تتفاضل الأمم بقدرتها على التنوع، وتتمايز بقدرتها على التعايش. التنوع والتعايش قضية فكرية طالما شغلت أذهان الكثير من المفكرين والباحثين، وشكلت عمود ارتكاز الكثير من الحضارات المزدهرة عبر التاريخ، فبقدر تعدد الأفكار وتنوعها يكون النمو، وبمقدار تعايش تلك الأفكار في بوتقة واحدة يكون الازدهار الذي تصبو اليه جميع الأمم الواعية. ولذلك تميزت العصور الأولى من الفترة الاسلامية بنضارتها ورونقها الفكري التنويري الذي لم يكن ليتأتى لولا فهم أولئك النفر من الرعيل الأول لأهداف ومبادئ الدين الاسلامي السمح، الداعي الى حتمية القبول بالآخر انطلاقاً من قول الله جل جلاله ولو شاء ربك لجعلكم أمة واحدة... وقوله تعالى لا إكراه في الدين الذي يتوافق مع قوله جل جلاله وهديناه النجدين... وغيرها من الآيات العطرة، وانطلاقاً من أقوال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وسلوكياته وأعماله تجاه المخالفين له منهجاً وحياة، فلم يُغيِّب الآخر المخالف له بعد استقراره في المدينةالمنورة، حيث تعاهد مع يهود يثرب، والتزم بحفظ حقوقهم المادية والمعنوية، بل جعلهم أمة مع المؤمنين كما جاء في العهد الذي كتبه مع يهود بني عوف بقوله: ... وان يهود بني عوف أمة من المؤمنين،لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم... فما أجمل هذا الإقرار بالتنوع، وما أروع هذا الإصرار على التعايش في الحياة الدنيا. ولم يقتصر ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل امتد هذا المفهوم ليتجسد في سلوكيات وأعمال الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم من واقع تعاملهم السمح مع الآخر، والحرص على حفظ حقوقه، فهذا أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يأمر بالإنفاق من بيت مال المسلمين على أحد العجزة من أهل الذمة قائلاً: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال. وفي وصيته للأشتر حين ولاه على مصر أمر بالرفق بالرعية أياً كانت ملتهم حيث قال: ولا تكنن سبعاً ضارياً فتغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق. إذاً فالتنوع والتعايش قضية محسومة في المنهج الإسلامي، دعا إليها قرآننا الكريم في كثير من آياته، ومارسها خاتم أنبيائه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتجسدت في أعمال وسلوكيات خلفائه الراشدين وتابعيهم من العلماء والعمال والولاة الصالحين، كما انها قضية متلازمة مع العلم والعدل، فمتى تحقق ذلك، كان التنوع والقبول بالآخر، ومتى ساد الجهل والظلم، كان التعسف بالرأي وتغييب ومصادرة الآخر. وأحسب اننا بحاجة الى تدريب تربوي مستند على تعلم ادراك الآخر، واحترام ما ينبثق عنه من آراء وأفكار حتى نتمكن من تحقيق فكرة التنوع والتعايش. وفي هذا الإطار، طالعت كتاباً - هو نسيج وحده - لسماحة الشيخ حسن الصفار بعنوان "التنوع والتعايش... بحث في تأصيل الوحدة الاجتماعية والوطنية"، وهو كتاب تترقرق ألفاظه، وتنساب معانيه، وتتدرج أفكاره، لتكشف عن ذهن وهاج، منفتح على الآخر بوعي وإدراك، كتاب يحوي بين طياته معاني ما أحوجنا الى فهمها وتجسيدها في معاملاتنا الحياتية التي تنفتح الحياة فيها بعضها على بعض، وتتفجر خلالها القنوات المعرفية، وتنصهر فيها المجتمعات بإرادة أو لا إرادة منها، وحينها يصبح من العسير تلمس الذات والوقوف على كنهها ان لم يحتط الانسان بالتشبث بالثوابت الرئيسية الرافضة للجمود والتخلف، والداعية للانفتاح على الآخر المتدفق بواقعية وإدراك! كتاب استجلب فيه مؤلفه الكثير من الشواهد القرآنية، والأحاديث النبوية، والأحداث التاريخية، الدالة على حتمية التنوع وحدوثه في المجتمع الاسلامي عبر مختلف العصور، ولم يكتفِ بذلك، بل نظر فيه لكيفية امكان التعايش مع واقع حديثه عن معوقات ذلك التعايش أولاً، ثم بالحديث عن أفضل السبل للتعايش الذي من شأنه إحياء الأمة وتوحيد صفها، كتاب يعكس فيه مؤلفه منهجاً وفكراً راقياً آمن به من قبله الأئمة المنتجبون من آل البيت النبوي، والعلماء الصالحون عبر مختلف الحقب التاريخية، فما أحوجنا في هذه الأيام الى تتبع خطاهم الفكري، وما أحوجنا الى رفع رايات هذا المنهج لنعكس الروح الاسلامية الواعية.