يختلف الدارسون للفكر العربي الحديث بشأن مسألتين تتعلق كلتاهما بالتشكيل الثقافي للوطن العربي. أولى المسألتين: متى ظهر الفكر العربي الحديث، أو ما هي نقطة بدايته؟ وثانيتهما: طبيعة الإحياء الإسلامي ووظائفه في التشكيل الثقافي العربي الراهن. والواقع أنّ طرائق الطرح للمسألتين تضيف غموضاً على معنى وعناصر التشكيل بدلاً من أن توضحها. فسؤال البدايات يجاب عنه عادة بإحدى إجابتين: الإجابة السائدة أنّ صدمة الغرب كانت وراء ظهور الثقافة العربية الحديثة، والمعنيُّ بصدمة الغرب بالتحديد الغزو الفرنسي لمصر، أما الإجابة الأخرى فتذهب الى أنّه كانت هناك تشكيلةٌ ثقافيةٌُ عربيةٌ وإسلاميةٌ قد بدأت بالظهور والتكون في القرن الثامن عشر، أي قبل الظهور الفرنسي أو البريطاني في المشرق. وهكذا فإنّ الدخول الفرنسي والبريطاني إنما قضى على تجدد أو تجديد ذاتي، لصالح حداثية غربية1. والواقع أن الغرب لم يظهر في المشرق مطلع القرن التاسع عشر، بل كان عندنا منذ القرن السابع عشر: يحتلُّ شواطئ في سائر البحار الشرقية، ويضع من خلال تجارته وحروبه في المنطقة وعليها، الشروط الجديدة للحيوات الجديدة. وعندما نتحدث عن المنطقة" فإنما نعني بها ما كان يُعرف بدار الإسلام، التي كانت تسود قلبها في القرن السابع عشر ثلاث امبراطوريات متنافسة، بينما تتهمّش أطرافُها وتنكمشُ تدريجاً تحت وطأة الاستعمار. وأياً يكن رأيُنا في مذهب القائلين بالتجدد الذاتي في القرن الثامن عشر" فالواقع أنه كانت هناك ثلاث ظواهر لا ندري حتى اليوم مدى ترابطها أو تلاؤمها: التجدد أو الإحياء السلفي، وكانت قضيته التوحيد ومكافحة ألوان الإسلامي الشعبي، والإحياء الصوفي، وكانت قضيته استحداث مجالات جديدة للتواصل والتضامن، والإصلاح الفقهي، وكانت قضيته التلاؤم مع المتغيرات2. وقد استمرت هذه الظواهر وتعمقت في القرن التاسع عشر" فلا يمكن القول من هذه الناحية إنّ الأوروبيين أحدثوا قطيعةً بين القرنين أو التجديدَين على أن ما أقصده من وراء هذا الاستطراد كله أن سؤال البدايات التبسيطي هذا، يُخفي وراءه من حيث يقصد أو لا يقصد اعتقاداً راسخاً بأنّ العالم الإسلامي - ومن ضمنه بلدان الوطن العربي - مرّ بعصور انحطاط وجمود استمرت لحوالى الألف عام. وهذا الاعتقاد الذي تكرر كثيراً لدى الإصلاحيين والإحيائيين والتحديثيين على حد سواء، يظلّ وارداً سواء ذهبنا الى أنّ النهوض بدأ في القرن الثامن عشر، أو تسبّب به المستعمرون في القرن التاسع عشر! لقد استُخدمت مقولة الانحطاط هذه بأشكال مختلفة على مدى القرن العشرين، بل قبل ذلك. وكان المقصودُ بها في البداية تسويغ الاجتهاد والتجديد والخروج على التقليد. فلمّا اشتدّ عضدُ السلفيين صار المقصود بها تعليل الانحراف عن الصراط المستقيم. وأضاف القوميون والتحديثيون على ذلك اعتذاريةً قصدوا من ورائها تبرئة العرب من المسؤولية في الانحطاط والتراجع، وإلصاق التهمة بالأعاجم على اختلاف أصنافهم وبخاصة الفرس والترك. والحق أن شيئاً من ذلك لا يمكن إثباتُه، على رغم أن ابن خلدون نفسه تحدث عن "الخمول" الذي رآه مسيطراً في عصره! فمن الناحية السياسية، ما عرفت دارُ الإسلام دولاً وإمبراطوريات أقوى من الدول والإمبراطوريات والسلطنات التركية. ومن الناحية الثقافية، سواءٌ ما تعلق منها بأنماط الحياة والعيش، أو ما تعلّق بمدوّنات وأدبيات الثقافة الفصيحة" فإن المدن والأرياف على حد سواء، شهدت بعد انقضاء الحروب الصليبية، والاجتياح المغولي ازدهاراً ورفاهاً لم تعرفه من قبل، فظهرت أصناف أدبية وثقافية شتى أنست الناس الحروب والاجتياحات السابقة. والواقع أن الدراسات والبحوث التي أُجريت في العقود الأخيرة، كان ينبغي بالجديد الذي أتاحته، أن تزيح النظرتين على حد سواء، أعني نظرة النهوض الذاتي في القرن الثامن عشر، أو النهوض بالغرب في القرن التاسع عشر. إن الذي حدث أننا ظللنا نتقدم بالخطوات الكلاسيكية المعروفة، وسط المثلث الحضاري الذي كان سائداً وكنا نحن طرفه الأقوى: دار الإسلام، والصين، وأوروبا. ثم كان أن خطى الضلع الأوروبي من أضلاع المثلّث خطوات واسعة الى الأمام" في حين ظللنا نحن والصين نتقدم بالخطوات الوئيدة المعروفة في التشكيلة الثقافية التاريخية. فلسنا نحن الذين انحططنا أو تأخرنا، بل الأوروبيون هم الذين تقدموا بوتائر متسارعة، حتى أُتيح لهم أن يستأثروا بالسيطرة على العالم أواخر القرن الثامن عشر، وليس قبل ذلك3. ولست أريد هنا الدخول في تفصيلات حول علل ووقائع التفوق الأوروبي" بل ما أعنيه أن التشكيل الثقافي الذي تتقاطع فيه في المديات الطويلة انماط العيش، والإنتاج الثقافي، والتشكيلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ورؤية العالم والدور فيه، إنما يعاد من خلال الوعي ترتيب أولوياته في كل حقبة بالنظر الى الاحتياجات والتحديات. ولكلا العاملين جدليات علائق داخلية وخارجية، يصعب معها تعيين العنصر أو العامل المحدد في المنظومة، أو لنقل إن العامل المحدد إنما هو التوجه العام أو الأولوية التي تتحرك صوبها النخب السياسية والثقافية في حقبة معينة. ولكي يكون الأمر أكثر وضوحاً نعودُ الى المسألة الأخرى، مسألة الإحياء الإسلامي ومعناه سواء في بيئاته الأولى في القرن التاسع عشر، أو في بيئاته المستجدة في العقود الستة الأخيرة. وعندما نتحدث عن "الإحياء" لا نعني به الإحياء التراثي أو الاستعادة التراثية. فلذلك معنى تقني ما عُرف إلا في العقود الأخيرة، وله علاقة بالوعي من جانب الإسلاميين ومن جانب التحديثيين بأهمية التراث في الصراع الجاري على المجتمع والدولة. فعمليات إحياء التراث نظر إليها التحديثيون باعتبارها انتقاء جدالياً لمصارعة التقليديين والإسلاميين بها. بينما رأى فيها السلفيون الجدد فرصة لدعم منهجهم في التأصيل، والوقوف على أرض صلبة في عمليات التجاذب. إن الذي أقصده بالإحياء هنا هو الوعي الثقافي بالاستمرارية على رغم ظهور التغير في توظيفات عناصر التشكيلة. فرفاعة رافع الطهطاوي 1801 - 1873م عندما كان يؤول أو يعرّف الحرية في الدستور والنظام السياسي الفرنسي بأنها العدل والإنصاف والانتصاف4، ما كان يفتقر الى المصطلح المناسب وحسب، بل كان يتعمد الملاءمة والمقاربة لاستيعاب المتغيرات من ضمن شروط الانتماء. وخير الدين التونسي 1822- 1889م عندما كان يستنصر بحديث ابن قيم الجوزية - 751ه/1351م عن المصالح5 من اجل تسويغ إنشاء مؤسسات جديدة" إنما كان يريد الحصول على مشروعية اعتناق الجديد، مع البقاء ضمن السياق العام. وليس الأمر على هذا النحو لدى الإحيائيين الذين عرفناهم في الستينات والسبعينات من القرن العشرين. فهؤلاء حاولوا وضع نظام إسلامي بطريق التأصيل، في مواجهة ما اعتبروه غرباً وظلاماً. فإذا كان همّ الإصلاحيين التواصُل مع العالم من ضمن الاستمرارية الحضارية والثقافية" فإن الإحيائيين الجدد لا يريدون الاستيعاب بل الاستبعاد حفاظاً على الهوية والخصوصية والتميز6. فالشورى غير الديموقراطية، وحقوق الإنسان غير التكاليف الشرعية، والشريعة غير الفقه وغير القانون...الخ. وهكذا فإنّ الإحياء لدى إصلاحيي القرن التاسع عشر كان هدفه تغليب وعي لا يستشعر الخطر من الجديد، بينما هدف الإحياء المعاصر الاستناد الى وعي قوي بهذا الخطر بالذات، من أجل الاستقلالية الذاتية، وحفظ الهوية. الفكر الأول فكر انتماء واستمرارية، والفكر الثاني فكر هوية وخصوصية وقطيعة. بيد أن خلافات الفريقين التي تستند الى رؤية مختلفة، لا تعني اختلافهم على احتياجات وضرورات: تجديد الإسلام ودعوته، وتجديد فكرة الدولة ومؤسساتها. فلنعُد الى ظهور هذين الهمّين وتطوراتهما. إنّ أول ما يمكن ملاحظته في التشكيل الثقافي الجديد في القرن التاسع عشر عودة الإسلام ورجالاته للاهتمام بالشأن العامّ والتأثير فيه. ويريد الدارسون الأوروبيون للتنظيمات العثمانية أن يعتبروا تدخلات العلماء وفتاويهم أدوات للتسويغ والشرعنة أمام الجمهور، وليس نتيجة وعي بضرورات التجديد الفكري والثقافي والمؤسّسي7. وليس ذلك بالمنزع الذي يمكن إثباته. لكن لو تركنا هذه المسألة جانباً لبعض الوقت، والتفتنا الى نجدٍ ومصر منذ أواسط القرن الثامن عشر وحتى أواسط القرن التاسع عشر، لوجدنا أنّ سلفيي نجد بقيادة الشيخ محمد بن عبدالوهاب 1115- 1206ه/ 1703- 1792م دعموا قيام سلطة سياسية جديدة بعد أن لم يعد ذلك من همّ العلماء والفقهاء أو قدرتهم لحوالى الثمانية قرون. فقد آذنَ ظهور الدولة السلطانية في عالم الإسلام، باستتباب ترتيبات طبقية وسلطوية وثقافية قسّمت المجتمعات الإسلامية الى أرباب سيوف وأرباب أقلام، فنحّت بذلك العلماء عن العناية بالشأن العام" وحوّلتهم الى أرباب وظائف دينية، لا يتجاوزونها كما لا يتجاوزون التنافس في نطاقها الى المجال العام. فحتّى شيخ الإسلام ابن تيمية - 728ه/ 1328م داعية الاجتهاد والتغيير، ما فكّر في الاستبدال بالمماليك المتسلطين، بل أراد العمل على الإصلاح من خلالهم. ويذكر البديري الحلاّق في مذكراته8 نموذجاً لابتعاد العلماء عن الشأن العام خلال العصر العثماني ضمن أحداث سنة 1161ه/ 1748م مؤدّاه أن والي الشام أسعد باشا العظم دعا العلماء لتسلم إدارة المدينة بسبب سفره، فقالوا له، نحن أناس منا علماء، ومنا فقراء ومنا مدرّسون... وإنما أعيان الشام القبوقول أي الانكشارية! فدعا رؤساء الانكشارية وولاّهم! لذلك فإن الجديد الجديد في دعوة محمد بن عبدالوهّاب ذهابه الى أن الإصلاح الديني والدنيوي يحصل عن طريق سلطة جديدة، يعتبر هو نفسه منخرطاً فيها ومشاركاً في المسؤولية من باب الإرشاد والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما في مصر فقد ذهب الشيخ حسن العطّار 1766- 1835 بعد التجربة مع الغزو الفرنسي لمصر 1799- 1801م الى أنّ البلاد لا بد أن تتغير أحوالها9. وأوضح تلميذه رفاعة رافع الطهطاوي 1801- 1873م معنى ذلك عندما أسّس التغيير على الوعي بالمنافع العمومية أو ما نسمّيه اليوم المصلحة العامة10. والعمل من ضمن المصلحة العامة هو شأن الجمهور والعلماء كما هو شأن ولاة الأمر. وهكذا فإن العلماء معنيون بالشأن العام والعمل العام، وباسم الإسلام. وهذا وعي جديد دفع محمد عبده 1849- 1905 الى المشاركة في الثورة العرابية عام 1882م، كما دفع جمال الدين الأفغاني 1838- 1897م للدعوة الى التغيير والثورة. ثم إن سلفيي الشام ما لبثوا أن دخلوا السياسة من باب الاجتهاد، حين مهّدوا للفكرة العربية لمواجهة الطورانية، وللالتفاف في ما بعد حول الملك عبدالعزيز11. فإذا كان التسويغُ الإسلامي للتغيير أداتياً لدى خير الدين التونسي 1822- 1889م وبعض علماء التنظيمات12، فإنه لم يكن كذلك لدى كثرة من الإصلاحيين والسلفيين الذين رأوا أن من ضمن مهامّهم إقناع الجمهور بالتغيير، وما لبثوا أن وجدوا الإطار لذلك في فقه المقاصد الشاطبي ت. بعد 790ه/ 1377م، الذي عنى بالنسبة لهم إدخال الدنيا الحديثة كلها تحت عباءة الإسلام، وإزالة الفوارق بين الشأنين الديني والدنيوي في التفكير وفي التدبير13. ولقد أدّى الوعي الجديد لفئات من العلماء، بدور الإسلام في الشأن العامّ الى حيوية شديدة حتى لدى التقليديين منهم، فكان من ضمن الحركية الجديدة إقرار التنظيمات على رغم بعض التذمّر من صغار رجال الدين. كما كان من ضمنها انبعاث أبعاد ثقافية وسياسية لمفاهيم ومصطلحات وسيطة مثل الشورى والمصلحة والعدل والحرية والأمة والوطن. بل إن علماء تقليديين ما كانوا يقولون بالاجتهاد بوضوح دخلوا في عملية تقنين بعض أبواب الفقه الإسلامي، وكانت ثمرة ذلك ظهور مجلة الأحكام العدلية العثمانية، التي ما تزال عملاً نافعاً بكل المقاييس14. وهكذا انغمس العلماء المسلمون، من الاتجاهين الإصلاحي والسلفي، وطوال سبعة عقود، في كتابات وممارسات مراجعة وملاءمة للمصطلحات والمفاهيم والأدوار والمهمات، أدخلتهم وأدخلت الإسلام في ثوبه الجديد في خضم عمليات التغيير الزاخرة في الفكر والمجتمع والدولة. ولذلك فإن التشكيل الثقافي الذي تبلورت معالمه في العقدين الأولين من القرن العشرين، والذي جرت محاولات للعودة إليه في تسعينات القرن العشرين، كان حافلاً بالنتاجات الإسلامية وبالصورة الجديدة للمفكّر الإسلامي عن دوره ومهماته وآماله، ووجوه قوته وقصوره. والواقع أنّ هذا العرض المختلف لإسهامات المثقفين المسلمين في تشكيل الثقافة الجديدة للمجتمعات العربية الإسلامية، يبدو غريباً اليوم، لثلاثة أسباب: العروض الحديثة والمعاصرة لتاريخ الفكر العربي في ما عرف بعصر النهضة، والتي تُخضعه لثنائية: حداثة/تقليد، وهجمات الإحيائيين الإسلاميين المعاصرين على إصلاحيي القرن التاسع عشر والعشرين. والسبب الثالث القُصور الذي ظهر في المشروع الإصلاحي عن الملاءمة بين أولوية التقدم، ومطالب الحداثة الاجتماعية والسياسة. فالإحيائيون المعاصرون يصِمون المشروع الإصلاحي بأنه كان مشروعاً للتغريب الثقافي أفكاراً وأشخاصاً. وبذلك يضعون نتاجاته كلها تحت مجهر النقد والإدانة. أما المؤرخون لمجريات وحركيات الفكر الإسلامي في تلك الحقبة" فإنهم يحصرون نتاجاته في مكافحة التقليد، دونما اهتمام كبير بإنجازاته في مجال توليد المفاهيم، والإصغاء لمطالب التقدم الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والتربوي. وبذلك يتبنون صورة عن الإسلام تتوافق والتقليد الذي كافحة الإصلاحيون والسلفيون، فيبدو الإصلاحيون لديهم مثلما بدَوا لدى الإحيائيين الجدد قليلي الدين، ومتغربين أيضاً15. والواقعُ أن الفكر الإسلامي الإصلاحي يملكُ جانباً جدالياً في مواجهة تقاليد الإسلام الشعبي، لكن ذلك وجهٌ واحدٌ من وجوهه المتعددة، وهو ليس أبرزها لديهم، بل كان الأبرز لدى زملائهم من السلفيين الذين تحالفوا معهم لعدة عقود. فالذي يتجاهله المؤرخون التحديثيون أن الإصلاحيين كانوا يملكون إيماناً عميقاً بالإسلام وقدرته في قيمه الأصيلة ليس على استيعاب عمليات التقدم وحسب، بل وقدرته الفائقة أيضاً على المشاركة في توليدها وصنعها. وقد كانت هناك تفرقة واضحة في أذهان بعضهم بين ضرورات التقدم، ونوافل الحداثة، وإن لم يطّرد ذلك. فجمال الدين الأفغاني داعية التغيير والتجديد، حمل على الدهريين اتباع مذهب دارون في النشوء والارتقاء لا لشيء إلا لأنه رأى أن تعددية قوانين ذلك المذهب الى الشأن الاجتماعي والسياسي، مضرة بأديان الناس وأخلاقهم. وحسين المرصفي 1889م داعية تجديد المفاهيم، يقول عن العروض العربية للداروينية ما يلي: "... ومنها التفلسف البارد كما تضمنته مقالات قلّد بها بعضهم بعضاً في تخيل أوّلية الإنسان، واستحسان تلك الحال وتسميتها حرية...". ومحمد عبده 1849- 1905 أنكر على فرح أنطون 1874- 1822م قياسه الأوضاع الإسلامية على الأوضاع الأوروبية في العصور الوسطى، للوصول الى تنحية الإسلام عن الشأن العام في مطلع القرن العشرين. ثم إن محمد عبده نفسه كان متردداً أمام الحداثة السياسية لصالح تدرّج لا يصدم السلطات أو المجتمع16. بيد أن الإصلاحيين والسلفيين على حد سواء اندفعوا اندفاعاً قوياً في مكافحة التقليد وأرباب المذاهب الى حدود القطيعة. كما أنهم اندفعوا في مكافحة الاستبداد الى حدود اعتبار الدستور من تعاليم القرآن. وفي الوقت نفسه قدّموا جانب الحداثة السياسية على المسألة الوطنية بطريقة وضعتهم أحياناً في مواجهة مع الوطنيين والمناضلين ضد الاستعمار، باعتبار اختلاف الأولويات. على أن أهم وجوه قصورهم البقاء في استخدام فقه المقاصد في نطاق العموميات، وعدم القدرة على إيضاح جدليات العلاقة بين مقاصد الشريعة ونصوصها، أو بينها وبين مصادر الاستنباط لدى أرباب المذاهب. فبدا اللجوء الى المقاصد أحياناً تهرباً من النصوص أو الحكم الشرعي، وكان ذلك بين أسباب الافتراق بينهم وبين السلفيين منذ الثلاثينات. ولذلك فإن امام تحديات العشرينات وجد الإصلاحيون انفسهم وحيدين. فالتحديثيون اكتفوا بالدستور وبالحداثة السياسية والاجتماعية، فدعموا إنشاء الدول الوطنية أو القطرية المعادية للإسلام أو المحايدة إزاءه. والتقليديون ازدادوا اقتناعاً بعدم الاستجابة لإغواء الإصلاح واللامذهبية. والسلفيون تعزّوا بظهور الدولة الجديدة في الجزيرة العربية، لينهمكوا في جدال لا ينتهي مع الإسلام التقليدي وتجلياته الشعبية. على أن تراجع الاتجاهات الإصلاحية تدريجاً منذ العشرينات، ما قلّل من قدر إسهامات الإصلاح الإسلامي في التشكيل الثقافي العربي الحديث كما تجلّت في: تلك النقاشات الغنية عن علاقات الإسلام بالعلم والحداثة العلمية والنظريات العلمية حتى غير الثابت منها. وتلك النقاشات والكتابات حول المدنية والتمدن والعمران، وقضايا المرأة والإنسان، والعلائق بالحضارة الحديثة وقيمتها. وتلك الكتابات عن حضارة الإسلام وقيمه الحضارية الأصيلة التي لا تتلاقى مع قيم العدالة والحرية والتقدم وحسب، بل إنها تحفز عليها، وتتجنب مزالقها واندفاعاتها بالنظام الأخلاقي السامي الذي يشكل سقفاً لها وهدفاً. وتلك الكتابات عن المنافع العمومية وعن التنظيمات أو كيف يتجلى الوعي بالشأن العام في مؤسسات لدولة حديثة. وتلك الكتابات الجدالية اخيراً في مواجهة التقليد، وفي ضرورات تجديد دعوة الإسلام وفقهه. ما بدا الصراع صراعاً على المجتمع والدولة إلا عندما بدأت معالم الدولة الوطنية بالتبلور في حقبة ما بين الحربين. إذ إن الجدال الثقافي قبل الحرب الأولى إنما كان يدور على مستويين، مستوى ماهية الإسلام، في مواجهة التقليد الفقهي، ومظاهر الإسلام الشعبي - ومستوى صورة الإسلام ودوره، في مواجهة السياسات الاستعمارية، والصور النمطية الأوروبية عن الإسلام والمسلمين، وبناء المشروع السياسي الجديد. ومن الواضح أن المستوى الأول كان يعني وقوف الإصلاحيين والسلفيين ضد التخلف، والتواكل، والطرقية، وفي صفّ الاجتهاد والتجديد ونقد الأوضاع السائدة من أجل الإصلاح والتغيير. أما المستوى الثاني فكان يعني من جهة دفاعاً عن قيم الإسلام الأصيلة، ومن جهة ثانية انتصاراً للمشتركات الحضارية والثقافية والسياسية، التي تؤسس لدولة جديدة، ومجتمع ناهض. وتغيّر الموقف تغيراً جذرياً مع اتجاه الأتاتوركيين الى إزاحة الإسلام بكل تياراته من حيّز التأثير والفعل، ليس في الدولة والشأن العام فقط، بل وفي المجتمع أيضاً. لذلك بدت كتابات علي عبدالرازق، وطه حسين، وسلامة موسى، واسماعيل مظهر، وأحمد لطفي السيد، التي تكتسح النص أو العُرف، بمثابة القطيعة مع الإصلاحيين بالذات، لصالح حداثة سياسية وثقافية تتلاءم مع متطلبات الدولة الوطنية، وتضع نهاية لكل محاولات التجديد في نطاق الاستمرارية. كان الإصلاحيون قد عملوا طويلاً من أجل مكافحة الاستبداد بوضع الدساتير التي تحدد صلاحيات الحاكم، وتجعل من الشورى أساساً للنظام البرلماني. وفهموا أنّ هذا المسار يُفضي الى قيام ما يشبه الملكية الدستورية في الأنظمة الملكية الغربية. أما الأتاتوركيون فقد وضعوا "سلطة الأمة" في مواجهة الخلافة، وجاء علي عبدالرازق قائلاً إن لا علاقة للخلافة ولا لأي نظام سياسي آخر بالإسلام. وفي الفترة نفسها أقبل طه حسين وأحمد لطفي السيد على ترجمة كتب يونانية عن الفرنسية باعتبار الديموقراطية اليونانية التي هي أساس الديموقراطيات الحديثة في الوعي الأوروبي! بديلاً محتملاً لسياسات الشورى الإسلامية. واعتبر عبدالرحمن الشهبندر أنّ الحلّ الأتاتوركي هو الأفضل للدولة القومية العربية17. وكان الإصلاحيون قد وقفوا موقف المتشكّك ليس من العلم الحديث، بل من الداروينية الاجتماعية والسياسية، فجاء سلامة موسى واسماعيل مظهر وشبلي شميّل، ليقولوا إن الحتمية التطورية في البيولوجيا، تفرض حتمية مماثلة في المجتمع والدولة والحياة الإنسانية والاجتماعية. وكان الإصلاحيون والسلفيون قد ذهبوا الى أن العروبة يمكن أن تكون بديلاً من السلطة العثمانية ذات المنحى الطوراني، لأنها الأقدر على التلاؤم والتناغم مع الإسلام الذي يشكّل عقيدة الأمة، لأنها الأقدر على التلاؤم والتناغم مع الإسلام الذي يشكل عقيدة الأمة، ويتأسس عليه اجتماعها - فتوصل مثقفو الدولة الوطنية البازغة لاعتبار الدين عنصراً واحداً من عناصر تكون الأمم، وهو ليس المقوّم الأول، كما ذهب السلفيون، وأكثر الإصلاحيين. وكان الإصلاحيون، والسلفيون، قد ذهبوا الى أن الشريعة الإسلامية، صالحة لكل زمان ومكان، بالاجتهاد والتجديد من جهة، وبالإصغاء الى فلسفتها ومقاصدها من جهة ثانية. ولذلك رأوا أنه يمكن أحياناً بالتنظيم والتقنين الحديثين الإفادة من الثروة الفقهية الهائلة مثلما حدث في مجلة الأحكام العدلية، كما يمكن أحياناً اخرى بالتوفيق والملاءمة التوصل لصياغة قوانين مدنية شاملة. أما التحديثيون فقد رأوا أن تطورات المسائل منذ منتصف القرن التاسع عشر من النواحي الإدارية والسياسية والثقافية، تضع الميراث الفقهي الإسلامي وراء ظهورنا، باستثناء مجال الأحوال الشخصية، لشدة تمسّك المسلمين به. وليس بالوسع اليوم، وبعد انقضاء اكثر من نصف قرن على القطيعة مع الإصلاحية الإسلامية من جانب التحديثيين، ثم من جانب الإحيائيين الإسلاميين، التفريق بين المصادفة، والوعي القاصد، في محاولات التحديثيين تلك. لكن الأحداث السياسية، والثقافية، والتي توالت منذ عشرينات القرن العشرين، ولّدت إحساساً لدى فئات واسعة من المتدينين المسلمين، أنّ هناك توجهاً يدعمه المستعمرون الأوروبيون لإخراج الإسلام من الدولة والمجتمع والثقافة. وكان هذا الانطباع العامّ وراء انفكاك التحالف بين السلفيين والإصلاحيين من جهة، وفقدان الإصلاحيين لحماستهم واندفاعتهم ونفوذهم لصالح فئات جديدة همّها صون الهوية والدفاع عنها، من جهة ثانية. لقد انهمك بعض السلفيين والتقليديين والطالعين الجدد في مجادلات وحملات متبادلة مع التحديثيين ونتاجاتهم في الثقافة والسياسة والاجتماع. واتخذت تلك المجادلات طابع الصراع على الدولة والمجتمع. بيد أن الملحوظ أن البدائل التي كان المجادلون الإسلاميون يعرضونها جاءت في البداية لصالح التقليد الإسلامي، الذي كان في طريقه للانقضاء في الحقيقة، تحت وطأة ضربات الإصلاحيين والسلفيين طوال ما يقرب من قرن من الزمان. فقد دافعوا عن الخلافة ودعَوا لإعادتها باعتبارها جزءاً من مقدّسات الإسلام، وإن ظلوا مصرين على مدنية نظام الحكم في الإسلام. ودافعوا عن أوضاع المرأة الإسلامية ورأوا أنها افضل بكثير من أوضاع المرأة الأوروبية. واستنكروا النزوع العصبي والعنصري الذي تقوم عليه الدول الحديثة، ورأوا ضرورة الاستناد في المجتمعات الإسلامية الى فكرة الأمة وممارساتها. وقارنوا بين النظم الإسلامية في صدر الإسلام، والنظم الأوروبية الحديثة، وتوصلوا الى أنّ النظم الإسلامية أفضل بما لا يقاس18. الحواشي 1 قارن ببيتر جران: الجذور الإسلامية للرأسمالية، مصر 1760- 1840. القاهرة 1993. وليلى عنان: الحملة الفرنسية. كتاب الهلال1992. 2 أنظر: N.Levtzion, J.Voll, Eighteenth- Century Renewal and Reform in Islam 1987 3 هذه هي وجهة نظر مارشال هودجسون في كتابه: مغامرة الإسلام، ووليم ماكنيل في كتابه: صعود الغرب، وجانيت أبو لغد في كتابها: مرحلة ما قبل الهيمنة الغربية. وقارن عن ذلك، الفضل شلق: الوعي بالعالم، مراجعات ومتابعات. دار الكتاب العربي، بيروت 2000، ص 275 وما بعدها، وص 378 وما بعدها كتاب والرستين: النظام العالمي الحديث. وانظر: تاريخ الإسلام وتاريخ العالم مجلة الاجتهاد، عدد 26/27، 1995. 4 رفاعة رافع الطهطاوي: مناهج الألباب المصرية، الطبعة الثانية، مصر 1912، ص 18-19. 5 خير الدين التونسي: أقوم المسالك الى معرفة أحوال الممالك، تحقيق المنصف الشنوفي، تونس 1972، ص 50- 51. 6 قارن برضوان السيد: حركات الإسلام السياسي المعاصر" في كتابي: سياسيات الإسلام المعاصر، بيروت 1997، ص 184 وما بعدها. 7 قارن بألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة 1798- 1939، بيروت 1977، ص ص 101- 114، وأورييل هايد: موقف العلماء من الإصلاحات في عهدي سليم الثالث ومحمود الثاني" مجلة الاجتهاد، العدد 45/46، ص ص 15- 84. 8 أحمد البديري الحلاّق: حوادث دمشق اليومية. تحقيق أحمد عزت عبدالكريم. القاهرة 1959، ص 111. ولدى خالد زيادة: كاتب السلطان، دار رياض الريس، بيروت 1991، ص ص 107- 112. 9 حاشية العطار على جمع الجوامع 2/225- 226. وقارن بعلي مبارك: الخطط التوفيقية 4/38. 10 مناهج الألباب المصرية، مرجع سابق، ص ص 26- 28. وقارن بمحمود فهمي حجازي: أصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي، القاهرة 1974. 11 قارن ب.د.د. كومينز Commins: الإصلاح الإسلامي. ترجمة مجيد الراضي، دمشق 1999. 12 قارن بمصطفى النيفر: خير الدين التونسي: حسن الإدارة أم دولة حديثة؟ بمجلة الاجتهاد، عدد 16- 17، وخالد زيادة: العلماء وتجربة التنظيمات في القرن التاسع عشر" بمجلة الاجتهاد، السنة الثانية، عدد 5، 1989. 13 قارن برضوان السيد: سياسات الإسلام المعاصر، مرجع سابق، ص ص 244- 246، ومحمد جمال باروت، وأحمد الريسوني: الاجتهاد، النص، الواقع، المصلحة، دمشق 2000، ص ص 106- 116. 14 قارن برضوان السيد: المصطلح السياسي العربي الحديث" في: سياسيات الإسلام المعاصر. 15 هذه أطروحة نيكي كيدي وإيلي خضوري وسيلفيا حاييم وآخرين. وقارن بألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، مرجع سابق. 16 حسين المرصفي: رسالة الكلم الثمان، تحقيق خالد زيادة، بيروت 1982، ص ص 60- 61، ومحمد عبده: الإسلام والرد على منتقديه، والإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، وألبرت حوراني: الفكر العربي، مرجع سابق، ص 178- 179- 193- 196. وانظر فهمي جدعان: أسس التقدم عند مفكري الإسلام. بيروت 1979. 17 قارن بوجيه كوثراني: الدولة والخلافة في الخطاب العربي إبان الثورة الكمالية، بيروت 1996. 18 قارن برضوان السيد: سياسيات الإسلام المعاصر، مرجع سابق، ص ص 158- 163. * كاتب لبناني. والنص محاضرة القاها في مكتبة الملك عبدالعزيز العامة في الرياض، في سياق ندوة "مستقبل الثقافة العربية".