لا يزال الشاعر فؤاد رفقة في دغلة الوجود وان كتب نصاً نثرياً تحت انسام شعرية، بل كتاباً مختلفاً بعنوان "بيدر" الصادر عن دار نلسن للنشر - في 120 صفحة - بيروت 2000. يكتب فؤاد رفقة عن رجل عاش في ذلك الزمان اسمه بيدر "والرجل من عناصر الكون، وحياته في بداياتها متناغمة مع الارض والشمس، مع الهواء والسحب". يحاول الشاعر رفقة ان يروي قصة "بيدر"، بيدر الممتلئ حكمة، بيدر الحصاد، بيدر الاسئلة، بيدر الوجوه والتحولات، بيدر البقايا والرماد. ولكن فؤاد رفقة في كتابه النثري - الشعري لا يتخلى عن اسئلته بل يصر على اسئلة الوجود الكيانية الصعبة القلقة ولو اخذت هنا شكل الحوار او القصة او السيرة او الرمز التاريخي واحياناً التوراتي. كأنه يتوسل تنويعات جديدة على الشكل ليعبر عن المعنى الذي يريده، معنى الهم الوجودي. ماذا يعني بيدر؟ ومن هو في عرف الشاعر؟ يقول رفقة "في الأخير الأخير بيدر سيرة ذاتية في سياق شعري. انه موقف كياني من الدين والشعر والطبيعة والانسان المعاصر. بيدر في كيانيته يثور ويتمزق وينسحق ويؤمن ويكفر ويسأل ويتساءل ويتناثر ويجمع شظاياه، وربما يستسلم في نهاية الامر كما الانهار للبحر". هذه الصور المتراكضة المتحولة المتنافرة والمنسجمة يجسدها رفقة من خلال السيرة ومن خلال اسئلة الشاعر التي يحيلها في النص الى ثنائيات قلقة، والى تناقضات والى اضداد تحيل الكلام الى حقل من تنافر ولكنه مضبوط على سلاسة وانسياب. يوضح رفقة هذه النقطة وابعادها، وعندما تكون الاسئلة كيانية مصيرية فانها تدور على الموت والحياة، الخير والشر، الحرية والظلم. القيم الكبرى التي تصنع الحياة. انها بالنهاية اسئلة الصراع. لنقل انها صراعي مع هذه القضايا حتى التمزق، ما يرفع امام العين صورة ايوب في عذابه الكبير، في محاججاته وتساؤلاته، وفي محاولاته اكتشاف الغاية الخافية وراء المصائب التي اصابته. في الأخير "بيدر" هو حكاية ايوب الجديد". هذا الافق الذي يعطيه رفقة للانسان المعاصر عبر مماهاته وترامزه مع ايوب يثير في شكل او آخر التباساً في فهمه ونظرته الى ايوب الجديد وايوب القديم. اي فارق بينهما؟ ولمن ينحاز الشاعر؟ "ايوب القديم اعاد الله ارزاقه او ابناءه اضعافاً، اما ايوب الجديد فما زال في الانتظار". هذا الانتظار القاسي والصعب والخائب يسقط على بيدر ويضعه في العجز. لذلك يعرف رفقة ويسأل في كتابه "ماذا بقي من بيدر؟ بعيد صوته، اصداء في ضباب". ثمة ايضاً جانب آخر في الكتاب يطاوله رفقة من دون تقصد فهو امام دغلة الوجود وقسوة المعنى يحتفل ومن خلال بيدر بالطبيعة. فالتاريخ والطبيعة وازمة الوجود بالمعنى الديني والدنيوي هي الينابيع الاساسية التي تصنع بيدر. الا ان الطبيعة هنا تظهر في مفهومها الشمولي والمطلق والعام والكوني، وهي لا تعبر عن حيز مكاني جغرافي. فبيدر هو الآتي من الشفق، الصاعد الجبل، الواصل القمة، المتحول الى غيمة، الى مطر، الى ماء، الى جرة السامري. ما يجعل السؤال هنا ملحاً عن علاقة الشاعر رفقه مع الطبيعة في تجلياتها وتحولاتها، والى اي حد تظهر الطبيعة كمعادل للتجربة. يقول رفقة "اظن ان عناصر الطبيعة غنية ويمكن استخدامها للتعبير عن كل التجارب. لان الطبيعة فيها ثبات وتحول، حزن وفرح، ليل ونهار. انها غنى فائض للانسان الذي يعيشها ويصاحبها. اما الانسان الذي لا يفعل ولا يقدر على اقامة الحوار معها والغوص فيها فتظهر فقط كأشياء ميتة". ولكن خلف الطبيعة ثمة انزياحان في "بيدر": الغنائية والصوفية. اذ في بعض الفقرات والمقاطع غنائية قوية تطغى. غناء الذات في العالم. غناء بيدر الصعب والقاسي في مواجهة الوجود. "كيمامة برية، هناك على الصخور الوحشية، وحدها تغني، هكذا انت يا بيدر". هذا الطريق الى اين يقود النص، والى اين يحمله؟ يعتبر رفقة ان "الغنائية هنا ليست عنصراً خارجياً بل عنصر انبثاقي من نوع آخر. انه هارموني عناصر الوجود حين تتقارب وتتناغم تناغم الموسيقى في الاوتار. ومع هذا التناغم يعود الانسان الى نفسه منسجماً وفي راحة داخلية". وفي مستوى آخر تقود مواجهة بيدر للعالم وازماته الى الصوفية. كأنه بعد الغناء يتكثف ويشف ويرق ليصير قطرات وحروفاً وخربشات ريح. وما بين المواجهة واختبار الايمان يتقدم البعد الصوفي ليغني التجربة والنص ويمنحهما ابعاداً جديدة. يشرح رفقة ذلك بقوله انه "من الصعب تفسير هذا التحول من زمنية الوجود الى مكانية الوجود. وهل هذا التحول يتم هرباً من زمنية الوجود، من حدث الموت. وهناك شعور بالالتحام الداخلي للانسان مع الكون. وطبعاً هذا الشعور بالالتحام والتوحد يمنح الانسان الراحة والامان والطمأنينة والرضا". مسكون فؤاد رفقة بالبدايات والنهايات. وفي كتابه "بيدر" اكثر من بداية واكثر من نهاية. كأنه عراب ولادات وغيابات. مسكون بالتحولات التي تحصل بين البداية والنهاية وتظل معطوبة بالاسئلة. الاسئلة التي هي جسور بين الاول والآخر، بين آخر الارض واول السماء. بين قطرة الماء والبحر. يعرف رفقة ان السر الكبير هو خلف تلك الحجب والاقنعة، وخلف الغيوم والثمار والسنابل. وأخيراً، اجمل ما في كتاب "بيدر" هو الحنين المتمرد الى الينابيع والاعماق في آن، الى الذرى والجبال والتلال. واكثر ما ابدع رفقة في نحت ملامحه وتكاوينه هنا هو الحوار بين الغور والذرى. يبدأ رفقة كتابه بالحطب وينهيه بالرماد. ولكنه بين الحطب والرماد يقيم الرحلة التي لا بد منها ويدخل في حياة الاشجار والاحراج والمشاحر والبيادر والنجوم. انها دوائر الشاعر الحقيقية التي ترافقه دائماً في "سعيه وتجواله على شواطئ الوجود، وسفره وراء الافق الشعري خوفاً او هرباً او نشداناً. ولكنه ابداً لن يصل الى المحطة الاخيرة في هذا الافق، في هذا الطريق الصعب. لان "المسافرين عليها اقل من مطر الصحارى".