ودعت تونس بعيون دامعة في 9 نيسان ابريل رئيسها الأول الحبيب بورقيبة الذي رحل قبل أن يبلغ المئة بشهر وبعد 13 عاماً من إقالته لأسباب صحية. أتت الوفاة نتيجة أمراض مزمنة لكنها أظهرت درجة المحبة التي يكنها التونسيون للرجل الذي قاد معركة الاستقلال ضد فرنسا ثم معركة بناء الدولة الوطنية. وعكس مستوى الحضور العربي والدولي مراسم التشييع التي تمت في مدينة المنستير والتي أمضى فيها بورقيبة سنواته الأخيرة السمعة الكبيرة التي يحظى بها بوصفه أحد زعماء العالم الثالث في مرحلة ما بعد الاستقلالات على رغم عدائه المعلن للمعسكر الاشتراكي وتحالفه مع الدول الغربية. وأتى في مقدم الحضور الرئيس الفرنسي شيراك والرؤساء بوتفليقة وعلي صالح وعرفات إضافة الى ممثلين لرؤساء دول أخرى. أما على صعيد التغييرات الحكومية في العام المنقضي فيمكن القول إن تونس بدأت سنة 2000 بحكومة جديدة عين على رأسها محمد الغنوشي وزير الاستثمار الخارجي والتعاون الدولي الذي حل محل الدكتور حامد القروي ما عكس تقدم الأولويات الاقتصادية على ما عداها من المشاغل. كذلك شمل التغيير قيادة الحزب الحاكم إذ أعيد عبدالرحيم الزواري الى منصب الأمين العام الذي غادره في مطلع التسعينات فيما تفرغ السياسي العتيق الدكتور القروي لمنصب نائب الرئيس ما شكل تعبيراً عن إرادة مجابهة استحقاقات المنافسة مع المعارضة في ظل التعددية. لكن قلة الانسجام بين الرجلين وحدود ما قدمه "الدستوري" من إنجازات سياسية حالا دون تحقيق القفزة المأمولة. وساهم في ضعف أداء الزواري في إدارة المعركة الانتخابية في رابطة حقوق الإنسان في إقالته من منصبه بعد نحو سنة فقط من تسلمه قيادة "الدستوري" وحل محله وزير الداخلية الأسبق علي الشاوش. احتكاكات عكس التغيير على رأس الحزب الحاكم الحرص على ترتيب شؤون البيت في مواجهة الحملات الإعلامية المتزايدة في الخارج بسبب أوضاع الحريات والتي بلغت الذروة لدى منع الصحافي توفيق بن بريك مراسل صحيفة "لاكروا" الفرنسية من مغادرة البلد وحرمانه من الجواز. وشكلت فترة اضراب الجوع الذي شنه بن بريك لحظة حرجة للسلطات كونها عبأت المنظمات غير الحكومية الأوروبية وقطاعات واسعة من البرلمانيين ووسائل الإعلام ضد الحكم في تونس وشجعت نشطاء حقوق الإنسان في الداخل على تحدي الحكومة والإقدام على الاحتكاك مع عناصر الأمن في شكل شبه يومي للتعبير عن التضامن مع بن بريك الذي لم يكن معروفاً قبل اندلاع المعركة بينه وبين السلطات. وسعياً لتفكيك جبهة المعارضة الداخلية وتنفيس الاحتقان في الخارج أعيد لبن بريك جوازه وتمكن من مغادرة تونس الى فرنسا في الربيع، إلا أن انعكاسات "الخضة" استمرت بعد مغادرة الصحافي المنشق البلد إذ خاطب الرئيس بن علي رؤساء تحرير الصحف الرسمية في لقاء بثه التلفزيون الرسمي معبراً عن انتقاده الشديد لأوضاع الإعلام وحجب جوازات السفر عن نشطاء حقوق الإنسان من دون وجود قرار قضائي. وأتت الانتقادات على خلفية الاستياء الواسع من تعاطي الإعلام الرسمي مع جنازة الحبيب بورقيبة التي امتنع التلفزيون التونسي عن نقل وقائعها على الهواء "لأسباب فنية" فيما كان قادراً على النقل المباشر لمباريات رياضية من بلدان افريقية قصية. وفي سياق عجز الإعلام المحلي عن مواكبة التطورات واستمرار فقده الصدقية أمام الرأي العام اتى الاعتداء الذي تعرض له الصحافي رياض بن فضل رئيس تحرير الطبعة العربية لصحيفة "لوموند ديبلوماتيك" سابقاً في ضاحية قرطاج على أيدي مجهولين أطلقا عليه النار ليكرس انهيار الثقة بالإعلام الرسمي الذي قدم الحادثة على أنها محاولة للانتحار. وكان بن فضل نشر مقالاً في صحيفة "لوموند" طرح فيه قضية الاستحقاق الدستوري المتصل بما بعد الولاية الثالثة الحالية للرئيس بن علي والتي تنتهي في العام 2004. وأعلن الصحافي بعدما استقبله الرئيس بن علي في القصر الرئاسي في أعقاب خروجه من المستشفى أن القضاء كلف التحقيق في الحادثة لضبط الجناة ومعاقبتهم. نفس جديد ولوحظ أن الإعلام المكتوب أخذ نفساً جديداً وتلقى دفعة قوية بعد قضيتي بن بريك وبن فضل وتجاسرت صحف مستقلة في مقدمها "الصباح" يومية على نشر تحقيقات وتحاليل ومواقف لم تكن مألوفة في ظل الإعلام المنضبط طيلة الأعوام السابقة الى حد أن بعض المراقبين وصفوا تلك الفترة ب"ربيع الإعلام". إلا أن احتجاب "الصباح" في الصيف الماضي لأسباب قيل إنها متصلة بأزمة ورق وضع حداً للربيع الإعلامي وإن هي عاودت الصدور لاحقاً. وعلى صعيد الحريات اتسمت المرحلة التي أعقبت قضيتي بن بريك وبن فضل بإجراءات انفتاحية جسدها منح جوازات سفر لنشطاء حقوق إنسان كانوا ممنوعين من السفر بينهم نائب رئيس رابطة حقوق الإنسان خميس قسيلة والناطق باسم "المجلس الوطني للحريات" غير مجاز منصف المرزوقي والناشرة سهام بن سدرين والأكاديمي صالح الحمزاوي. وتطور الصراع بين الحكومة ونشطاء حقوق الإنسان الى معركة قضائية في أعقاب المؤتمر الخامس لرابطة حقوق الإنسان أواخر تشرين الأول اكتوبر الماضي بعد إخفاق المرشحين المدعومين من "الدستوري" في الفوز بمقاعد في الهيئة الإدارية الجديدة فيما حقق منافسوهم فوزاً ساحقاً وظهرت هيئة إدارية طغى عليها المستقلون بزعامة المحامي مختار الطريفي الذي حل محل توفيق بودربالة وكان الأخير يصنف على أنه من المستقلين القريبين الى الحكم. وبعدما بادر الأمين العام السابق "للدستوري" عبدالرحيم الزواري بإطلاق النار على القيادة الجديدة "المتطرفة" قبل تنحيته سارع أربعة عناصر من الفاشلين في الاقتراع الى رفع شكوى للقضاء واستطاعوا استصدار قرار أول بتعليق نشاط الهيئة الإدارية وقرار لاحق عين بموجبه حارس قضائي على الرابطة، فيما أجلت عناصر الأمن القياديين الجدد من مكتبها الرئيسي وسط العاصمة تونس. وتبدأ المحكمة جلسات للبت بأصل الخلاف في الخامس والعشرين من الشهر الجاري لكن أعضاء الهيئة الإدارية تابعوا نشاطهم ورفضوا التشكيك بشرعيتهم كونهم منبثقين من "انتخابات شهد الجميع بنزاهتها" مثلما قال الطريفي. وهكذا سلمت سنة ألفين للسنة اللاحقة ملفاً ساخناً قد يحترق بناره كثيرون مثلما سبق أن أحرق الزواري.