جملة من التساؤلات يثيرها القسم الذي تلاه مخرجون سينمائيون دانماركيون وأطلق عليه اسم "قسم النقاء". وبرغم ردود الفعل المختلفة أزاء الخطوة الأولى هذه، والتي تلتها أعمال توّجت بحصولها على جوائز وطنية ودولية عدة، ومشاريع أخرى قيد التنفيذ، يبقى التفسير غير واف والأجوبة كما الاسئلة متباينة أطلق على البيان "دوغما 95"، حيث تم اتفاق أربعة مخرجين دانماركيين هم لارس فون تريز وتوماس فينتربيرك وسورن كراو - ياكوبسن واخيراً كريستين ليفرنك على "إبعاد المشاهد عن كل ما هو اصطناعي ومزوق، ووضعه أمام صورة أخرى غير التي اعتاد عليها بالتدريج والتي تتمثل بأفلام هوليوود، تلك الافلام التي لا تتوانى عن اخبار المشاهد بأن كل ما يراه هو مجرد كواليس وخدع في التصوير والموسيقى، أفلام الكلفة الخيالية والتقنيات العالية التي تخلق صوراً خارقة لأبطال أفذاذ، ملأى بمشاهد القتل والاسلحة. ربما ترتكز الفكرة ايضاً على إمكانية إنتاج أفلام بميزانية متواضعة فقد تلي هذه الخطوة انتاج خمسة افلام بمبلغ لم يتجاوز العشرين مليون كرونة. التساؤل هنا ألسنا أمام صورة مثالية طبيعية لا تخلو من نفس "نوستالجي" صريح؟ ألا يتبادر الى الذهن دعوة هؤلاء المخرجين الى ابتكار صيغ جديدة للعودة الى الماضي؟ لا... ليس الأمر ما يظنه البعض. إنما هي "صرعة" جديدة يطمع من خلالها هؤلاء المخرجين الى لفت أنظار العالم والدخول الى عالم السينما بشيء مخالف يسحب الاضواء اليهم. ويقال إنما هي هلوسة شباب تثير السخرية ومحاولة بائسة تعكس ركود المجتمع ورتابته. هي بدعة أخرى لا تختلف عما نصادفه كل يوم في مجال الفن والابداع، يقف خلفها فنانون عصريون جداً، إنه الجيل الهادف الى الدخول في الألفية الثالثة بخطى يتوسم بها الشهرة والكسب؟ كما نرى فقد لعب هؤلاء المخرجين دوراً في إثارة اهتمام الاوساط الفنية والاعلامية في كل عمل يقدم من قبل أحدهم وكل جائزة يحصدونها، وسنأتي لاحقاً على ذكر مشروع - الألفية - أو D-day الذي نفّذ في ليلة رأس السنة وعرض في اليوم الأول من دخولنا العام 2000. أما الوصايا العشر التي جاء بها بيان "دوغما 95" فتحمل بين طياتها أكثر من استنتاج، حسب ما جاء على لسان أحد المخرجين. فالمهم هو "تنقية الفيلم من العصف التكنولوجي الحديث"، بما يعني تنقية الصورة الحياتية اليومية من كل ما يلم بها من مؤثرات تبعد الانسان عن ذاته وحقيقته، بينما قصد آخر من الاربعة بأنها "إلهام محض شعر به قبل كتابة البيان"، "وتحرر سيتحقق برغم ما وضع من شروط". ازدواجية ممتعة إن أفلام الأخوة "الدوغمائيين" تتبع قوانين يتوجب على المنتمي الالتزام بها وهي: أن يكون التصوير في الموقع بدون ديكور وكواليس" ألا تقع فروع الافلام الاخرى تحت لائحة هذا البيان كالأفلام الوثائقية أو الكوميدية والجنسية. ألا يفصل الصوت عن الصورة عند التصوير. والموسيقى لا تستعمل الا عند تصوير مشهد ما، كما ان الكاميرا يجب أن تكون محمولة والتصوير بالكاميرا يكون حيث مكان أحداث الفيلم. أن يكون الفيلم بالألوان وكل الاضافات ممنوعة من الفلتر الى العدسات، والاضاءة طبيعية. الاثارة السطحية غير مسموح بها من الاسلحة الى القتل الى آخره. الوقت والموقع راهنان ومقاس الفيلم 35ملم، كما لا يكون اسم المخرج هو المركز في المشروع. هذه الحزمة من القوانين وضعت في صيف 95، وبظرف خمس وعشرين دقيقة من قبل المخرجين وسط جو لا يخلو من المزاح والضحك والسخرية العميقة، لكنها وعلى لسان المخرج فينتربيرك "لا تخلو من الجدية والصدق والنزاهة" والدليل كان التزامهم بها. وهذه الثنائية لا يمكن فصل احد طرفيها في هذه اللعبة، الازدواجية هي سبب سحر الدوغما هذا. ولا بد من القول بأن هذه الشروط تعكس ثقة هؤلاء المخرجين بقيمة الفن الصادق عبر نظرة فنية راقية لا تخلو من المثالية لما لهذه الشروط من دور في تنفيذ الفيلم فبالاضافة الى التحديد التقني هناك تقييد للوقت، فأحداث الفيلم يجب ان تكون آنية بالاضافة الى الموقع الجغرافي. وقد حققت الافلام الأولى الثلاثة نجاحاً كبيراً سواء في الدانمارك أو في الخارج، وسلطت الاضواء على السينما الدانماركية. من بين هذه الافلام فيلم "الحفل" وتدور احداثه حول عائلة تقيم حفلاً كبيراً للأب بمناسبة عيد ميلاده ويحضره المقربون جداً ايضاً من معارف واصدقاء ويفاجئهم الإبن الذي أعد خطبة قبل رفعه لنخب الأب يفضح فيها اعتداءه الجنسي على ابنته والتي يجهل الجميع سبب انتحارها. الفيلم كان رائعاً ومؤثراً وقد نال إعجاب من في الدانمارك وخارجه كما نال جوائز عدة لا مجال لذكرها، في أغلب المهرجانات التي أقيمت، سواء في الدانمارك، أو المانيا، هولندا، فرنسا أو اسبانيا والنرويج أو البرازيل. من إهم الجوائز التي نالها الفيلم جائزة التحكم الكبرى في مهرجان كان وجائزة النقاد في الولاياتالمتحدة الاميركية. كما رشح الفيلم لجائزة السعفة الذهبية وأفضل فيلم أوروبي في انكلترا. ويقول فينتربيرك مخرج الفيلم بأن الفيلم كان من أكثر المشاريع متعة بالنسبة اليه، فصناعة الفيلم الحديثة بالنسبة اليه هي في خلق فيلم نقي. واللعب ضمن هذه القوانين - قوانين الدوغما - بحد ذاته تحد وهو بعينه سبب ولادة البيان "الالتزام هو حاجة بالنسبة لي بما إنني إنسان مرتبك وفوضوي، أنا أبحث عن نوع من النظامية". وهو يؤكد على ان نظرة المخرجين الاربعة مختلفة فنياً، ايديولوجياً وسياسياً على رغم اتفاقهم. فقد جذبته هو فكرة المشاركة في "دوغما 95" انطلاقاً الشعور الجماعي بالفرح عبر تنفيذ مشروع معين. هذا بحد ذاته حافز كبير لما يحاول ان يصل اليه. زعيمهم المزاجي أما المخرج لارس فون ترير الذي يصعب وصفه، فهو سينمائي مهووس، غير تقليدي، بحيث يظن البعض بان الفكرة قد فصلت له بالذات ليخرج تماماً عن دائرة السيطرة بالنسبة للعمل ضمن التقاليد النمطية فقد اتسمت أعماله بجمعها للمزاج الأسود والسذاجة، وهو يرى بأن البيان يضم بين طياته قوانين مستحيلة ومتناقضة لكنها ايضاً دوغما دينية. ولا يخفى بان الاضطراب الذي يصيب هذا العصر يجعل من الالتزام بقوانين معينة مصدر تحرر وطمأنينة وأمان. فاز فيلمه "الحمقى" بجائزة بودل الدانماركية وبجائزة النقاد العالمية في مهرجان لندن للأفلام. وهو سعيد بما ناله الفيلم من استحسان رغم ان هناك شريحة رأت فيه سخافة لا يمكن فهمها. تدور أحداث الفيلم عن مجموعة شباب لا يودون أن يجمعهم الا اهتمام واحد وهو الغباء والتفاهة، هذه المجموعة تود أن تعيش الحياة طولاً وعرضاً من دون اعتبارات محددة، ان تطلق مشاعرها لأقصاها كما هي: العنف، الفضول، الجنس. والمخرج الذي اقترن إسمه باسم السينما الدانماركية حصد جوائز عدة، تقريباً لجميع أعماله التي قدمها منذ ان كان طالباً في معهد السينما. ويقول ترير أن "الدوغمافيلم" جاءت "لتمد العالم بهواء جديد نقي". وهذا ما تفعله الموجات الجديدة، تماماً كما فعلت الموجة الفرنسية الجديدة في الستينات بعد فترة ركود وملل والتي أسدلت الستار على الافلام التجارية حينذاك، ودور افلام البيتلز ايضاً في تاريخ السينما. ويضيف لارس فون ترير أخيراً فيقول "وربما جاءت الدوغما لتعيد الينا براءتنا المفقودة". وللعلم فقد وقع لارس فون ترير على ورقة يعترف بها بتجاوزه البسيط لبعض الشروط منها استخدامه لمسند للكاميرا في تصويره لمشهد صغير في الفيلم، ويؤكد في الوقت نفسه بأن فيلمه "الحمقى" يبقى يحمل التصنيف ذاته. أما فيلم "أغنية ميفونة الاخيرة" للمخرج سورن كراو - ياكوبسن فقد حاز على جائزة النقاد الكبرى في مهرجان برلين وجائزة الدب الفضي. والفيلم يروي قصة شاب يعيش في مجتمع مخملي في كوبنهاغن يتلقى مكالمة تلفونية يوم زفافه تغير مجرى حياته. عند سؤاله عن "الدوغما 95" أجاب سورن أن "في حياة كل موسيقي هناك وقت ومكان يتمنى فيه ان يعود الى بداياته وأساسه ليعزف، حيث لا أجهزة صوت أو ميكروفونات وتقنيات، هو التوق ربما الى البدائية والبساطة". واستمراراً لبحثهم الدائم عما هو متميز وابداعي قبل المخرجون الاربعة دعوة لاخراج أربعة افلام لمدة سبعين دقيقة تبث في وقت واحد على أربع قنوات تلفزيونية دانماركية ومن خلالها يقوم المشاهد بالتنقل بين هذه المحطات لعمل فيلم خاص به اذ يتفق المخرجون مسبقاً على سيناريو واحد. الفكرة عدا عن كونها الأولى التي تجمع الاربع محطات في بث واحد وتتعاون لأول مرة معهد الفيلم الدانماركي بالانتاج، هي فكرة متميزة ايضاً يجرؤ هؤلاء المخرجون على تنفيذها لأول مرة، إذ أن كل مخرج ومن دون تحضير مسبق، يختار ممثلاً أو ممثلة وطاقم تصوير ويكون على اتصال حي مباشر معهم ليعطي التوجيهات من خلال الميكروفون بينما يكون البث مباشراً على شاشات التلفزيون، كما يستلم بكاميرا ما يجري في مواقع التصوير في غرفة السيطرة". "الملينيوم" وهو اسم المشروع الذي قصد توقيت بدء العمل به في ليلة رأس السنة وبثه في اليوم الاول من الألفية الثالثة هو تجربة قد تكون استشرافاً للأعمال السينمائية المقبلة التي تعمل على زجّ المشاهد ليختار ما يناسبه، بقي أن نذكر بأن "الاخوة الدوغمائيين" ما زالوا يعملون بروح عالية معاً وقد انضم اليهم من انضم واعتبرت خطوتهم مصدر الهام لفن السينما في العالم وموجة جديدة تضاف الى تاريخ السينما.