهامه للتراث العربي واستناده على التاريخ الإسلامي ينقلبان في بعض الأحيان إلى ما يشارف استشارة الماضي في أمر الحاضر، وما يشارف درجة من الغلو "العرقي"، على النحو الذي لا يجعله يختلف - في الجوهر - عن أصحاب نظريات "نقاء الدم". ورابعها: ثباتُ أساليبه الفنية ومداراته الفكرية طوال عقود أربعة، من دون تغييرات أو تجديدات مرموقة. وهو ما دفع البعض إلى الاعتقاد بأنه بات "يعيد إنتاج نفسه". على أن أيّ رائد مجدد ليس مطالباً بأن يظل جديداً متجدداً مجدداً إلى ما لا نهاية. وتكفي مطر رحلته الغنية العصيبة مع الشعر، وصلابته في مواجهة الأنواء المعاكسة من الجهات الأربع: السلطة واليسار والسلفيين وذائقة القراء الساكنة. صاح بي مرة، ونحن نتحدث عن الالتزام في الشعر: "الشعر مُلزم لا مُلتزم". تعلمت الجملة، وأعرتها لزملائي. وها قد ثبتت صحتها، حينما ألزم شعره الجميع باحترام تجربته وتقديرها حق قدرها، لما تنضح به من تميز وصدق. أليس هو القائل: "فلتنسجي كفني يا بلادي / فوجهك محو لوجهي، ونهرك مرثية في العماد / وأنت أزرعي خشباً للتوابيت، ولتكتبي في الرماد / وخطى مصائرك الهمجية، لا أنت مسكونة / ليس هذا الدم المتخثر من نطفة الخلق / ليست بلادي بلادي".