ليس غريباً أن يعيش فن فنان ما، طويلاً بعد رحيل هذا الفنان، بل ان هذا من الأمور الطبيعية والبديهية، لأن من خصائص الفن أن يعيش بعد زوال مبدعيه وأصوله والظروف التي أدت الى وجوده. ولكن هناك فارقاً كبيراً بين أن يعيش هذا الفن بشكل عادي، وبين أن يعيش بالشكل الكثيف والعنيد الذي يعيشه فن أم كلثوم. فلئن كانت الفنون تحال، بعد موت أصحابها، الى المتاحف والى الذاكرة، لتوجد بعيداً عن يوميات الناس، من الواضح أن فن سيدة الغناء العربي، ليس من النوع الذي يعيش في المتحف ولا حتى في الذاكرة. إنه فن يعيش في يوميات الذين يحبونه. والذين يحبون فن أم كلثوم يعدّون بمئات الملايين. هؤلاء يعيشون "فن الست" وكأن "الست" تعيش معنا. من ناحية مبدئية كان يتعين على جمهور أم كلثوم، بعد ربع قرن من رحيلها، أن يكون جمهوراً عايش أيام عزها وأيام العصر الذهبي للفن الغنائي العربي. كان يتعين عليه أن يكون جمهوراً، عايش ولادة بعض أجمل وأحدث أغانيها. لكن المفاجيء مع أم كلثوم هو أن معظم محبي أغانيها اليوم، ابناء أجيال لم تولد إلا بعد رحيل أم كلثوم. وإذا كان مسلسل انعام محمد علي/ محفوظ عبدالرحمن، قد حقق كل ذلك النجاح الذي حققه، فإن السبب يعود، في رأينا، الى كونه قد عرف كيف يتوجه الى أجيال ما - بعد - أم - كلثوم. وكان ذلك هو امتحانه العسير. والمفاجيء هنا هو أن تلك الأجيال تقبلت سيرة حياة "ثومة" تماماً كما تتقبل اغانيها: بحماس، بفرح وبحب. وهكذا، بدلاً من أن نقول بأن أم كلثوم عاشت، طوال شهر رمضان الفائت، داخل كل بيت عربي، يمكننا أن نقول ان كل انسان عربي، عاش طوال شهر وأكثر، داخل حياة أم كلثوم، رآها معاصرة راهنة حديثة مبدعة وصاحبة شخصية خلاقة. رآها، تماماً كما كان ابناء الأجيال السابقة يرونها، حين كانت - جسدياً - لا تزال تعيش بيننا، نترقب أغانيها الجديدة في أمسيات الخميس الشهيرة. يبقى لعلم الاجتماع أن يفسر هذه الظاهرة، ويبقى للأرقام ان تجدد مرة في كل عام، ذلك التأكيد على أن كوكب الشرق، لا تزال المغني الذي يقبل الناس على شراء اسطواناته وشرائطه، أكثر من أي مغن عربي آخر ودائماً حسب احصاءات اليونسكو. أما نحن فيفرحنا دائماً هذا الحضور لأم كلثوم في حياتنا، يفرحنا هذا الاهتمام المتجدد بفن أم كلثوم، ومن خلالها بكل فن أصيل. فبالنسبة الينا يكاد يكون الاقبال على أم كلثوم واغانيها، وازدياد هذا الاقبال، وازدهار هذه الأغاني، اشارة الى أن في امكاننا ان نأمل أكثر وبشكل افضل، في أن الأجيال الجديدة - الأجيال التي تكتشف أم كلثوم بفرح وشغف - ليست كما يحاول البعض أن يقول: أجيالاً ميؤوساً منها. وهذا الواقع يكاد يكفي وحده لكي يكون سبباً للفرح، الفرح الذي يقودنا الى سماع أم كلثوم أكثر وأكثر، وبحب يكبر مع مرور الوقت... هذا اذا كان في حاجة، أصلاً، لأن يكبر. "عين"