لا جدل في أن الرئيس السوري الشاب الدكتور بشار الأسد، كان وراء القرارات المهمة الأخيرة التي صدرت في 29/11/2000 إثر اجتماع عقدته القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي برئاسته. وكانت من أهم القرارات التي صدرت في سورية منذ أكثر من ثلاثة عقود. وذكر بلاغ القيادة أن هذه القرارات اتخذت في إطار "تفعيل دور الجبهة الوطنية التقدمية وأحزابها - وتعزيز وتنشيط الحياة العامة في البلاد". ونصت هذه القرارات على "الترخيص لأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، بإصدار صحف تنطق باسمها" كما "بحثت القيادة القطرية في تحديث قانون المطبوعات" الذي صدر عام 1949- كما ورد في حق على لسان وزير الاعلام عدنان عمران في حوار تلفزيوني معه مساء 1/12/2000 أي بعد مرور يومين على صدور القرارات المذكورة. واضح ان هذه القرارات تعني في ما تعنيه نقل "الترخيص الضمني" لهذه الأحزاب، في ممارسة نشاطها شبه العلني إلى العلن التام. فعلى رغم وجود مقرات لمعظم احزاب الجبهة إلا أنها، شبه سرية، وإن يكن المسؤولون في أجهزة الدولة عالمين بها جيداً. وكان بعض هذه الأحزاب يخضع منذ سنوات، بعد انشاء الجبهة عام 1972، لضغط قواعده الحزبية من أجل الخروج من تحت الأرض وإصدار صحف علنية تُنشر باسم هذه الأحزاب. ترى هل يمكن القول: "إن هذه الخطوة، جاءت نتيجة ضغوط داخلية، على رغم ان معظم الأشخاص التسعة والتسعين الذين وقعوا عريضة المثقفين الأخيرة، لهم أسماء تتميز بأهميتها الاستثنائية، ويمثلون شرائح واسعة من النخبة المسيَّسة والمثقفة في سورية؟ وعلى رغم أن الرئيس بشار الأسد أطلق من قبل ذلك، سجناء سياسيين أمضوا سنوات في المعتقل. إن هذا يفضي بنا الى القول: إن اطلاق سراح السجناء السياسيين الستمئة - جاء هذه المرة بعد ظهور عريضة المثقفين - كان أيضاً استجابة لضغوط داخلية. هل نتحدث بعدئذ عن ضغوط خارجية "البنك الدولي" مثلاً، كانت وراء ما أقرته القيادة القطرية، بعد أيام قليلة - إن لم تكن ساعات - برئاسة الدكتور بشار الأسد حول "التوجهات المتعلقة بإحداث مصارف خاصة على شكل شركات مساهمة خاصة، أو مشتركة بين القطاعين العام والخاص، وبإصدار قانون لسرية المصارف، وإحداث سوق لتداول الأوراق المالية وتكليف الجهات المعنية بدراسة موضوع هدف العملات الأجنبية وفق الأسعار الفعلية". هناك من يروق لهم أن يجدوا تفسيراً "معيناً" لأي سلوك أو تصرف تقوم به القيادة السورية، منذ أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد. وهكذا فإن فكرة "الضغوط" تظل محببة لديهم أثيرة عندهم، سواء كانت داخلية أو خارجية أو سياسية أو اقتصادية أو عسكرية... الخ. ولكن ماذا، لو أحببنا، أن ننظر في خلفية هذه القرارات، في ضوء الطريقة التي يفكر بها رئيس سورية الشاب. ثمة مدلولات كثيرة، في الامكان استنتاجها من خطاب القسم الذي ألقاه في جلسة أداء اليمين أمام مجلس الشعب في 17/7/2000. فالتعددية والشفافية، واحترام الرأي الآخر، بين هذه المدلولات، ان ايمانه بالتعددية واضح، وهو مرتبط عنده بالموضوعية والنقد... النقد البناء. واذا كانت الشفافية عنده - تصعد من "الذاتي" الى "الموضوعي"، فإنها في الوقت الذي ترتبط فيه بالاعلام، تتطلب فهماً واضحاً لمضمون المصطلح ومعناه. "فالشفافية قبل ان تكون حالة اقتصادية أو سياسية أو ادارية - وما الى ذلك - هي حالة ثقافةٍ وقيم وتقاليد اجتماعية". إذاً، هي حالة عامة تنسحب على صاحبها، بدءاً بذاته، مروراً بأسرته وانتهاءً، بالدولة والوطن. أما الرأي الآخر، فهو عنده جوهر الديموقراطية. ان الانتخاب وحرية النشر وحرية الكلام، هي حقوق، لكنها ليست هي الديموقراطية، بل هي "ممارسات" ديموقراطية، ونتائج لهذه الديموقراطية، لكنها مبنية جميعاً على فكر ديموقراطي. وهذا الفكر يستند على أساس قبول "الرأي الآخر". فالديموقراطية بهذا المعنى "هي واجب علينا تجاه الآخرين، قبل أن تكون حقاً لنا". في منظور هذه المدلولات الثلاثة، تجب رؤية القرارات الأخيرة للرئيس بشار الأسد. وعندئذ تبدو منبعثة من قناعة روحية وفكرية عميقة، وتكون نتيجة طبيعية لهذه القناعة، ولما هو أكبر منها، عنيت النهوض بسورية كي تكون في سباق مع الزمن، لتحصيل ما ينبغي في الوقت المناسب، واستدراك ما خلفته الأيام وراءها. ثم ماذا، كيف يمكن ان تكون ظلال هذه القرارات: "علنية الأحزاب التامة، واصدارها صحفاً" على الأحزاب السبعة المشاركة في "الجبهة الوطنية التقدمية" والممثلة بنسبة معينة في مجلس الشعب ومجلس الوزراء؟ ما هي الأسئلة والأبعاد التي تترتب على هذه الخطوة الجريئة جداً، والحاسمة جداً، والضرورية جداً...؟ هل ستستطيع هذه الأحزاب اصدار صحف يومية، وان لم يكن ذلك في الامكان، فأسبوعية، واذا تعذر ذلك على بعضها، فلتصدر شهرية... أو فصلية. هذا في الوقت الذي تُعدّ فيه، حتى الصحف التجارية خاسرة، لولا الاعلان. ومع ذلك، فإن بعضها يواجه صعوبات مالية لا يستهان بها في مواصلة الصدور. من جانب آخر، فإن اصدار الأحزاب صحفاً علنية، يتضمن تحميلها مسؤولية المضامين التي ستنشرها، وبالتالي فإنه يعني- وعلى نحو أكثر أهمية - نقل عمل هذه الأحزاب!، العلانية الكاملة القصوى، واضطرارها من ثم الى سلوك سبيل الشفافية التامة في سياساتها في مختلف المجالات. في الآن ذاته، فإن هذه الأحزاب ستأخذ حجمها الحقيقي، يستعيد بعضها جماهيره، وقد يكتشف بعضها الآخر، انه بلا جماهير. مما لا بد أن يكون عارفاً به... ضمناً. هكذا فإن "اللعبة الديموقراطية" ستعيد انتاج مضمونها... وسوف تقف هذه الأحزاب حقاً وصدقاً أمام مسؤولياتها الوطنية والقومية. وباتت على عاتقها مهمة "التفكير" في القضايا المهمة على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والخارجية، بما في ذلك استحقاقات الحرب والسلام.. الخ... بدل أن يفكر سواها عنها. وهكذا لا يعود في مستطاع أحد أن يتهرب من مواجهة مسؤوليته واتخاذ موقف جاد. لنمعن النظر، من بعد، في النتائج المترتبة على هذه القرارات. طبيعي ان بين المهمات الأولى لمجلس الشعب - مراقبة أعمال الحكومة ومساءلة الوزراء ومحاسبتهم - لكن ذلك، كما برهنت سنوات التجربة الماضية، غير كاف. ويظل - في الأغلب - طي السر، وخلف جدران المجلس. وهذا يعني ان هذه ستكون بين أوليات الصحافة الجديدة، بعيداً عن الصحف الرسمية. والمراقبة هنا ستنسحب على أعمال الحكومة وما يتفرع عنها من مؤسسات رسمية وشبه رسمية "القطاع العام والمشترك". ولا بد ان يشمل ذلك اعمال المحافظين والعاملين في المحافظات السورية المختلفة. ويذكر ان هذا بعيد جداً عن دائرة الضوء. ولذلك، كانت تفوح باستمرار روائح غير طيبة من بعض المحافظين، من خلال ممارساتهم غير السليمة التي تتجاوز القوانين والأصول أحياناً. وظل هؤلاء، مثلهم مثل الحكومة نفسها ووزاراتها المختلفة فوق النقد، حتى ان بعض الوزراء منعوا بعض الصحافيين من دخول مقرات وزاراتهم، للاطلاع على سير العمل، وبلغ بهم الأمر، حد معاقبة من قدم لهم العون والمساعدة بين الموظفين. فهل تستعيد صاحبة الجلالة، السلطة الرابعة، مكانتها ووجهها الجماهيري، في هذا المجال؟ لا بد من ذلك، ولا بد من فتح المجال واسعاً، لكشف البؤرالتي تراكم فيها العفن والروائح غير الطيبة، تمهيداً لإعمال المبضع الحاد في الجوانب التي تحتاج جراحات عاجلة من أجل استئصال شأفة الفساد الذي استشرى. وفي الوقت الذي ستتاح فيه الفرصة أمام المواطنين، كي يمارسوا مزيداً من استنشاق الهواء النقي، فيجب ألا يبقى أي مواطن أو مسؤول، كائنة ما كانت منزلته أو مرتبته، فوق المساءلة والمحاسبة، وصولاً الى "التعزير" والمحاكمة أمام قضاء عادل. إن السير في طريق الديموقراطية، لا يمكن أن يكون جزئياً أو موقتاً أو كيفياً. انه يكون أو لا يكون. يكون تاماً ودائماً... والى ما لا نهاية. إذاً، فلا بد من ان تترافق الحرية الصحافية - اذا كان هذا هو الاسم المناسب لصدور صحف جديدة - بالعودة الى المبادئ الأساسية والأصول الجوهرية، في الديموقراطية، عنيت الفصل بين السلطات الثلاث: التنفيذية والقضائية والتشريعية، انها نظرياً، مفصولة في الوقت الراهن، ولكنها في الواقع ليست كذلك. هل ستقدر الصحافة المستحدثة، ان تؤدي هذه المهمة الأكثر من ضرورية، في العودة، الى اقامة الحدود الفاصلة الحاسمة بين السلطات الثلاث؟ وعندئذ فقد يعود للقضاء وجهه الذي كنا نعرفه، بعد ان تراكم عليه غبار غير حميد... ولا صحي. وهل ستنجو هذه الصحافة الجديدة، من السلطات الاستثنائية لبعض أجهزة الأمن، في الوقت الذي سيكون العمل على الحد من هذه السلطات في صلب مهماتها الأساسية. سيكون، بين الأهم في ما تقدم جميعاً، الدور الذي ستلعبه هذه الصحافة - وهي مرشحة له - في تمتين الجبهة الداخلية - وسدّ ما اعتراها من فجوات، لمجابهة التحديات المستمرة المترتبة على قيام الكيان الصهيوني، واحتلاله أجزاء كبيرة من الجولان، اضافة الى الأراضي العربية الأخرى المحتلة. ولا تغيب عن الانتباه التحديات المرحلية التي يمكن ان تستجد في السياسات الخارجية والعربية والدولية والاشكالات الاقتصادية والعسكرية والثقافية، إلخ، مما لا بد ان تكون للصحف الجديدة اجتهاداتها فيها. لقد جعل الرئيس الراحل حافظ الأسد لسورية هذه المكانة الدولية والاقليمية المهمة، وتشير مقدمات الرئيس وهي متسارعة على نحو لافت للنظر، حتى إن احد المراقبين قال إن هناك ازدحاماً بالقرارات الرئاسية والمراسيم التشريعية، وبينها الصحف الجديدة موضوع هذا الحديث - الى رغبة لديه - لتعميق هذه المكانة وترسيخها، في حيث تؤهل سورية لاستقبال الألفية الثالثة، في لياقة وجدارة. * كاتب وعضو مجلس الشعب سابقاً.