لسنوات تابعنا على الشاشات العربية الصغيرة، مثلما تابع المشاهدون في العالم اجمع، واحداً من اكثر المسلسلات التلفزيونية شهرة وانتشاراً: "دالاس"! وباتت شخصياته المحبوبة، مثل باميلا، والمكروهة مثل جي. آر. مثار جدل في كل بيت بل باتت حكاياته مصدراً للمقارنات الاجتماعية خارج الولاياتالمتحدة، ربما اكثر منه في ارجائها الواسعة. ومسلسل "دالاس" ليس وليد مصادفة او خيال مجرد عن منابع الواقع. انه ابن ولاية تكساس بكل ما فيها من ثراء وفقر وتناقضات اجتماعية وانسانية، اضافة الى الغنى الطبيعي الذي تمتاز به تلك الولاية. وليست احداث المسلسل التي شغلت العقول والقلوب سنوات طويلة معزولة عن مجمل القيم والممارسات التي يعيشها التكسانيون في مزارعهم المحتشدة بالمواشي والمزروعات والطرائد المحنطة فلكل سؤال طالما طرحناه ونحن امام الشاشة الصغيرة جواب في السيرة الذاتية للحياة المعيشة في تكساس. وهنا بعض من هذا وذاك... مَن منا لا يتذكّر حلقات مسلسل "دالاس" التلفزيوني وشخصياته المميزة والفاتنة؟ ملايين المشاهدين عبر العالم تابعوا أحداث هذه الأسرة الأميركية الثرية، في سياق قصة شبيهة بقصص "رعاة البقر" التي تزخر بها ولاية تكساس في جنوبالولاياتالمتحدة، غير أن مسلسل "دالاس" كان يستبدل قطعان الأبقار بآبار النفط، الذي كان يتمخّض عن جوّ حديث ولكن بزيّ قديم. فذهنية رعاة البقر كان تسيّر أبطال النفط، كما لو أن مصدر ثروتهم المستحدث لم يغيّر في طباعهم شيئاً. كما أن هذا المزيج اللاواعي بين إرث حياة المجتمعات الزراعية وإرث المجتمعات التكنولوجية الحديثة أفضى بمشاهدي جنوب الأرض الى مناخ حامض - حلو، على حدّ التعبير الشعبي، يحاكي المشاهدين على موجتين معاً. علماً أنهم، هم، في واقعهم المعيشي، واقعين على الحدّ الفاصل بين هاتين الموجتين. من هنا نجاح شخصيات مسلسل "دالاس" في اختراق بلداننا التي يعيش أفرادها متأرجحين بين هذين الانتماءين، الزراعي والصناعي من ناحية، والتقليدي والحديث من ناحية أخرى. لكن ذلك المسلسل التلفزيوني الشهير لم يأتِ من فراغ. بل انبثق من مجموعة أحداث واقعية عاشها مجتمع ولاية تكساس منذ عشرينات القرن الماضي. إذ يُقال إنه عندما اكتُشِفَ النفط في أراضي كلينت مورتشيسون في تلك الفترة، تحوّل هذا الأخير بسرعة هائلة من ملاّك مزرعة كبيرة الى أحد أكبر الأثرياء في البلاد. وتعاقب أفراد هذه الأسرة على امبراطورية مالية ما زالت قائمة حتى اليوم. واللافت هنا أن كلينت مورتشيسون رُزِقَ ولدان، كلينت جونيور وجون. وكان كلينت جونيور تميّز بطبع هجومي كجي. آر. في مسلسل دالاس جعله يتحدّى والده ويقول له، في الثالثة عشرة من عمره، إنه سوف يجمع يوماً ثروة تفوق ثروته... لن يتمكّن كلينت جونيور من تحقيق أمنيته هذه. إلا أن طموحه الشرس ساهم في تحديد ملامح شخصية جي.آر. في المسلسل المعروف. أما الولد الثاني لكلينت الأب، وكان يُدعى جون، فكان وديعاً وهادئاً، على عكس أخيه... تماماً كما كان الحال في "دالاس"، مع أخ جي.آر. فقصة المسلسل مبنية على معطيات موضوعية. وهذا بالطبع ما ساهم في منحها واقعية شخصياتها ومناخها الإنساني الحيّ. لأن كتابة السيناريو كانت تأخذ في الاعتبار ثنائية أطباع الأخين المتناقضة، لتبني عليها مشاهد صراعهما الداخلي، على المال والجاه والسلطة. وتجدر الإشارة هنا الى أن زوجة الأخ الصغير جون، ما زالت على قيد الحياة اليوم، تُدعى لوب، وكان زوجها أشركها معه، منذ الستينات، في جانب آخر من حياة أثرياء تكساس وهو تذوّق واقتناء لوحات الفن التشكيلي. وها هي لوب تعيش وحيدة بين لوحات فنّية تمكنت هي وزوجها من إدراك أهميتها وقيمتها الإبداعية الرفيعة، لفنانين معاصرين امثال موذرويل وموريس لويس وهيلن فرانكنتالر. علماً أن أثرياء تكساس الآخرين كانوا يشغفون أكثر بلوحات الرّسامين الانطباعيين الفرنسيين. كما أن لوب مورتشيسون ، المحبّة للفن، خصصت قسماً من ثروة أسرتها النفطيّة لدعم متحف دالاس للفنون التشكيلية المعاصرة بملايين الدولارات. فالمال، في هذه الولاية الثرية، يفرح قلب أصحابه عند دخوله في حساباتهم المصرفية، لكنه يفرح بعضهم أيضاً عندما يخرج من جيوبهم لدعم مشروع عام، بخاصة في المجال الفني أو الأكاديمي. وهذا ما يعيده المراقبون الى أطباع أهالي هذه الولاية الجنوبية حيث لا تزال العلاقة الإنسانية مدموغة بطيبة أبناء المجتمع الزراعي الذي كانه مجتمع تكساس قبل ظهور النفط في أرضه. وأخيراً بنت لوب بيتاً جديداً لها، لا علاقة له، من حيث التصميم، بالقصر الذي كانت تعيش فيه سابقاً مع زوجها. فهذا المنزل الجديد فسيح ومضيء ومبني على أساس عرض مناسب للوحات مجموعة صاحبته الغنيّة جداً، والتي بدأ بيتها الأصلي يضيق بها. لفت بعضهم انتباه لوب الى أن البيت الجديد سوف يكون صعباً على البيع لاحقاً، لفرادة تصميمه القائم على وظيفة أساسية هي الشكل الأنسب لعرض اللوحات، غير أن لوب تجيب على هذا الكلام بالقول: "عندما سيعرض هذا البيت للبيع، فسوف لن تكون هذه المشكلة مشكلتي!" وتضحك. غير أن لوب تملك أيضاً مساكن اخرى: منزل رائع في مدينة سانتافي، وشاليه في فايل، ومزرعة مميزة في جوار دالاس. وتصرّ لوب على الإشارة الى أن المزرعة التي تملكها هي "شغّالة". بمعنى أنها ما زالت محور أعمال زراعية تدور حول تربية الماشية. كما في الماضي، فأثرياء تكساس لا يتنكّرون لجذورهم، بل يحافظون عليها، حتى لو أضحت اليوم ثروتهم تُقاس بعدد الأسهم في البورصة بدل أن تُقاس برؤوس الأبقار في قطعانهم، وإصرارهم على المحافظة على هذا الشق العملي من واقعهم ينمّ عن تعلّق صادق بأوجه حياتهم الزراعية السابقة. في تكساس أيضاً أسر ثرية أخرى لا تزال حتى اليوم تعتاش من تربية الأبقار. فآن سميث تنتمي الى هذه الشريحة، كونها ورثت عن جدّها أوجين سميث سلسلة من ثلاثين مزرعة لتربية الأبقاء وزراعة القطن، كلها شغّالة، تتنقّل بينها لمتابعة أعمالها. علماً أن هذه المزارع تغطي مساحة قدرها ثلاثة آلاف وخمسمئة هكتار من الأرض. فآل سميث لم يوفّقوا في اكتشاف النفط في أراضيهم. وثروتهم محدودة نسبياً قياساً بثروات زملائهم الذين حظوا بوجود النفط في أراضيهم، إلاّ أنهم يعيشون حياة منسجمة مع العُرف التكساني المازج بين إشارات حياة الثراء وعلامات حياة البساطة. وتشير آن سميث التي تزوّجت من ثري سويسري أن أجمل ذكرياتها تنتمي الى زمن حصاد القطن، وأن أقوى مشاعرها ترتبط برائحة الأرض والعشب وقطعان البقر. وهي كبرت في هذه البيئة وتربّت على محبتها. وتعرف كل ما يتعلق بأعمالها، من تلقيح الأبقار ضد الأوبئة والأمراض وكيّها بالحديد، بحسب علامات كل مزرعة، وقصّ قرون البقر، الخ. كما تضيف آن بفخر: "تمّ تصوير الكثير من حلقات مسلسل دالاس في مزارعنا"، للتأكيد على أصالة التراث الذي تمثّله هذه المزارع المميزة. صحيح أن زوجها سويسري وأنها تقيم معه طويلاً في بلاده، إلاّ أن آن لم ترض بالتخلي عن أبقار تكساس. ولم تتمكّن من التعلق بأبقار سويسرا، المميزة هي أيضاً، ولكن غير المطابقة لمعايير الإحساس التي نشأت عليها آن في ولايتها الأميركية الحارة. "أحبّ عندنا المناخ، فمناخنا في تكساس فريد. كما أني أحب كثيراً أيضاً نكهة العشب والأرض، والطابع الريفي لحياتنا في المزارع، وأقدّر أكثر من أي شيء آخر حفاوة أهالي تكساس وحرارة ملقاهم". فسويسرا الباردة، الناصعة النظافة والفاترة العلاقات الاجتماعية، لم تتمكّن من إغواء هذه الثرية الأميركية التي أبت التخلّي عن جذورها والتي لم تنبهر ببورجوازية الحياة في أكثر البلدان الأوروبية بورجوازية، على رغم انتمائها موضوعياً الى هذه البورجوازية، من حيث المال. لكنها شعرت بالحاجة الى غير المال والجاه والمتعة والترف. شعرت ببساطة بحاجة ماسة للعلاقة بالأرض، أرضها هي وأجدادها، التي لا تضاهيها أراضي الآخرين، مهما بلغ جمالها. مما يعني أن الحياة تحتاج دوماً الى قيم معنوية ولا تكفي القيم المادية في إشباعها وإعطائها ما تحتاج إليه. وهذه الثنائية في الانتماء والمشاعر تجعل من ثَريّات تكساس الحاليات سيدات يفاجئن العالم. فإلى جانب تايّورات ايف سان لوران، تجد في خزانات ملابسهن تشكيلة واسعة من الجينزات. فحياتهن العملية مطبوعة بمخزون حياتهن الزراعية السابقة كما بتأثيرات ثرائهن اللاحق. بعد تمضية الصباح في المكاتب، تعمد هذه الثريّات الى قضاء بقيّة النهار في البراري، في صيد الحجل أو البط البرّي. ثم في المساء، تنضمّ كل ثرية من جديد الى مجموعة صغيرة للعشاء بملابس أوروبية انيقة. وتضيف بيتي لو شيرين، زوجة ملاّك عقاري كبير وصاحب سلسلة من مزارع تربية الأبقار، إلى زيّها الرفيع، بعض عقود حجر الفيروز التي يصنعها الهنود المحليّون. لإبقاء الزيّ الوافد تحت سلطة الزينة المحلية. ربما لتذكير نفسها ومحيطها بأن جذورها إنما هي في تكساس، لا في باريس أو لندن أو روما، على رغم بعض التماهي في الملبس مع هذه العواصم الأوروبية البعيدة. وأهالي تكساس، عندما يثرون، لا يديرون ظهرهم لتكسانيتهم، بل يعملون على إبراز هذا الانتماء. ويحرصون على إبقائه حياً بشتى الإشارات والممارسات. كما أنهم يحرصون على إبقاء عفويتهم وحرارتهم حية كمزارعهم.