دعا مثقفون سوريون الى تحويل سجن "المزة" الى "متحف تاريخي" تزوره الاجيال الجديدة للاطلاع على مكان "فقد آخرون فيه حريتهم وعذبوا فيه". وتوقع احدهم ان "تتغير الاوضاع" في سورية الى الافضل "ايذاناً ببداية عهد جديد لا قضبان فيه ولا سجون لأصحاب الرأي" بعدما لاحظ ان "نسمات عهد جديد واعد" هبت في البلاد منذ وصول الرئيس بشار الاسد الى الحكم قبل نحو خمسة شهور. وكان مصدر رسمي قال ل"الحياة" ان قرار اغلاق السجن وتنفيذه تمّا من قبل الرئيس الراحل حافظ الاسد قبل 18 شهراً، لافتاً الى ان بعض الاجراءات التنفيذية المتعلقة بالحراسة وانتقال السجناء اتخذ اخيراً ما ادى الى الاعتقاد بأن القرار اتخذ من قبل الرئيس بشار في الاسبوع الماضي. وقال الكاتب شوقي بغدادي ل"الحياة" امس ان تحويل السجن الى "متحف تاريخي يمثل فرصة ذهبية للاجيال الجديدة لزيارته والاطلاع على معاناة آخرين فقدوا حريتهم وعذبوا جسديا فيه" بعدما كان الناس يسمعون عنه "الاشاعات والحكايات باعتباره اشهر سجن في البلاد". وكان الشاعر بغدادي كتب قبل يومين في صحيفة "تشرين" الرسمية مقالاً بعنوان "ذكريات مزّاوية" تحدث فيها عن تجربته في هذا المعتقل الذي يعود تاريخه الى الثلاثينات. وقال :"الف مرحى للخبر يهل مدهشاً، مفرحاً واعداً، وكيف لا يكون كذلك ولسجن المزة ما له من الشهرة والسمعة غير الطيبة!"، مشيراً الى انه عرف السجن ك"واحد من نزلائه مرتين الاولى في عهد دولة "الوحدة" وكانت مدتها ثمانية شهور، والثانية في زمن "الانفصال" ومدتها اقصر-اربعة اشهر- واهون. فما عساني اقول في "تأبين" هذا الصرح غير المجيد من دمدمة وصرير اسنان". ويقع السجن فوق تلّة جنوب غربي دمشق في حي "المزة" ليطل على دمشق، وهو يتألف من طابقين: "ارضي تقابلك فيه وراء المدخل الحديد مباشرة ساحة جميلة مزروعة بالزهور وعند اطرافها تتلامح صنوف طويلة من الزنازين الغامضة. ثم تدخل فتجد حولك غرف الادارة و"التحقيق"-وما ادراك ما التحقيق! والمستودع الذي يجرد فيه السجين الجديد من حزام البنطال وشريط الحذاء وكل محتويات جيوبه برسم الامانة الى حين اخلاء سبيله، ثم تتوزع زنازين داخلية مختلفة الاحجام والمتاعب فمنها المنفردة المظلمة تماماً وبلا مراحيض، والمزدوجة والاخرى ذات مراحيض داخلها ويسمونها هناك: زنازين ابو ريحة بسبب الروائح النتنة المعششة في مصارفها الصحية". ويضم المعتقل ايضاً ستة مهاجع واسعة لكل منها نافذة كبيرة بقضبان غليظة مطلة على الرواق ومن الداخل تمتد مصطبتان عاليتان متقابلتان يفصل بينهما ممر منخفض وفي اقصى الداخل الى اليسار المرحاض ويتسع المهجع عادة - على الراحة لثلاثين الى اربعين نزيلاً لكن العدد يرتفع في ايام الذروة الى سبعين وثمانين ينحشرون فوق المصاطب وفي قاع الممر بين الاحذية وبملاصقة مدخل المرحاض وجداره. في الطابق الثاني، تقع ساحة "سماوية" يقع الى يمينها بعض الزنازين الاوسع والى يسارها الغرف التي تتسع لاكثر من عشرة الى عشرين "محظوظاً". وفي الصدر تمتد على طرفي الرواق ذي الارض الاسمنتية الناعمة اللماعة ستة مهاجع اخرى. ودشن العقيد حسني الزعيم اوّل انقلاب عسكري فكان اول الذين استخدموا السجن بمعناه الاخير اذ ادخل معارضيه الىه او الى "مستشفى المزة العسكري" الواقع في المنطقة ذاتها، فكان الرئيس شكري القوتلي من نزلائه. واخذ الى المعتقل الشهير كل من الرئيس حافظ الاسد 44 يوماً و رئيس الوزراء خالد العظم بضعة ايام والرئيس الراحل نورالدين الاتاسي 22 سنة ومسؤولون آخرون، لكن يبقى "اشد السجناء ضجة" العقيد عدنان المالكي، احد كبار الضباط الوطنيين، الذي اغتيل قبل 55 سنة. وقال بغدادي ل"الحياة" ان المالكي "عرف بصراخه وشجاره مع سجانيه" مع اعتقاله باوامر من العقيد اديب الشيشكلي "زعيم" الانقلاب العسكري الثالث. وقال الشاعر بغدادي :"كانت تجربتي الميدانية مع اعتى ما ابدعته المخيلة البشرية من افانين التعذيب التي لم اتعرض انا شخصياً لها جميعاً مثل زملائى الآخرين" بعد اعتقاله في "فجر" 31 كانون الاول ديسمبر عام 1958، مشيراً الى ذكرياته مع "فسحة التنفس" والتجول في الساحة السماوية "ذات الهواء الطلق" وسماع "اصداء اصوات التوجع والاستغاثات في صميم الليل الصادرة عن غرف التحقيق تحت غرفنا مباشرة حيث كانت تحرمنا من النوم". ودعا المثقف الوطني - القومي الذين سجنوا في المعتقل الى "الكتابة عن تجربته المريرة في هذا السجن الكريه، ليكن ذلك عقداً بين هؤلاء. وفيهم من كل المراتب الاجتماعية والسياسية والثقافية ليعبر كل منهم بأسلوبه الخاص عن هذا المكان المرعب وقد هبت في البلاد انسام عهد جديد واعد افرج فيه عن مئات من سجناء الرأي" في اشارة الى قرار الرئيس بشار اطلاق 600 سجين سياسي. وبعدما لفت الى "بداية حقيقية لعهد ديموقراطي لا يبقى فيه من السجون الا ما هو ضروري لعقاب المجرمين العاديين في ظل دولة القانون"، ختم بغدادي بالقول: "لا بد ان تتغير الاشياء الى افضل ايذاناً ببداية عهد جديد لا قضبان ولا سجون لاصحاب الرأي الآخر. فلا تهدموا سجن المزة. ولا تجعلوا منه - كما يشاع - معهداً او مؤسسة للخدمات العامة. فالأجدر ان تحولوه الى متحف تاريخي يزوره الناس ويتعلمون منه".