المقترح العجيب أدهش العالم: كيف يعقل ان تفرض غرامة على المشاة قوانين السير المطبّقة على الشاحنات والمركبات؟ هذا المقترح يجد اليوم، في ظل فترة الاعياد التي تحمل معها فيضها من الزحام، من يدافع عنه ويبرره. فالأرصفة تختنق بالمارة، واكياس المشتريات تسدّ الطريق، وبين التذمّر من تباطؤ المتسكعين والتفكير في حل لضبط حركتهم مسافة قصيرة من الاستغراب والاستهجان، لكنها تبدو معقولة الى حد ما. "اوكسفورد ستريت" معلم سياحي وأهم سوق تجارية في بريطانيا، وربما في اوروبا الغربية كلها. قرابة 60 ألف شخص يقصدونه كل يوم. وازدحام اعياد الميلاد ورأس السنة واعياد الفصح قد يرفع العدد الى مليون متسوق وزائر في اليوم الواحد، علاوة على 60 ألف موظف وبائع يعملون في المتاجر الشهيرة التي تصطف على جانبيه. اختراق كتل المتزاحمين في هذا الشارع انجاز فردي في كل مرة يقطعه المرء للتسوق. عبوره يتحول الى اعجوبة لسائقي السيارات. الارقام كثيرة ومثلها الاحصاءات التي تنزع عن الاقتراح المثير الذي جرى التقدم به اخيراً لفرض غرامات على الذين يتباطأون في سيرهم طابع الغرابة الذي قد يتبادر الى الذهن في الوهلة الاولى. زوار الحي الشهير يفوقون سكان روسيا العظمى عدداً. 200 مليون زائر يردون في السنة قاصدين التنقل والتبضّع من 363 محلاً تجارياً كبيراً والتوقف في 50 مطعماً مفتوحة لاستقبال الرواد كل يوم. الذين يقصدون لندن، اهم منطقة جذب سياحي في المملكة المتحدة، يقاربون 13 مليوناً في السنة. تسعة ملايين من هؤلاء السياح يقصدون اوكسفورد ستريت للتسوق والتبضع والتسكع. من التسعة ملايين هناك نصف مليون يلقون رحالهم في فنادق الشارع العريق وينفقون في متاجره وحوانيته وحاناته 1.5 بليون دولار. المحلات التجارية الكبيرة تمتد على مسافة خمسة ملايين قدم مربعة. عند عنوان 363 اوكسفورد ستريت يقع "أتش. ام. في" اقدم مخزن للاسطوانات والكاسيتات الذائعة الصيت ومنها "سلفريدجز" و"جون لويس" و"دبنهامس" و"سي اند ايه" و"ذي بورتون". وهذه يتركز اكثرها في القاطع الشمالي من غرب اوكسفورد ستريت. الشارع تطور، وتطورت في المنافذ المفضية إليه اسواق مجاورة تحمل طابعاً مميزاً في ساحة سانت كريستوفرز وباريت ستريت وجايمس ستريت وغروفنر سكوير وسوهو وساحة سوهو. الوصول الى هذا الشارع الذي يرغب القائمون عليه في فرض ممرين: واحد للمشاة العابرين وآخر للمتسوقين الأبطأ سرعة، يحتاج الى جهد خاص لعبوره لا تلغيه كثرة وسائل النقل العام التي ترفده بسيل لا يتوقف من الزوار. 39 خطاً للباصات توصل الى اوكسفورد ستريت. معدل الباصات وسيارات الاجرة التي تعبر فيه يفوق باصاً كل 15 ثانية وسيارة تاكسي كل خمس ثوان أو ما يعادل 250 حافلة للنقل العام و750 تاكسياً في الساعة. أما مترو الانفاق فينقل الى المحطات الاربع التي يستخدمها النازلون في محيط الشارع 100 مليون مسافر في السنة. ويكفي للدلالة على شعبية هذه السوق التجارية ان محطة مترو الانفاق التي تحمل اسم الشارع والواقعة الى غربه وهي "اوكسفورد سيركوس" تعتبر اكثر محطات المترو اللندني ازدحاماً، إذ ينزل منها 53 مليون مسافر كل سنة. وقد لا تكون القمامة دليلاً في حدّ ذاتها على شعبية أي شيء، إلا أنها في اوكسفورد ستريت تقدم دليلاً ناصعاً على أهمية هذه المنطقة، إذ فيها 300 سلّة قمامة يجري تفريغها ست مرات في اليوم الواحد، وهو ما تعتبره "جمعية اوكسفورد ستريت" برهاناً على ان الشارع العريق يعادل "مدينة متوسطة الحجم". غير ان الشارع لم يكن دائماً مقصداً شعبياً، إذ كان حتى القرن السابع عشر طريقاً للقوافل وقطعان الماشية والمارة الذين كانوا يعبرونه في طريقهم من لندن غرباً قاصدين مدينة "اوكسفورد". لكن تطور الساحات الرئيسية عند اطراف الشارع رسم خطوطه النهائية اواخر القرن الثامن عشر. ولم يبدأ تطوره الفعلي إلا عام 1906 مع افتتاح المحلات التجارية الكبرى فيه، وأولها كان محلات "وارينغ أند جيلوه" للمفروشات ليلحقها "سلفريدجز" عام 1909، ومتاجر اخرى أعطت للحي سمعته كسوق تجارية رئيسية حتى مطلع الثمانينات عندما شهد الجزء الشرقي منه افتتاح محلات حديثة عملاقة لماركات وعلامات تجارية مشهورة اضفت اهمية اكبر على اوكسفورد ستريت، الذي يشكو اصحاب المتاجر فيه من الازدحام اليوم ويطالبون بحلول لمعاقبة المشاة. وقد يكون من الصعب الاحاطة بحجم الجهد الذي يبذل لابعاد اللصوص والنشالين و"باعة الكشّة" عن ارصفة هذه السوق التي تبلغ عوائدها خمسة بلايين جنيه سنوياً نحو 7.5 بليون دولار. لكن الواضح ان لجهد الذي سيبذل للقبض على الذين يسيرون ببطء يكاد يحول المسألة الى مسرحية هزلية قبل ان تبدأ. معاقبة المشاة الذين تقل سرعتهم عن خمسة أو سبعة كيلومترات في الساعة تحولت الى طرفة، إذ أن تغريم السائقين يقتضي التعرّف اليهم وإلى سياراتهم والحصول على ادلة تقدم للمحكمة في حال نظر قاضٍ في الدعوى أو وصلت الى مرحلة الاستئناف، والادلة تحتاج الى اجهزة رادار وكاميرات تصوير وفريق ملاحقة ومحاكم جاهزة. ووجه الطرافة وجده البعض الذي يتخيل المواقف الفكاهية التي قد تحدث عندما يمثل احد المشاة المخالفين أمام المحكمة، فلا يجد ما يدافع به عن نفسه امام القاضي سوى التذرّع بأنه كان شارداً يفكّر او يحلم، او ان قصر نظره منعه من رؤية الممر المخصص للسرعة البطيئة وغيرها من الاعذار التي تلزم الشرطة في حال رفض المخالفون دفع الغرامات، ان تودعهم السجن. ولا يستطيع 60 شرطياً يتولون حماية المنطقة في مخفر ماريلبون المجاور، عن طريق 20 كاميرا تلفزيونية واجهزة اتصال لاسلكية بالمحلات، ان يتفرّغوا لملاحقة المشاة المخالفين، وربما ايضاً ايداعهم السجن مثلاً... في حال كرروا المرور ببطء في الشارع. ويقول المعترضون ان بريطانيا التي يعارض البعض فيها فكرة الاندماج في اوروبا لا تستطيع ان تهمل شرعة حقوق الانسان الاوروبية التي اصبحت نافذة والزامية فيها منذ 11 اسبوعاً. والسؤال الذي يحمل الابتسامة الى شفاه الذين لا يرحبون بفكرة تغريم المشاة لأنهم لا يحملون عدادات للسرعة مثل السيارات والشاحنات هو: هل توافق محكمة حقوق الإنسان الاوروبية على معاقبة اي شخص لأنه لا يعرف كيف يقيس سرعته لدى السير على قدميه؟ الاجابة عن هذا السؤال البسيط قد تعوق أي حل لمشكلة الازدحام المتواصل الذي تشهده أهم سوق لتجارة التجزئة في بريطانيا، إلا اذا أصبحت أحذية المستقبل مزوّدة عدادات لقياس السرعة.