حين ألف الأستاذ مصطفى الشكعة كتابه «إسلام بلا مذاهب» أراد أن يقدم للأمة الإسلامية رؤية فكرية تساعدها على الخروج من أزمة التعصب الخانقة ، التي نتج عنها بروز كثير من ألفاظ التبديع والتفسيق والتضليل ، بسبب تشنج هنا ، وحدة في الرأي هناك ، وكان تصوره بأن المخرج من ذلك يعود إلى نبذ المذهبية وترك الآراء والاجتهادات المختلفة ، والعودة إلى روح الإسلام الأول بحسب فهمه وتصوره . وفي اعتقادي أن ذلك كان سيكون مخرجا فعليا لأزمتنا الفكرية ، لو أن أفهام الأوائل كانت متطابقة بشكل كلي ، لكن ذلك يتعارض مع طبيعة الخلق ، ويتنافى مع واقع الصيرورة التاريخية . من هنا كان الانسياق وراء أطْر الناس على رأي واحد وفكر واحد ، من أكبر الإشكالات التي كان من جرائها تفاقم أزمتنا الفكرية على مر الحقب التاريخية ، لاسيما وأن الأمر قد ارتبط بفهم خاص لحيثيات بعض النصوص الدينية ، التي تم تفسيرها بشكل متزمت إقصائي ، بما يتناسب مع رأي كل تيار فكري ، ليتصور علماء كل فريق أن منهجهم هو الموافق لمراد الله ، المتطابق مع الحقيقة الربانية ، وأنهم بذلك قد مثلوا أصل الفرقة الناجية على هذه الأرض ، وهو لب جوهر أزمتنا الفكرية الخانقة ، وعقدته القاتلة . هذا النموذج في التفكير هو الذي أدى إلى ضمور حالة التسامح والقبول بالآخر ، وعزز من روح التشدد والتعصب المقيت ، ولاشك أن ذلك أبعد ما يكون عن جوهر مراد الله البيِّن في كثير من آيات الذكر الحكيم ، التي عزز الله فيها حتمية الإيمان بخاصية التنوع ، بوصفه قيمة ربانية سامية ، ليعيش بنو البشر آمنين مطمئنين ، مع احتفاظ كل منهم بقيمة ما يؤمن به ويعتقده ، والآيات على ذلك عديدة منها قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) وقوله (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فاستبقوا الخيرات ، إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) وقوله (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} وقوله {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين)، إلى غير ذلك من الشواهد النبوية التي دللت على حتمية التنوع كثقافة دينية قبل أن تكون ثقافة مجتمعية ، فكان قبوله عليه الصلاة والسلام لليهود في صحيفة المدينة ، وكان احترامه لوفد نصارى نجران وحفظ حقوقهم في وثيقته لهم ، على الرغم من تراجعهم عن مباهلته ، وسقوط مشروع إنكارهم لنبوته صلى الله عليه وآله وسلم ، ومع ذلك فلم يعمد إلى التضييق عليهم ، أو إجبارهم على الدخول في دينه الخاتم ، لكونه قد أراد أن يعزز من روح التسامح في صفوف أصحابه ، ولا يتأتى ذلك فعليا إلا بالقبول بثقافة التنوع بشكله الصحيح الإيجابي ، وهو ما فهمه أصحابه رضوان الله عليهم ، فلم يفرض أحد رأيه على الآخر حال اختلافهم في عديد من القضايا الفقهية وتأويلاتهم الدينية ، والحال أيضا كان منطبقا على تابعيهم ومن جاء بعدهم من العلماء الربانيين، الذين رفضوا فكرة احتكار الحقيقة، وصحة اجتهادهم بشكل مطلق، معززين بشكل سلوكي جوهر الإيمان بثقافة التنوع ، الذي يمثل سمة إيمانية قبل أن يكون سمة أخلاقية. وهو ما أدركه الأوربيون منذ إصدارهم لمرسوم نانت الفرنسي الشهير سنة 1598م، وغفلنا نحن عنه.