جهود دعوية وإنسانية لتوعية الجاليات وتخفيف معاناة الشتاء    أمير الرياض ونائبه يعزيان في وفاة الحماد    أمير الرياض يستقبل سفير فرنسا    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائنًا مهددًا بالانقراض    انخفاض معدلات الجريمة بالمملكة.. والثقة في الأمن 99.77 %    رغم ارتفاع الاحتياطي.. الجنيه المصري يتراجع لمستويات غير مسبوقة    إيداع مليار ريال في حسابات مستفيدي "سكني" لشهر ديسمبر    العمل الحر.. يعزِّز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    نائب أمير تبوك يطلق حملة نثر البذور في مراعي المنطقة    NHC تنفذ عقود بيع ب 82 % في وجهة خيالا بجدة    العمل الحرّ.. يعزز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    الاحتلال يكثّف هجماته على مستشفيات شمال غزة    تهديد بالقنابل لتأجيل الامتحانات في الهند    إطلاق ChatGPT في تطبيق واتساب    هل هز «سناب شات» عرش شعبية «X» ؟    المملكة تدعم أمن واستقرار سورية    "أطباء بلا حدود": الوضع في السودان صعب للغاية    حرب غزة:77 مدرسة دمرت بشكل كامل واستشهاد 619 معلماً    السعودية واليمن.. «الفوز ولا غيره»    إعلان استضافة السعودية «خليجي 27».. غداً    رينارد: سنتجاوز الأيام الصعبة    اتركوا النقد وادعموا المنتخب    أخضر رفع الأثقال يواصل تألقه في البطولة الآسيوية    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    غارسيا: العصبية سبب خسارتنا    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    رئيس بلدية خميس مشيط: نقوم بصيانة ومعالجة أي ملاحظات على «جسر النعمان» بشكل فوري    الأمير سعود بن نهار يلتقي مدير تعليم الطائف ويدشن المتطوع الصغير    وافق على الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة.. مجلس الوزراء: تعديل تنظيم هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية    مجلس الوزراء يقر الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة العامة    الراجحي يدشّن «تمكين» الشرقية    تقنية الواقع الافتراضي تجذب زوار جناح الإمارة في معرض وزارة الداخلية    لغتنا الجميلة وتحديات المستقبل    أترك مسافة كافية بينك وبين البشر    مع الشاعر الأديب د. عبدالله باشراحيل في أعماله الكاملة    عبد العزيز بن سعود يكرّم الفائزين بجوائز مهرجان الملك عبد العزيز للصقور    تزامناً مع دخول فصل الشتاء.. «عكاظ» ترصد صناعة الخيام    وزير الداخلية يكرم الفائزين بجوائز مهرجان الصقور 2024م    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    زوجان من البوسنة يُبشَّران بزيارة الحرمين    القهوة والشاي يقللان خطر الإصابة بسرطان الرأس والعنق    القراءة للجنين    5 علامات تشير إلى «ارتباط قلق» لدى طفلك    طريقة عمل سنو مان كوكيز    الموافقة على نشر البيانات في الصحة    جامعة ريادة الأعمال.. وسوق العمل!    نقاط على طرق السماء    الدوري قاهرهم    «عزوة» الحي !    أخطاء ألمانيا في مواجهة الإرهاب اليميني    المدينة المنورة: القبض على مقيم لترويجه مادة الميثامفيتامين المخدر (الشبو)    استعراض خطط رفع الجاهزية والخطط التشغيلية لحج 1446    عبد المطلب    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    سيكلوجية السماح    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الذكرى السنوية الأولى لاغتيال المرجع الشيعي محمد صادق الصدر في كتاب لفائق الشيخ علي يصدر قريباً 5 . كيف تمت خطة الاغتيال ولماذا ألصقها النظام بالمعارضة ؟
نشر في الحياة يوم 25 - 02 - 2000

} ليس مصادفة ان تأتي رواية النظام للاغتيال متطابقة مع رواية المعارضة، فهي لا تختلف عنها الا في جهة الاتهام وهذا امر مؤكد وبعض الرتوش. فعندما اعلن النظام نبأ الاغتيال لم يتطرق فيه الى خطة الاغتيال او كيفيته، بينما سارعت المعارضة كل حسب مصادره ومعلوماته الى فضح الخطة وكشفها، وتوصيف مسرح تقريبي للجريمة امام العالم، قبل ان يُجري النظام مطابقةً لها عند عرضه لروايته في الفيلم، الذي تجنّب فيه بعض الجزئيات، التي من الممكن ان تدلل عليه كفاعل للجريمة لو عرضها بدقة.
في هذا المبحث سنعرض رواية متكاملة لخطة الاغتيال وتنفيذها، ننشرها معززة بالمصادر، فضلاً عن مصادرنا الخاصة، نذكر شخصين منها فقط ونتحفظ على اسميهما، الاول: غادر النجف الاشرف الى لندن بعد الاغتيال، وشهد الاحداث كلها هناك. اجرينا معه مقابلة مطولة، ورسم فيها مخططاً تفصيلياً للاغتيال.
الثاني: غادر لندن الى العراق بعد الاغتيال، ودخله بطريقة مموَّهة، فجمع معلومات دقيقة من مصادر موثوقة لا نستطيع الافصاح عنها وشاهد سيارة المرجع المصابة بالرصاص. وهنا روايتنا لخطة الاغتيال.
قبل بضعة ايام من موعد التنفيذ أُعيد عقيد الامن المدعو عظيم ناصر سعد راضي الى مديرية امن النجف، للاشراف على عملية الاغتيال، وما يتوقع ان يعقبها من تحركات او ردود فعل. وكان شغل فيها سنوات وظيفة "مدير امن البلدة" وتنقَّل بين اكثر من مدينة عراقية كركوك، الخالص، الموصل حتى استقر في الاخيرة فترة ليقود فرق اغتيالات في كردستان العراق.
عظيم ناصر من مواليد 1952 ينتسب لاسرة نجفية معروفة، هم البو حجي سعد راضي يسكنون محلة المشراق احدى اربع محلات في النجف القديمة ....
كان عظيم فاشلاً في دراسته، لذلك لم يجد مكاناً يؤويه بعد انهائه مرحلة المتوسطة، سوى معهد لتخريج مفوّضي الشرطة انتسب اليه فتخَّرج منه "مفوضاً" نهاية الستينات، وعُيِّن في "مكافحة اجرام الكوفة". اثبت جدارة في عمله ك "شقي"، وابدى استعداده للقيام بمهمات اجرامية، فتلقفه جهاز الامن ليدخل بأمر من صدام مع اخيه غير الشقيق برزان ابراهيم في دفعة أُستحدثت قسرياً لحماية امن النظام، فتخرج من دورة الدفاع الوطني ضابطاً برتبة ملازم ثانٍ مطلع السبعينات، صنف "اغتيالات" لمهارته في الرماية.
رُقِّيَ الى رُتب عديدة وتدرَّج في المناصب الامنية، وحاز على مكرمات بسبب انجازه لكل المهمات التي كُلِّف بتنفيذها.
واستناداً الى مصادر "نداء الرافدين" في 22/4/1999 عدد 197 "ان صدام اجتمع يوم 15/2/99 بمدراء الأمن في القصر الجمهوري ومنح كل واحد منهم خمسة ملايين دينار نحو 2500 دولار. وفي يوم 16/2/99 صدر امر من صدام تمَّ تعميمه على كافة دوائر الامن في العراق منح بموجبه جميع المراتب 50 الف دينار. وفي يوم 17/2/99 اجتمع عدد من ضباط الامن العام الذين تمَّ اختيارهم لتنفيذ عملية الاغتيال وعددهم خمسة وهم برتبة رائد فما فوق. وفي يوم 18/2/99 غادرت مجموعة الضباط بشكل سرّي للغاية بغداد، واتجهت الى مدينة النجف بسيارة خاصة. وفي يوم 19/2/99 دخلت الاجهزة الامنية في حالة الانذار القصوى".
واستناداً الى صحيفة "الموقف" في 4/3/1999 عدد 191 فان الصدر الثاني "قبل شهادته رض بمدة وبعد تبليغ ازلام السلطة بان حياة السيد في خطر عرضوا عليه الحراسة من قبل السلطة، ولكنه رفض ذلك، وبعد ذلك أقيمت عدة نقاط حراسة من عناصر قوات الطوارئ بين كل وحدة واخرى 150م 200م. وينقل احد ضباط هذه الوحدات بأنه قبل استشهاد السيد بيومين امرونا بالانسحاب الى منطقة بحر النجف، وجاءت قوات من فدائيي صدام لتحل في مواقعنا السابقة، وبعد وقوع الاغتيال بنصف ساعة تمَّ ابلاغنا بالعودة فوراً الى مواقعنا السابقة. ويفسر الضابط هذا الامر بأن السلطة حينما قررت تنفيذ الجريمة المشؤومة، كانت تخاف من ان يرى احد عناصرنا اياً من الاشخاص المكلفين بارتكاب الجريمة ويُشخصُهم ويسرِّبُ الامر بعد ذلك الى الشعب، لانهم لم يطمئنوا لنا تماماً. ومن جهة اخرى يفسر الضابط المذكور تعدد نقاط الحراسة الممتدة على طول الطريق الذي يسلكه الشهيد، بانه اذا فشلت مجموعة من الوصول للهدف تتولى الامر نقطة اخرى وهكذا". وتضيف الصحيفة: "في يوم الجمعة الحمراء الجمعة الصدرية الذي استشهد السيد في مسائه، وعند مجيئه الى مسجد الكوفة، جاءه احد المسؤولين وبلغه بضرورة عدم اقامة الصلاة، ولكن السيد لم يكترث وكانت الناس تهتف، ويقول الشاهد لقد لاحظت احد الضباط وهو برتبة عقيد يهز برأسه وكأنه ينعى السيد بأسف". وعن حديث النعي هذا، فان مصادرنا الخاصة قالت مبكرةً انه، في مجلس الفاتحة الثاني الذي اقامته الحوزة العلمية في النجف الاشرف على روح الشهيد آية الله العظمى الشيخ مرتضى البروجردي، بعد مجلس الفاتحة الاول على روح الشهيد اية الله العظمى الشيخ ميرزا علي الغروي، التفت الصدر الثاني على احد اساتذة الحوزة وعلمائها نتحفظ الآن على ذكر اسمه الجالسين الى جانبه وقال له: يا فلان استعد لاقامة الفاتحة الثالثة. فردَّ على روح من ياسيدنا؟ اجابه: ستُقيمها على روحي! فردَّ الاخير اسأل الله ان يُبعد عنك كل مكروه يا سيدنا.
بعد الاغتيال تحدث بعض المصادر عن اتصالات حكومية جرت قبل الاغتيال بفترة وجيزة بالمرجع الشهيد، لثنيه عن عزمه على اداء صلاة الجمعة، لكنه رفضَ ذلك رفضاً قاطعاً، مصراً على مواصلتها وبالمنهج الذي خططه لها. الا ان الاختلاف حصل في الجهة التي اتصلت به، فمنهم مَنْ اوعزها الى صدام، اذ كتب الدكتور نبيل ياسين بأنه "اتصل صدام حسين بالصدر تلفونياً وطلب منه منع التحرك فرفض، فصدر امر بوضعه في الاقامة الاجبارية وأعتقل وكلاؤه في المدن العراقية، حتى خرق الصدر امر الاقامة الاجبارية مع ولديه مصطفى ومؤمل، فأطلقت عليه النار". ومنهم مَنْ اوعزها الى قصي صدام، حيث ذكرت مصادر صحيفة "الجهاد" الخاصة في 1/3/1999 عدد 884 "ان المجرم قصي ابن الطاغية صدام جاء لمقابلة آية الله العظمى السيد محمد صادق الصدر قدس سره الشريف، ونقل اليه قرار الطاغية المجرم بأن لا يخرج السيد الى صلاة الجمعة ويُقلل من نقده للنظام، وعلى اثر رفض السيد لهذه المطالب نشبت مشادة كلامية بين المجرم قصي والسيد قدس سره الشريف الذي وضع عكازته في رقبة المجرم قصي وقال له: "لا انت ولا ابوك تفرضون آراءكم عليَّ، وانما انا أعمل برأيي.. اخرج من هنا"." ومنهم من اوعزها الى آخرين ....
غير ان اهم مصدر موثق، يتحدث عن هذه الاتصالات، هو كتاب بعنوان "الامام الصدر... تيار في أمة وأمة في تيار" لوكيله في بيروت العلاّمة السيد عبدالستار آل محسن الموسوي طبع مؤسسة الصراط 1999م بأن النظام اوفد "طاهر حبوش مدير الامن العام ومن بعده محمد حمزة الزبيدي صعلوكه وعرّاب ارهابه الى النجف، ليتوعد الامام بأن يحدث له ما حدث لقبله من آل الصدر" ص7. وأوضح بأن اكبر دليل على تصدّي الصدر الثاني وعدم خنوعه لتهديدات النظام، هو "طرده للمجرم محمد حمزة الزبيدي رئيس الوزراء العراقي الأسبق، حين طلب الاخير من سماحته وفي بيته الكَّف عن التصدي لمسائل تتعلق بالسلطة وإجراءاتها التعسفية" ص29.
اما معلوماتنا عن هذا الموضوع، فهي شهادة تقول: "استدعي السيد مصطفى النجل الاكبر للسيد محمد الصدر الى القصر الجمهوري، فالتقى به صدام وانهال عليه وعلى ابيه شتماً وسباً ووعداً ووعيدا بسبب مواقفه الجريئة منه، حتى اخرجه طرداً. عاد السيد مصطفى الى النجف الاشرف مساء فوصل الى "البّراني" وكان والده ينتظره بحضور ثلاثة اشخاص، فسأله عما حصل له، فتحرَّج الابن من ان يجيب بحضور هؤلاء، لكن اباه امره ان يروي ما دار بينه وبين صدام امام الحاضرين، فروى القصة.
وعندما انتهى سأله ابوه، وبماذا اجبت؟ قال الابن: لم ارد بشيء. فأمتعض الصدر الثاني وقال: كان يُفترض بك ان ترد عليه بمثل ما واجهك به، وليفعل ما يشاء. ثم قام من المجلس منزعجاً".
ليس المهم ان تَصدُق هذه الروايات انما المهم بان اتصالات حكومية جَرَت معه ومارست ضغوطاً تعسفية عليه، كي تخضعه لسياساتها وتوجهاتها، لم ينزل عندها ورفضها باصرار وعناد، وهو يدرك تماماً نتائج رفضه وعواقبه الوخيمة.
في ذلك اليوم، الجمعة 19/2/1999، ذهب الصدر الثاني الى مسجد الكوفة واقام صلاة الجمعة والقى خطبتيها وسط جمهور حاشد، وجو وخيم يُنبئ بمصاب جلل. وتشاء الاقدار ان تكون آخر خطبة يلقيها في حياته، عن "الكاوليَّة". ولكي يزيل الاستغراب وَعَدَ المُصلّين بقوله: "إن شاء الله تشوفون مني الغرائب، وهذا منها". ثم ذكَّر جموعهم بأنه خاطب جهات عدة من قبل، كَسَدَنة وخَدَمَة المراكز المقدسة والحوزة التقليدية واهل السُنَّة والجماعة والموظفين، حتى وصل الى الغَجَر فخاطبهم بقوله: "فيا ايها الغجريون لستم أول مَنْ خاطبهم الاسلام، ولا اول من خاطبهم القرآن، ولا اول مَنْ خاطبتهم الحوزة الشريفة، ولا اول مَنْ خاطبه السيد محمد الصدر، كما لستم آخر من يخاطبه السيد محمد الصدر إذا بقيت لي الحياة". ولم تبقَ له الحياة ....
عاد الى النجف الاشرف وفي المساء خرج الى الصحن الحيدري ليؤدي فريضتي المغرب والعشاء كعادته واثناء قيامه لاداء الصلاة سَحَبَ سجادته قليلاً الى الوراء، لضيق المكان ليس إلاّ، وأَمَّ الناس الى الصلاة. وما ان انهى صلاته حتى تردد في قرارة نفسه من ايِّ الابواب يخرج، لشعور انتابه، ثم خرج من احداها الى "البّراني" مباشرة، والذي لا يبعد سوى بضعة امتار عن الحرم.
منذ "انتفاضة العراق" في 1991 والنجف الاشرف شأنها شأن المدن الثائرة الاخرى، تعاني من حرمان غير معقول من التيار الكهربائي والمياه. وفي اليوم الذي يسمح فيه النظام بتزويد النجفيين بالكهرباء او بالماء يتساءل الناس باستغراب عن سرِّ تلك "المَكرُمَة". في ذلك اليوم المشؤوم أُنيرت النجف الاشرف، وظلّت تنير اياماً وليالي بعد الاغتيال ....
لم يمكث الصدر الثاني في "البّراني" طويلاً، وعلى غير عادته، سرعان ما قرر العودة الى داره في "الحنّانة" وكأنه في عجلة من امره. فاستقل سيارته متسيو بيشي، رصاصية اللون، موديل 1982 من رأس شارع الصادق صعد معه ولداه مصطفى ومؤمل وشيخ آخر نتحفظ على ذكر اسمه الآن وكان هو الذي طلب من مصطفى ان يركب معهم ويترك سيارته في الشارع. وفي منتصف الطريق طلب الصدر الثاني من الشيخ الراكب معه ان ينزل ليستقل سيارة اجرة، فاجاب الشيخ بأن لديه موعداً معه، فردَّ السيد بان لديه موعداً آخر مع القدر. ولاحظ ولده مؤمل سيارةً تتعقبهم منذ انطلاقهم قبل بضع دقائق.
موضوع السيارة هذا كان اول من اشارت اليه صحيفة "القدس العربي" في 24/2/1999 استناداً الى "مصادر في عائلة الامام محمد صادق الصدر" لم تفصح عنها، تحدثت عن اللحظات الاخيرة لاغتياله "وقالت ان سيارة مجهولة تابعته ورصدته وهو يعود الى بيته" لكّن مجلة "لواء الصدر" في عددها 892 الصادر بتاريخ 11/4/1999 اوردت تقريراً مفصلاً عن هذه النقطة فقالت:
"ان شخصاً يدعى "الحاج عزيز" وهو عميل مخضرم لمديرية الامن العامة كان قد شارك في جريمة اغتيال آية الله العظمى الشهيد محمد الصدر رض وذلك من خلال تكليفه بمتابعة السيد الشهيد من مرقد الامام علي ع الى ساحة ثورة العشرين. واوضحت التقارير ان عزيز هذا شوهد داخل مرقد امير المؤمنين ع حاملاً جهازاً لاسلكياً "هوكي توكي" قبل نحو ساعة من انتهاء صلاتي المغرب والعشاء ... ان عزيز سارع الى سيارته حال توجه السيد الصدر وولديه مصطفى ومؤمل نحو سيارتهم. وبعد ان اجتازت سيارة السيد الشهيد النفق سبقتها على الفور سيارة العميل الحاج عزيز وهي سوداء اللون موديل 1990".
وعلى اي حال وبغض النظر عن هويته فان الثابت ان شخصاً ما تعقب سيارة المرجع وظل يسير خلفها، من دون ان يسبقها حتى وصلت الى ساحة "ثورة العشرين" حيث انتهت مهمته هناك بتمرير اخر رسالة لاسلكية الى احدى سيارتين، اتخذتا موقعهما في فضاء ساحة خالية قرب معهد المعلمات في شارع البريد. واحدة نوع "اولدزموبيل" بيضاء اللون موديل 1990، والاخرى نوع "كورولا" يابانية بيضاء اللون ايضاً ومن الموديل نفسه.
لم يكن شارع البريد المتفرع عن ساحة "ثورة العشرين" هو الطريق الوحيد المؤدي الى دار السيّد، ولكنه الاهدأ من شارع الّراج المؤدي الى كربلاء الطريق الرئيس ولهذا اعتاد على سلكه يومياً.
ولحظة اقتراب السيارة من الكمين، تحركت "اولدزموبيل" واعترضت طريق الصدر الثاني، فقطعته عليه ما اضطر ولده الى الانحراف على جهة اليمين وصعود الرصيف ليتوقف امام شجرة من دون ان يصطدم بها، بينما تحركت "كورولا" لتقطع الشارع من الخلف وحوصرت سيارة المرجع الشهيد بين سيارتين. تَرَّجَل منهما اربعة مسلحين ملثمين، ثلاثة منهم يحملون مسدسات ورابع يحمل "كلاشنكوف" في هذه الاثناء مرَّ احد المستطرقين في المنطقة وهذه شهادته واذا باحد العناصر المكلّفة بالحماية ممن كانوا في سيارة "كورولا" يصيح به: ارجع والاّ اطلقت عليك النار، فتقهقر المستطرق راجعاً.
تقدم الثلاثة من اتجاهين، تجنبوا ان يكونوا مرمى خاطئاً لبعضهم، واضعين سبّاباتهم على الزُنُدِ، وفي تمام الساعة الثامنة الا ثلثاً من مساء الجمعة اطلقوا العنان لأسلحتهم المزودة بأجهزة كاتمة للصوت.
عندما اطمئن فريق الاغتيال الى نجاح مهمته، اطلق حامل رشاش "كلاشنكوف" خرطوشاً مدوياً من الاطلاقات على جدار احد المنازل يعود الى احد ابناء عائلة محيي الدين معلناً نهاية العملية وايذاناً بانسحاب رفاقه من مسرح الجريمة.
غادرت السيارتان الموقع بسرعة لتفسحا المجال امام سيارات الامن والشرطة، لاكمال المهمة واتمام بقيّة الترتيبات. فنزل بعض عناصر الامن من سيارات تجمعت في المنطقة ومنعوا الناس من الاقتراب الى موقع الاغتيال، وتظاهروا بالاهتمام والحرص في التحقيق والبحث عن الجُناة، فتباطأوا عمداً باخلاء المغدورين واسعافهم، فتركوهم ينزفون لوقت ليس قصيراً، ثم نقلوهم الى المستشفى.
طوقت مستشفى "الطوارئ" في النجف الاشرف على طريق الكوفة من قبل الاجهزة الامنية بُعيد ثوانٍ من وقوع الجريمة. وقبل ان يصل المجني عليهم اليها، دبَّت حركة غير عادية في اروقتها، وأفرغت بعض اقسامها من المرضى والمراجعين.
أُخلي المغدورون الثلاثة الى المستشفى وكان في الصدر الثاني رمق، وبذل الكادر الطبي كل ما في وسعه لانقاذ حياته، ألاّ ان مشادة نشبت فجأة داخل غرفة العمليات، افتعلها الامنيون للتغطية على عظيم ناصر سعد راضي الذي سحب مسدساً مزوداً بجهاز كاتم للصوت واطلق رصاصة على رأس المرجع فاستشهد.
بعد قليل خرج احد الخافرين، لينعى الصدر الثاني الى الامة. وهكذا سكت الصدريون جميعهم.
سرى خبر الاغتيال بين الناس كسريان النار في الهشيم، وحاول المواطنون ان يتجمهروا في اكثر من مكان موقع الحادث، المستشفى، منزل المرجع الشهيد الا ان الاجهزة القمعيّة فرقتهم وحالت دون ذلك. واذا بنشيد نساه العراقيون منذ ربع قرن، يعزفه تلفزيون عدي "الشباب" اشارة الى اعلان تطبيق أحكام خطة الطوارئ وفعالية الفارس الذهبي في البلاد. قُطعت على اثره كافة الاتصالات الهاتفية بين المحافظات، واضطربت المدن بغداد والجنوب جرّاء حركة غير مألوفة فيها. واحسَّ النجفيون وَقْعَ اصوات دبابات ومدرعات تُطوِّق مدينتهم، اتخذت مواقعها في حال تأهب. ونُصِبَت الصواريخ والمدافع وانتشرت قوات الحرس الجمهوري حولها، بينما اقتحمها المُقَنَّعون مرتدو الزي الغريب وتوزعوا في شوارعها ....
تحدث احد المصادر عن ان عدي صدام اشرف بنفسه على عملية الاغتيال، بينما ذهبت اغلب المصادر الى ان قصي هو المسؤول والمشرف على الاغتيال، اذ انتقل الى النجف الاشرف، ولم يعد الى بغداد الا بعد انجاز المهمة. لكن امين عام "حركة الوفاق الاسلامي" الشيخ جمال الوكيل رأى بأن صدام "قام بتشكيل جهاز خاص لاغتيال الشخصيات الدينية غير الموالية لنظامه في العراق، اطلق عليه "شعبة العمليات الخاصة" ويشرف على هذا الجهاز بشكل مباشر نجله الثاني قصي" وان "مجموعة من هذه الشعبة بقيادة النقيب علي عباس صالح" هي التي قامت باغتيال المرجع الشهيد ونجليه.
وحسب احدى الشهادات التي بحوزتنا، فان مدير امن النجف السابق ومدير امن بغداد اللاحق المدعو سامي مرهون الدجيلي يحمل شهادة دكتوراه في القانون اشرف ايضاً على تنفيذ الاغتيال مع عظيم ناصر سعد راضي. فهما الوحيدان اللذان يعلمان بقرار الاغتيال من خارج مديرية امن النجف، وكُلِّفا بهذه المهمة قبل نحو اسبوع من تنفيذها. وان "الدجيلي" كُّرِّمَ من قبل صدام بعد الاغتيال بمبلغ من المال. واستناداً الى شهادة اخرى بأن الملازم حسين ظاهر احد الذين ساهموا في الجريمة، وأُقتص منه في النجف الاشرف في وقت لاحق.
وعلى رغم محاولة النظام التأكيد على ان "فرقة الاغتيال" التي استخدمت سيارة "كورولا" كما في روايتهم عادت الى بغداد من النجف عن طريق كربلاء، الا ان المصادر تؤكد على ان "فرقة الاغتيال" التي استخدمت سيارة "اولدزموبيل" عادت من النجف الى بغداد عن طريق الكوفة حِلّة، واستوقفتهم نقطة السيطرة خارج مدينة الكوفة للتفتيش، فنشب شجار بين الطرفين، ادعى القتلة خلاله بانهم كانوا في مهمة سرّية في النجف وان مدير امن النجف على علم بها. ورفض المفتشون السماح لهم بالمغادرة، سيما وهم يحملون معهم اسلحة ويرفضون الكشف عن هوياتهم. فاتصلت نقطة السيطرة بمديرية امن النجف، مستفسرة عن الموضوع، فأجابهم المدير "اتركوهم لقد كانوا في الواجب"... وانطلقت "اولدزموبيل" تسابق الريح الى بغداد!
وكعادة السلطة في اغتيالها المراجع والعلماء، لم تسمح باجراء مراسم التشييع المعتادة، ولا حتى لمراسم رمزية للمرجع الشهيد ونجليه. انما دفنته في ليل الاغتيال ....
في اليوم التالي للاغتيال شنَّت الاجهزة الأمنية واحدة من اشرس واوسع حملات المداهمة والاعتقال، في صفوف وكلاء المرجع الشهيد ومعتمديه وقضاة محاكمه الجعفرية وائمة جمعته وطلبته، في سائر المحافظات والمدن العراقية. وتحت عنوان "السلطات العراقية تعتقل 120 عالم دين شيعياً" ذكرت صحيفة "الشرق الاوسط" في 26/2/1999 بأن مصادر عراقية مستقلة أكدت لها "ان سلطات الامن العراقية القت القبض منذ السبت الماضي على 83 خطيب جمعة ممن كان آية الله ال صدر قد اعتمدهم وكلاء له في مختلف المدن العراقية في الوسط والجنوب، اضافة الى 27 من طلبة العلوم الدينية في حوزة النجف و10 من القضاة الشيعة في المحاكم الشرعية". في حين اكدت صحيفة "بدر" في 8/3/1999 "اعدام الشيخ اوس الخفاجي وكيل المرجع الديني الشهيد الصدر الثاني وامام جمعة وجماعة الناصرية، الذي كان قد اعتقل من قبل ... ان السيد عقيل وعلي صالح قد أُعدما هما الآخران من قبل النظام، وان الشيخ علي السهلاني وهو امام جمعة قضاء المجر الكبير بمحافظة العمارة قد قُتل رمياً بالرصاص اثناء قيادته لتظاهرة شعبية انطلقت يوم الاحد" 21/2/1999 ....
ان مَنْ ينظر الى كل هذه الاجراءات، سيدرك تماماً بأن السلطة أعدتَّ مسبقاً خطة متكاملة، لاجراء التصفية الشاملة على كل آثار وبقايا مرجعية الصدر الثاني بعد تنفيذ الاغتيال. ولو كانت هي بريئة كما زعمت فعلامَ هذه الاعدامات والمداهمات والاعتقالات بحق اتباعه.
بعد خمسة اشهر من الاغتيال كشفت صحيفة "بغداد" في عددها 403 بتاريخ 23/7/1999 من ان القيادة القطرية للحزب الحاكم اصدرت تعليمات الى الجهاز الحزبي "تقضي برفع كلمة الشهيد من اسم" الصدر الثاني "واحلال كلمة نابية بدلها في المخاطبات الحزبية التي يرد فيها اسمه. وتعلل التعليمات هذا الاجراء بأن المرجع الاسلامي الكبير كان له نشاط سياسي يهدف الى تقويض نظام صدام". لكن صحيفة "صوت العراق" اكدت في عددها 226 بتاريخ 12/8/1999 على ان مجلس قيادة الثورة اصدر تعميماً تضمن ثلاث فقرات كانت الاولى فيه:
"اعتبار السيد محمد صادق الصدر عميلاً لحزب الدعوة الاسلامية، بل وأَحد قيادات هذا الحزب في الداخل ومؤيداً لاطروحاته وسياسته". وتضمنت الفقرتان الاخريان منع تداول جميع مؤلفاته واعتقال مروِّجي افكاره ....
في اليوم التالي للاغتيال جاءت القلاّبات وسيارات الحمل اللوريات، لتلقي بحمولتها من الرمل والحصى والطابوق عند مداخل ومخارج مسجد الكوفة، بحجة المباشرة في اجراء الترميمات. لم يكن مسجد الكوفة في حاجة الى اية ترميمات او اعادة بناء، غير ان ذلك كان ايذاناً باعلان تعطيل صلاة الجمعة قسراً، بعد اغتيال قائمها وامامها المرجع الشهيد. وبثت "وكالة الانباء العراقية" تصريحات لمحافظ النجف قائد حسين العوّادي، زعم فيها بأن محافظته تشهد "اهتماماً منقطع النظير" من قبل صدام، وانه امر بصرف 90 مليون دينار لترميم مسجد الكوفة و43 مليون دينار لترميم الصحن الحيدري وان اكثر من 700 مليون دينار ستصرف على تصليح شبكات المياه والكهرباء واكساء الشوارع.
وبهذا يكون النظام قد حقق ما سبق وان عَرَضَهُ على الصدر الثاني في حياته، لاعاقته ومنعه عن اقامة صلاة الجمعة في مسجد الكوفة، تلك التي رفضها واصرَّ على عدم الرضوخ اليها ....
بعد اعلان نبأ الاغتيال يوم السبت 20/2/1999 بثت "وكالة الانباء العراقية" عن ناطق باسم وزارة الثقافة والاعلام، بأن السلطات المختصة تمكنت من اعتقال عدد من منفذي العملية. وفي 18/3/1999 بث تلفزيون العراق اعترافات كاذبة لاشخاص زعموا بانهم قاموا بالاغتيال. وفي 5/4/1999 اصدرت مديرية الامن العام بياناً "اعلنت فيه تنفيذ حكم الاعدام بالمجرمين الذين اغتالوا غدراً الشهيد المرحوم محمد صادق الصدر ونجليه". وبعد بضعة اشهر تُعيد وثيقة صادرة عن الحزب الحاكم الاعتبار الى الاشخاص الاربعة الذين أُعدِموا، على ان يَحظوا ب "مكرمة الشهداء" هُم واولادهم بينما اعتبرت المرجع الشهيد عميلاً.
بديهي اننا لا نجد انفسنا في حاجة الى التعليق على زعم الحزب الحاكم من ان المرجع الشهيد كان عميلاً "لاجهزة الاستخبارات الاميركية والصهيونية" وغيرها من الهلوسات والتخريف. اذ يكفي ان منائر مسجد الكوفة ما زالت تردد لعناته لهؤلاء وعملائهم ....


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.