ان الحضارة تصنعها الشعوب الحيّة، والشعوب الحية تستمد مادة صناعة الحضارة من دروس التاريخ بحلوها ومرّها. ولكن الوجه الآخر لهذه الحقيقة يؤكد ان القيادات التاريخية التي تشحذ هزائم الجماهير، وتفجّر طاقة الابداع الكامنة فيها، وتدفع الأوطان باتجاه الآفاق الحضارية الرحبة، وتجعل من جغرافية الوطن فضاء للخلق والإبداع والعمل. تجربة من الذات العربية وانطلاقاً من هذه الرؤية، وبعيداً عن التطلع خارج الحدود العربية لاستلهام الوصفة السحرية لمعوقات الواقع العربي، وتحديد الطريق السالكة لتحقيق عافيته، فإننا سنلتفت الى تجربة من داخل الذات العربية، وهي التجربة التونسية في التغيير والتي أحيت في الأيام القليلة الماضية ذكراها الثالثة عشرة. فتونس تعيش منذ تشرين الثاني نوفمبر 1987 ديناميكية تتسم بشمولية الإصلاح وتعدد أبعاده في آن، فهي تخوض معركة التنمية السياسية من خلال تجذير وترسيم البعد الديموقراطي، وتوسيع فضاء الحرية وتعهده. وتخوض معركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية عبر تشجيع المبادرة الخاصة واعادة هيكلة البنى الاقتصادية بما يستجيب لقوانين المرحلة عالمياً، وبما يمكن جسمها الاقتصادي من عوامل المناعة والقدرة على المنافسة، وبما يحفظ التماسك الاجتماعي ويدعم أركان السلم الاجتماعية شرط كل تنمية شاملة. وإذ تعددت المحطات التونسية المضيئة على درب النهوض الحضاري، وتعددت معها اضافات العقل السياسي في تونس على صعيد التخطيط والممارسة مبرزة قدرة هذا العقل على التأقلم مع المتغيرات الدولية والانخراط الفاعل فيها بما وقى تونس مضاعفاتها السلبية بل وجعل منها - على رغم محدودية امكاناتها المادية مقارنة بمحيطها الجغرافي - نقطة ارتكاز الاستقرار والتنمية مغاربياً وأفريقياً، فإن خطاب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في مناسبة ذكرى حركة التغيير، شكل اضافة نوعية، وأبرز بجلاء المدى الذي يمكن أن تذهب اليه القيادة في التعبير عن الأمانة الوطنية التي تتحمل مسؤوليتها، وقدرة الرئيس على استقطاب كل طاقات ومكونات المجتمع في مجال العمل الوطني والمصالح العليا للشعب في حاضره ومستقبله. الوفاق سيد الانتصارات وترجم الخطاب من جديد تغليب روح المسؤولية، وضرورة اعتراف الجميع بدور الجميع على أرضية الوفاق والحوار الإيجابي والمسؤول، إذ أبرز بن علي من خلال جملة الإجراءات والقرارات الجديدة التي أعلنها، ومن خلال الخلفية الفكرية والسياسية التي صيغت في ضوئها، كيف يتبلور حق الفرد وواجبه حقه في أن تكون له حرية مصانة، يمارسها ضمن الأطر الحائزة على الإجماع الوطني، وواجبه في أن يكون على استعداد دائم للعطاء، مدعواً الى تجديد الإرادة للبذل والتضحية من أجل ما هو في مصلحة الوطن حاضراً ومستقبلاً. ان جملة القرارات الجديدة التي أعلن عنها الرئيس التونسي في هذا الخطاب هي دفعة أولى تجسد عملياً ما كان قد وعد به التونسيين في برنامجه المستقبلي عشية اعادة انتخابه لولاية جديدة. وهو برنامج عمل للمرحلة المقبلة صيغ وفق نهج سياسي عصري، وعبّر بعقلانية عن كل تفاصيل ونتوءات الواقع المعيش. تلازم لا يقبل التجزئة وشمولية القرارات والإجراءات المعلنة تترجم مرّة أخرى حرص بن علي على تلازم البعدين الاجتماعي والاقتصادي انطلاقاً من قناعته أن التنمية المستديمة شاملة أو لا تكون، فضلاً عن تلازم التنمية والديموقراطية وعدم المفاضلة بينهما. وكانت الإجراءات المعلنة تتعلق بالجانب الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي من دون فصل بينها أو اعطاء الأولوية لجانب من دون آخر، بل هو تلازم جدلي يربط بين التنمية والديموقراطية ويؤكد صواب المقاربة التونسية التي ترى ان تحقيق التنمية بكافة أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية انما يشكل شرط امتلاك الدول لقرارها السياسي المستقل النابع من صلب ارادتها الوطنية، ومن ثم القدرة على الفعل الحضاري المبدع. وهذا التلازم بين التنمية والديموقراطية ينطلق من قناعة القيادة السياسية في تونس انه لا معنى للديموقراطية في غياب كرامة الإنسان، وفي غياب استقلالية القرار الوطني، ومن دون توافر السيادة الوطنية، وجزء كبير من هذه السيادة يحققه امتلاك الشعب لقوة الاستقلال الاقتصادي، وصلابة التماسك الاجتماعي وتناغمه الى جانب تعددية البناء السياسي وديموقراطيته. وهذه المقاربة تشكل اضافة للفكر السياسي العربي، بل لكل الباحثين عن "طريق ثالث" ووصفة خلاص من مخالب العولمة الشرسة، وهي مخالب فتكت بدول تفوق تونس من حيث الإمكانات المادية والديمغرافية والجغرافية، إلا انها لم تتمكن - على غرار هذا البلد الكبير بعقله الاستشرافي - من توفير مستلزمات تحرير الإنسان من سطوة السكونية والجمود، وتوفير أسباب الإبداع ودوافع الارتقاء السريع الى مكانة أعلى، أي الى مصاف الأمم الجديرة بالانتماء الى الفضاء الإنساني. تعدّد... يصبّ في نهر واحد تعدّدت القرارات الواردة في خطاب الرئيس التونسي وتنوّعت، وشملت الاقتصاد والجباية والفلاحة والمجال الاجتماعي والشباب والطفولة والثقافة والعدل والإعلام، وهي القطاعات الحيوية والاستراتيجية التي بمدى النجاح في كسب رهاناتها يتحدّد مصير الدول والأمم والشعوب. ففي المجال الاقتصادي، وفي اتجاه مواصلة بناء اقتصاد قادر على مواكبة التحوّلات العالمية في هذا المجال ويوفق بين النجاعة الاقتصادية والرقي الاجتماعي، جاءت القرارات لتدعم الاستثمار وتنهض بالتصدير ولتؤكد استمرار برنامج التخصيص كروافد أساسية للتنمية. ومن أبرز الإجراءات المتخذة الى جانب الإعلان عن قائمة جديدة للتخصيص تتضمن 40 منشأة في قطاعي الصناعات والخدمات، التشجيع على الاستثمار وذلك عبر اعتماد الحرية مبدأ والترخيص استثناء وذلك بإلغاء 60 في المئة من التراخيص مع تعويض نصفها بكراسات شروط، اضافة الى تركيز المخاطب الوحيد للباعث بمختلف الشبابيك الموحدة قصد مساعدة رجال الأعمال والمستثمرين على اعداد ملفات مشاريعهم بأيسر الطرق وأنجعها، الأمر الذي يشكل من جهة قفزة نوعية في مجال الإصلاح الإداري ويعطي أفقاً أوسع لممارسة الحرية الاقتصادية وتجنّب الإجراءات البيروقراطية التي تثقل كاهل اقتصادات دول عربية عدة بل ومعظم الدول النامية، ويؤكد شمولية مفهوم الحرية في عهد تونس الجديد من جهة أخرى. سلامة الأوطان في رفاه المجتمع وفي الجانب الاجتماعي الذي يحتل مكانة محورية في المرجعية الفكرية لحركة التغيير في تونس، ويعد من أبرز عناوين نجاح التجربة، جاءت الإجراءات المعلنة لتدعم التوزيع العادل لمجهود التنمية بين كل الفئات والمحافظات، ولتضمن حماية أفضل للقدرة الشرائية، ولتلغي ما تبقى من مظاهر الإقصاء والتهميش سواء بالنسبة لمقاومة ظاهرة البطالة عبر الصندوق الوطني للتشغيل 21 / 21 - علماً أن نسبتها بدأت في التراجع منذ هذه السنة - أو بمواصلة صندوق التضامن 26/26 مهمة استكمال مشاريعه وهو صندوق انتشل أكثر من مليون تونسي من الفقر والتهميش وأعادهم الى دورة الانتاج، أو باعتماد برنامج خصوصي لإدماج المعوقين في الدورة الاقتصادية كل هذا تجسيد لحقيقة مفادها ان سلامة الأوطان في رفاه المجتمع. مدرسة المستقبل وبما ان أكثر من ربع سكان تونس يؤمون المؤسسات التربوية، كان لا بدّ أن تحتل مسألة التعليم حيزاً في خطاب بن علي. وفي هذا السياق أكد المشروع على وضع خطة عملية لاقامة مدرسة الغد. وهي مدرسة حظيت مواصفاتها بوفاق وطني. وهي أيضاً مدرسة مطالبة بمواكبة ما يعيشه العالم من تحولات وتشهده تونس من تطورات اجتماعية واقتصادية متسارعة وذلك من خلال ادماج تقنيات المعلوماتية والاتصال الحديثة في مناهج التعليم والتكوين ومزيد دعم رصيد التلميذ من اللغات الأجنبية والعلوم والمعارف الحديثة. وهذا التوجه يؤكد ان بناء مجتمع المعرفة الذي جعله الرئيس التونسي في طليعة أهداف برنامجه المستقبلي يستدعي القطع مع الأساليب القديمة وبناء مدرسة جديدة مؤهلة لتكوين جيل قادر على استيعاب الثورة التكنولوجية الحديثة والتعاطي مع آخر مستجداتها. وفي السياق نفسه، وحتى يتجذّر مجتمع المعرفة في النسيج الاجتماعي التونسي، كان قرار بن علي القاضي بتمكين العلاقات التونسية متوسطة الدخل من اقتناء حاسوب عائلي بقروض ميسرة، اضافة الى تخفيض تعريفات استخدام شبكة الانترنت. ثقافة تأكيد الذات وبما ان العولمة معركة ثقافية بالأساس، وانطلاقاً من قناعة الرئيس أن "الأمن الثقافي لا يقل أهمية عن الأمن الغذائي ولا يمكن ضمانه إلا بامتلاك الأدوات والأجهزة المتحكمة فيه"، وبعد أن سبق له اتخاذ قرار مضاعفة موازنة الثقافة لتصل الى 1 في المئة من موازنة الدولة سنة 2004، سيتم وضع خطة وطنية في القطاعات الاستراتيجية التي ستوجه نحوها هذه الاعتمادات بما في ذلك رعاية المبدعين ومشاريع انتاجهم. وفي هذا تأكيد جديد من بن علي على أن بناء حاضر تونس وامتلاك مستقبلها لا يتمان بغير اسهام النخب المثقفة. الحاضنة الديموقراطية أما في المجال السياسي وحقوق الإنسان، فقد جاء خطاب الذكرى الثالثة عشرة للتحول محملاً بقرارات تقدمية تجسد ما سبق ان وعد به الرئيس التونسي شعبه من ان الطور الجديد من التغيير الذي دخلته تونس سيشهد توسيعاً لفضاءات الحرية، ومزيداً من تكريس التعددية والمنافسة السياسية وحق الاختلاف. وفي هذا الإطار كان قرار الترفيع في منحة الدولة المخصصة للأحزاب السياسية وكذلك المنحة المخصصة لصحافة الأحزاب ب50 في المئة، اضافة الى احالة المؤسسات العقابية وادارتها الى وزارة العدل، وتعهد الدولة بدفع التعويضات لمن يعاقب بالسجن أو يتعرض الى الايقاف التحفظي وتثبت براءته لاحقاً. وفي هذا تكريس للعدل واعلاء لدولة القانون والمؤسسات. وانطلاقاً من أهمية دور الإعلام في انجاح التجارب الديموقراطية وتعزيزها، وفي توطيد اركان المجتمع المدني، كان للإعلام مجدداً نصيبه في الطور الجديد من التغيير وذلك من خلال تنقيح لمجلة الصحافة يقضي بحذف العقوبات البدنية، وحذف ما تنص عليه المجلة من تجريم لثلب النظام العام نظراً لما يحمله هذا المفهوم من غموض ومن أوجه للتوسع في التأويل. وهذا التنقيح يجعل من قانون الصحافة في تونس الأكثر تقدماً في محيطها الحضاري والجغرافي بل وحتى العالمي إذ ان كثيراً من التجارب الديموقراطية العريقة لم تقدم بعد على الغاء العقوبات البدنية. صناعة التاريخ ان هذه القرارات هي أكثر من مجرّد تطوير هيكلي أو اجرائي أو قانوني أو دستوري، وانما هي المفتاح الذي يمكّن تونس من ولوج بوابة المستقبل من خلال تأكيد الذات المتفتحة وتكريس الحوار مع الذات وداخلها حتى تكون ذاتاً قادرة على محاورة الآخر، محاورة المبدع والمضيف، لا محاورة التابع والمستهلك فالمتأمل في المتغيرات التي تعصف بالعالم يدرك ان الاقصاء من التاريخ امكان وارد، بل ان هذا الفعل الاقصائي هو من القوانين التي تصوغ شراسة العولمة وتحكم اللحظة الإنسانية الراهنة. وهذا الاقصاء بات اليوم يهدد عديد الأمم والشعوب ومن بينها الأمة العربية. وها ان تونس في ظل حكم بن علي تقدم تجربة ناجحة تقوم على توفير مستلزمات القدرة على ان تكون جزءاً فاعلاً في صناعة التاريخ لا عالة عليه أو خارجين عنه من خلال فعل ارادي وذاتي لم يمل أو يفرض علينا وانما هو نتيجة استشراف صائب، وتكيف ومرونة مع تطور الواقع والمحيط بما يتوافق وخصوصية المجتمع وحاجياته. وهذه القدرة تتطلب - كما تبرز ذلك التجربة التونسية - اعتبار الديموقراطية قطعاً مع مناخ الخوف ووسيلة لمصالحة الذات مع فضائها أي هي كسر للقيود التي تكبل الإنسان وإشاعة روح المبادرة لديه في كل المجالات الاقتصادية منها أو السياسية أو الثقافية بما يؤكد استقلالية الإرادة الوطنية ولا يمس بها تلك الإرادة التي ترفض البقاء في أسر الماضي مهما كانت عظمة انجازاته وانما تنشد المستقبل مهما كانت صعوبات مواجهة تحدياته لأنه وكما قال الرئيس بن علي في خطابه - "النضال في سبيل الوطن جهد لا ينتهي". * رئيس تحرير مجلة "الوفاق العربي".