«انني اعمل بلا هوادة كي أجمع من حولي أكبر قدر ممكن من السعادة، بادئاً ذلك بتحقيق سعادة الآخرين». كاتب هذه العبارة ليس سوى الكاتب والمتمرد سيئ السمعة المركيز دي ساد، الذي لا تحكي اسطورته الشعبية أي شيء عن اهتمامه بسعادة هؤلاء الآخرين. ومن هنا إذ نقرأ له هذه العبارة يكون عادة أول ما يخطر في بالنا هو السؤال عمن يكون هؤلاء الآخرون، هل هم الكائنات البشرية في شكل عام، أم هم قوم محددون لا يسميهم دي ساد وقد يكونون قراءه لا أكثر. أو ربما هم أصحاب الشخصيات التي يتحدث عنها في روايته الكبيرة التي ترد هذه العبارة في تقديمه لها؟ الرواية التي نشير اليها هنا هي «آلين وفالكور»، التي إن قرأناها من دون أن نعرف اسم مؤلفها سيخيل الينا انها رواية روكامبولسكية غرامية تنتهي على الكثير من المواعظ الأخلاقية. بل ان هذه الرواية، بعد ان تمتلئ بمشاهد مثيرة، تصل الى نهايتها لتنظر الى الحياة نظرة أخلاقية. نقول نهايتها وقد نعني هنا نهايتها، ذلك أن «آلين وفالكور» هي في حقيقة أمرها، روايتان لا رواية واحدة. روايتان مزجتا ببعضهما بعضاً، وتبدوان أن لا علاقة بينهما سوى القرابة بين بطلة الأولى وبطلة الثانية. أما الأسلوب فرائق على لغة جميلة وعلى وصف ودور لمعظم الشخصيات، يردفه وصف قاسٍ لبعض الشخصيات الشريرة. هنا في هذه الرواية يضع دي ساد، على غير عادته، حدوداً واضحة بين الخير والشر، من دون أن يفوته في كل لحظة أن يندد بالشخصيات الشريرة مورداً اياها موارد الهلاك على عكس المصير الذي يخص به الشخصيات الخيّرة، حتى ولو كانت نهاياتها فجائعية. مهما يكن لا بد هنا من أن نشير مباشرة الى عامل ربما كان هو الذي أسبغ على ذهنية دي ساد وهو يكتب الرواية كل تلك الإيجابية الملحوظة. فهو، حين كتبها بين 1785 و1788، كان يقبع في سجن الباستيل. وكان يشعر بأن لديه من الوقت ما يكفي كي يكتب رواية هادئة... وهكذا خط أكثر من ألف وثلاثمئة صفحة، شكلت متن الرواية المزدوجة التي جاءت على شكل رسائل (72 رسالة في أربعة مجلدات). وهذه المجلدات تمكن دي ساد من أن يطبعها ويصدرها في العام 1795 بعد سنوات من خروجه من السجن... بيد أن هذه الرواية، بعد ذلك، غابت تماماً عن الأسواق حتى كانت طباعتها من جديد في العام 1956، لتتخذ منذ ذلك الحين مكانتها كواحدة من «أجمل الأعمال الأدبية التي خلفها الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر» كما قال نقاد كثر. بل ان منهم من قال ان ما في الجزء الثاني من الرواية من حسّ بيئوي ومن حديث عن الطبيعة وارتباط الحياة البشرية وسعادتها بها، يفوق مرات عدة كل ما كتبه جان روسو، حول الطبيعة. ونعود هنا الى الرواية، فهي كما قلنا تتألف من روائيين يصعب تماماً ايجاد رابط حقيقي بينهما، لا في السياق ولا في الشكل ولا في المضمون. كل ما في الأمر ان الكاتب، بعدما أنجز كتابة الرسائل التي يتألف منها «الجزء الرابع»، أراد أن يكتب رواية ثانية، فما كان منه إلا ان استعار احدى الشخصيات التي مرت في شكل ثانوي في الرواية، ليجعل لها حكاية كاملة، تتضمن غراماً وارتحالاً حول العالم ونظرات الى الشعوب الأخرى، وتحليلات لمفاهيم مثل الخير والشر والطبيعة والوجود الإنساني. في الرواية الأولى، التي تدور أساساً حول الشخصيتين اللتين أعارتا الرواية كلها اسميهما، لدينا آلين وهي ابنة سيد يعرّف ب «الرئيس بلامون». وهذا الرئيس يصفه الكاتب منذ البداية شخصاً فاسداً انتهازياً لا يتورع عن استغلال ابنته البريئة آلين، الى درجة أنه يرغب كما نكتشف منذ الرسالة الأولى بتزويجها من صديقه المتحرر الفاسق دولبور، لمجرد الحصول على ثروة هذا الأخير والذي يعمل مصرفياً. وقد كان بلامون قد استغل قبل ذلك الفتاة الحسناء الأخرى صوفي التي كان يعتقد انها هي أيضاً ابنته، لكنها في الحقيقة ابنة خادمة في دارته، كان خطأ ما قد جعلها تستبدل بالفتاة لينور (التي ستكون الشخصية المحورية في الرواية الثانية). أما بالنسبة الى آلين فهي، كما توصف لنا منذ البداية فتاة فاضلة طيبة تعيش حكاية حب مع الشاب الفقير فالكور. ومن هنا، كي ينجح بلامون في تزويج ابنته من صديقه الثري، لا يتورع عن نصب فخ لفالكور، لإبعاده بعدما كان عرض عليه قبل ذلك مبلغاً من المال في مقابل رحيله عن المكان. فيرفض فالكور ذلك. وإذ تفشل خطة بلامون للتخلص من فالكور يلتفت الرئيس الى زوجته التي كانت اعتادت أن تماشيه في كل خطواته، ويتخلص منها لأنها هذه المرة عارضته في خططه تجاه ابنته، وتعاونه عشيقة له في دس السم للزوجة. وازاء هذا الحدث الجلل، وإذ تدرك آلين هنا انها لن تكون قادرة أبداً، من دون أمها الراحلة على التخلص من سطوة أبيها عليها، تنتحر واضعة حداً لحياة العذاب التي تعيشها. بعد موت آلين انتحاراً، إذاً، ينقلنا دي ساد الى الحكاية الأخرى، وهي هذه المرة عن لينور، الأخت الحقيقية لآلين، والتي ترتبط بعلاقة مع سانفيل... فمنذ بداية أحداث هذا القسم وإذ تكون لينور على سفر وترحال مع حبيبها سانفيل هذا، يتمكن القراصنة من اختطافها ما يجعلها تنتقل من بلد الى بلد ساعية للهرب من القراصنة، كما من الفاسقين الذين لجمالها يطاردونها من مكان الى آخر طمعاً في الاستحواذ عليها. وفي خلال ذلك يكون سانفيل دائراً بدوره بين بلد وآخر بحثاً عن حبيبته. وسانفيل يروي مغامراته هذه في رسالة واحدة من رسائل الكتاب تحمل الرقم 35 وتستغرق وحدها نحو 340 صفحة من الكتاب، فيما تروي لنا لينور بدورها حكايتها في رسالة تحمل الرقم 38 وتتألف من 387 صفحة. وهاتان الرسالتان اللتان تشغلان معاً نصف صفحات الكتاب ككل، هما اللتان تدخلان ك «جملة معترضة» في سياق الحكاية الأصلية أي حكاية آلين، في شكل يبدو ان دي ساد قد حققه بعدما انتهى من تلك الرواية الأولى وأراد لها أن تصبح أكثر طولاً. وفي هذا السياق الاعتراضي داخل النص، كما في حكاية لينور وسانفيل كلها، يبدو المركيز دي ساد أميناً لأسلوب «ألف ليلة وليلة»، هو الذي لم يخف أبداً، في لغته أو في أسلوبه كونه تأثر كثيراً بالليالي العربية، ولا سيما بأسلوبها السردي الحكائي، الذي يشعب القصص والحكايات مدخلاً اياها في بعضها البعض، من دون أن تكون ثمة علاقات حقيقية في ما بينها. وهنا لدى ساد، من الواضح ان الرجل، كنوع من التعويض عن وحدته وابتعاده على الهواء والنور في عتمة سجنه، جعل القسم الأكبر من أحداث الرواية يدور في جزء وعوالم بعيدة حافلة بالنور، وبالمشاهد الطبيعية. كأن الكاتب اخترع لنفسه هنا، على الورق، عالماً متكاملاً تلعب فيه الطبيعة وشؤونها دوراً أساسياً. ولعل هو ما فتن القراء الذين ما اعتادوا لدى كاتب الشر والظلمات في الأدب الفرنسي هذا، أن يكون مضيئاً في كتاباته وكذلك أخلاقياً الى هذا الحد. والمركيز دي ساد (1740 - 1814) كاتب فرنسي ارتبط أدبه دائماً بالشر والإباحية، حتى حين تكون غايته من كتابة ذلك الأدب وعظية في نهاية الأمر. ولقد أولع سورياليو القرن العشرين بأدبه، كما فعل أئمة التحليل النفسي من الذين قرأوا كتب ذلك الارستقراطي الفرنسي الغريب الأطوار قراءة خاصة، تنطلق من تحرر أفكاره أخلاقياً وجنسياً، ناهيك بأن مصطلح «سادي» الذي يتحدث عن حب تعذيب الآخرين، انما استنبط من اسمه أولاً وأخيراً. [email protected]