إستر تسيملري - هارتمان فتاة سويسرية، ولدت في مدينة الاسكندرية سنة 1934، وعاشت فيها حتى سنة 1950، حيث عادت إلى بلادها سويسرا، ثم عاودها الحنين إلى الاسكندرية، فجاءت إليها مرتين، مرة في سنة 1987 والأخرى في سنة 1991، وعلى رغم أن مذكراتها عن مصر عنوانها "حياتي في مصر - مذكرات فتاة سويسرية عاشت في الاسكندرية 1934 - 1950" إلا أن هناك تضليلاً في العنوان، فالأكثر دقة هو القول "حياتي في الاسكندرية". فالمدينة تلخص الوطن المصري كله بالنسبة إليها، وهي عندما تتكلم عن الاسكندرية في هذه السنوات العصيبة، تبدو أمام نفسها كما لو كانت تتكلم عن مصر كلها. ترجم مذكراتها محمد أبو رحمة، وقدمها شوقي فهيم حيث يقول عن رؤية المؤلفة لمصر: سوف ترى أن معرفة إستر الاساسية بالمجتمع السكندري في الاربعينات من القرن العشرين تتركز في الجاليات الأوروبية التي كانت تعيش في الاسكندرية في ذلك الوقت. أما معرفتها بالمجتمع المصري، فتكاد تنحصر في طبقة الباشوات ثم في طبقة الخدم والباعة في أسواق الاسكندرية. وإستر تبدأ القصة من أولها، حتى قبل أن تأتي إلى هذا العالم: في كانون الأول ديسمبر 1929 رحل أبي إلى القاهرة وقد استغرقت رحلته من جنوة إلى بورسعيد أربعة أيام. وهكذا صار موظفاً لدى الحكومة المصرية في عهد الملك فؤاد. وهي تحكي كيف تعرف والدها إلى أمها وكيف تزوجها وجاءا الى مصر. وعندما يصلان إلى الدلتا تقول عنها: صومعة غلال مصر. وتذهب الأسرة إلى العجمي بالاسكندرية فتحرص على القول إنها تبعد عشرة كيلومترات غربي الاسكندرية، مع أن العجمي الآن جزء من الاسكندرية. وتقص قصة انشاء مدينة الاسكندرية منذ الاسكندر الأكبر حتى محمد علي الذي تعتبره مؤسس الإسكندرية الحديثة. وتقرر أن المدينة رحبت بالمسيحيين الأوروبيين، وأن اليهود عاشوا فيها منذ تأسيسها الأول، وأن الكل تعاملوا بسماحة وحب. وتقول إنه خلال الحرب العالمية الثانية كان يعيش في الاسكندرية ألف سويسري، وكان فيها كثير من الألمان منهم رودلف هيس نائب هتلر الذي ولد في الاسكندرية. تكتب: كان الواقع اللغوي والثقافي في الاسكندرية عبارة عن لوحة فسيفساء من حضارات البحر المتوسط، كانت غنية ومتنوعة، وغنية بألوانها تماماً، مثل مجموعة البهارات التي تقدمها الأسواق الشرقية، وكان تعداد سكان مدينة الاسكندرية - حين استقر بها والدي- 800 ألف نسمة، وكان مرض السل متفشياً فيها حينذاك، ولم يكن فيها طبيب للأمراض الصدرية، فكان علاج السل يقتصر في الأساس على إعطاء المريض دواء لعلاج الحمى. وقد عالج والدها الكثير من المرضى الفقراء الذين لا يحسبون قيمة للوقت. وقد زارته في عيادته مريضة مهمة هي والدة الملك العراقي الشاب فيصل، الذي اغتيل بعد ذلك بسنوات قليلة. تحكي عن بدوية جاءت الى عيادة والدها، كانت تعاني مرضاً عضالاً، ولا بد من اجراء عملية لها تتكلف مبلغاً كبيراً من المال، وعندما أخبرها الدكتور بضخامة المبلغ المطلوب - وهنا نظرت البدوية إلى أبي وأشارت إلى ذراعها الذي غطته أساور ذهبية من المعصم حتى الكوع وأخبرته أنه ما عليه سوى إخبارها بعدد الأساور التي تحتاج إليها تكاليف العملية - كان الناس في ذلك الوقت يخشون إيداع أموالهم في البنوك وبدلاً من ذلك كانوا يشترون بهذا المال ذهباً أو أرضاً زراعية. تتكلم عن المصريين الذين شاهدتهم في طفولتها: أطفال متسولون بملابس مهلهلة، وعيون تختفي وراء الذباب. حرارة الجو مرتفعة أثناء الصيف، وأفضل من كانوا يقومون بعمل الخدم هم النوبيون الذين ينتمون إلى صعيد مصر، وهؤلاء كانوا يتميزون بلون بشرة داكن، على النقيض من المصريين ساكني شمال الوادي الذين يتميزون ببشرتهم الفاتحة، وكان لبعضهم ملامح تركية. أما السفرجية فكانوا يتمتعون بطول القامة وعزة النفس، وعندما يجهزون مائدة الطعام كانوا غالباً يرتدون الجلاليب البيض بحزام أحمر، ويضعون عمامات أو طرابيش صغيرة حمراً على رؤوسهم. وعندما كانوا يضحكون كانت ضحكتهم الطفولية تضيء وجوههم السمر، وكانت خدودهم تتميز بشقوق طويلة، ولم تكن هذه الندوب تشوه وجوههم، بل كانت علامة تدل على القبائل التي ينتمون إليها. ولأن الكاتبة فتاة وأمها امرأة فهي تحكي عن الخادمة أمينة التي علمت أمها فنون التجميل الشرقي: وفي الصيف كانت أمي تطلب من أمينة - من حين لآخر - أن تدهن ساقيها بالحلاوة وهي عبارة عن كتلة من السكر المغلي بعصير الليمون وتستخدم ساخنة لتوضع على الجسد. وعندما تبرد تكون قد قبضت على كل شعر الجسد. وعند نزعها تأخذ معها كل الشعيرات. وكانت هذه طريقة مؤلمة للغاية، ولكنها مؤثرة، كانت أمي تريد أن يكون لها ساقان ناعمتان جميلتان وهي ترقد على شاطئ البحر، أما نحن الأطفال فكنا نفضل أكل هذه الحلاوة، قبل استعمالها بالطبع. سنوات الحرب العالمية الثانية تلقي بظلالها على هذه المذكرات الجميلة: عندما بدأت قوات المحور في الهجوم بالقنابل على مدينة الاسكندرية، والذي بلغ مداه في عام 1942، في ذلك الحين ابتكرنا وسيلة أخرى للتسلية أثناء الراحة: فقد كنا نتنافس في ما بيننا حول من يستطيع العثور على شظية قبل الآخر، وذلك بالبحث في حدائق منازلنا وكنا أطفالاً صغاراً. لا ندرك مدى الآثار البشعة التي كانت تسببها هذه القنابل. وقبل شن أول هجوم بالقنابل على الاسكندرية في عام 1941 من جانب القوات الجوية الإيطالية، كان قد تم اتخاذ تدابير لمواجهة هذا الهجوم، فقد أعلن عن تعتيم الإضاءة، كما طليت فوانيس السيارات باللون الأزرق. وبدأت عربات مدرعة شبيهة بوابور الزلط، في اختراق شوارع المدينة وكان ينتج من هذه العربات دخان كثيف يوفر الحماية لقوات البحرية الانكليزية المتمركزة في منطقة الميناء. وأضيف الى ذلك نوع آخر من الحماية من خلال البالونات الشبيهة بالمنطاد والتي شدت الى الأرض بحبال غليظة وكانت تصعّب من مهمة طائرات الأعداء عندما تلجأ إلى الطيران المنخفض. كان هذا هو العصر الذهبي لسائقي التاكسي وماسحي الأحذية الذين استغل البعض منهم ذلك. فإذا أراد جندي من الحلفاء مسح حذائه هجم عليه أكثر من واحد من هؤلاء "البوهيجية" وكان الفائز أكبرهم سناً وأضخمهم جسماً. وكان الانكليزي يشغل وقته بمطالعة الجرائد ولا يلحظ أن الصبي الماكر قام بربط حذائه إلى بعضه بعضاً. وعندما يدفع الجندي للصبي بورقة فئة الجنيه وينتظر الباقي، يفر الصبي هارباً ليختفي في أول شارع يقابله وهو يغالب الضحك. أما الجندي المقيد فكان يقف مكفهر الوجه. كان عليه أن يتحرر من قيده أولاً. أما السلع الغذائية مثل السكر والشاي فكانت تصرف في صورة حصص إلا أن الغالبية لم تكن تهتم بهذا، فمن خلال البقشيش والعلاقات الضرورية الجيدة، والموظفين الفاسدين - إلى حد ما - كان يمكن اجتياز مثل هذه المصاعب، أما السلعة التي عانينا نقصها بحق فكانت البطاطس. وكنا نحن نستخدم البطاطا كبديل للبطاطس. كانت هناك رقابة على الرسائل، تحكي إستر. وكانت غالبية الرسائل بين مصر وأوروبا تحتاج إلى شهور أو أعوام حتى تصل للمرسل إليه، وقد حدث أن تسلّم أبي رسالة من بازل. وتعجب كثيراً لحال اليأس التي كانت عليها أخته، فقد كان من بين ما كتبته له: أرجو عند وصول الرسالة أن تكون أوضاع الحلفاء قد تحسنت. وكانت الرسالة قد وصلتنا في اغسطس 1945، ولهذا فإن أبي دهش دهشة بالغة لأن الألمان كانوا قد استسلموا بالفعل في 7 أيار مايو 1945، فأخذ الرسالة مرة أخرى بين يديه، ولحظ أن اخته كانت قد كتبتها في 21 أيار مايو عام 1940، لقد قارب ذلك المعجزة، أن تصل اليه هذه الرسالة بعد مرور خمس سنوات على كتابتها. كانت الفجوة الاجتماعية في مصر بين طبقة الباشوات الحاكمة وعامة الشعب واسعة بلا قرار، فهؤلاء الاقطاعيون الأغنياء على نحو لا يمكن تصوره، كانوا قد أثروا في حساب الفلاحين العاملين لديهم، فحتى منتصف خمسينات القرن العشرين، كان الاقطاعيون يستغلون هؤلاء الفلاحين - إلى حد ما - كعبيد. ولم يكن عمال المدينة أفضل من الفلاحين، إذ طاول الفساد دوائر الحكم، ولذا لم يكن من المستغرب أن يحاول الكثيرون منهم تحسين أوضاعهم المعيشية على نحو غير شريف وقد حدث ذلك تحديداً في سنوات الحرب. كان متوسط دخل 75 في المئة من الشعب المصري قبل الحرب العالمية يبلغ ثلاثة جنيهات في العام للفرد، ولذلك لم يكن مستغرباً أن يعمل أطفال الفلاحين في مقابل مبلغ ضئيل عملاً مضنياً تحت رقابة مشرف يمسك بعصا في يده. وتجد صاحبة المذكرات نفسها وجهاً لوجه مع الملك فاروق: كانت الجريدة السويسرية قد نشرت في يوم 29 تشرين الثاني نوفمبر 1944 خبراً عن مباراة بولينغ شارك فيها صاحب الجلالة الملك فاروق الذي كان يتردد غالباً على النادي السويسري للعب البولينغ وقد اعترتني دهشة عظيمة عندما وجدت نفسي لأول مرة، وجهاً لوجه مع الملك فاروق، لقد قام أحدهم بتقديم والدي الى الملك، وهنا سنحت لي الفرصة لمشاهدته عن قرب، لقد كان مختلفاً تماماً عن هذا الحاكم الذي عرفته من خلال الصور التي كنت أراها في المجلات الكبيرة والمكاتب الرسمية، وكذلك كانت هناك طوابع البريد، وبالذات البنية "1 مليم" والبرتقالية "2 مليم" تحمل صورة وسيمة للملك الشاب، أما تلك الطوابع الخضر "3 مليم" والتي ظهرت أخيراً وفي خلفيتها الاهرامات فكانت تحمل صورة لملك بدين إلى حد ما. أما هذا الرجل الذي انحنى والدي أمامه، فكدت لا أتعرف إليه، أما الذي لم أتوقعه فهو شعره الأشقر وعيناه الزرقاوان. تلك الملامح التي تشي بأصله الألباني، إضافة الى زيادة وزنه الواضحة. تعود إستر إلى الاسكندرية في مايو 1987، وتبحث عن اسكندرية طفولتها، اسكندرية زمان: بكيت بداخلي عندما مر "الاتوبيس" الذي يحملنا في ميدان وسط المدينة الخالي من الناس، والذي صار اسمه ميدان التحرير، والذي لم يترك في نفسي أي انطباع وصارت الريح تطيح جرائد قديمة، وعلب كوكاكولا فارغة، ونفايات اخرى، ولم يكن هناك سوى بعض الاشجار الجافة الشعثاء، تعطي المكان مسحة خضراء، لم أدر في أي مكان نحن، إلا عندما رأيت التمثال البديع لمحمد علي، فوق حصانه، فتذكرت انه ميدان محمد علي القديم، لقد تغير كل شيء. غالبية المباني ما زالت موجودة ولكنها لم تعرف الطلاء منذ أكثر من ثلاثين عاماً، واللوحات المعلقة على المنازل والمحال حملت كلها اسماء عربية، ولم أعثر على لافتة في أي مكان مكتوبة بالفرنسية أو الانكليزية، كما انني لم أر أوروبياً واحداً، فأدركت انني الآن في مدينة عربية، اقتربت في طابعها من مدينة القاهرة، والقاهرة نفسها كم تغيرت. في الماضي قبل أربعين سنة من الآن، عندما رأيت الاهرامات للمرة الأولى، أحسست بسطوتها وجلالها. أما الآن، وبعد أن اقترب العمران من سطوحها، أشعر أنها فقدت شيئاً من سحرها وسموها، وفي الطريق الرئيسي الذي يربط الجيزة بوسط القاهرة، رأيت ما لم يكن بحسباني: الفيلات الفخمة بحدائقها الغنّاء حلت مكانها عمارات غير منتظمة، أما الفيلات المتبقية التي عاصرت زمناً أفضل، فكانت تبدو مختفية تحت وطأة حصار العمارات السكنية العالية. * روائي مصري