في تلك المرحلة كان الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف يركض، كما لم يحدث لأي زعيم سوفياتي قبله ان ركض. كان يبدو عليه كأنه يسابق الزمن ويحرق المراحل. وعند بداية ذلك العام 1987، كان خلال اجتماع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي أحدث صدمة كانت الى حد ما متوقعة على أية حال، حين أعلن عزمه على تحقيق سلسلة من الإصلاحات الاستثنائية "التي ليس لها سابق في تاريخ هذا البلد". وكانت الإصلاحات المعلنة والتي جعل إعلانها من ذلك الاجتماع واحداً من أهم الاجتماعات التي عقدها الحزب الشيوعي السوفياتي في تاريخه، وعلى الأقل منذ المؤتمر العشرين للحزب، والذي شهد تقرير خروتشوف ضد الستالينية وستالين وأثار ما أثار من ضجة كانت تتعلق بثلاثة مستويات مختلفة: أولاً، مستوى إصلاح الحزب بشكل يجعل المناصب الرئيسة فيه يتم شغلها بالانتخاب السري عبر تعدد المرشحين" وثانياً على مستوى إجراء انتخابات حرة للنواب، على أساس تعددية المرشحين أىضاً" وثالثاً على مستوى الانفتاح الاقتصادي. ومن الطبيعي القول إن إعلان غورباتشوف عن هذا كله كان أشبه بثورة حقيقية. ثورة أثارت حماس الكثيرين ولا سيما في الشارع وفي أوساط الطلاب والمثقفين، ولكن أيضاً في الخارج. ولكن إذا كان غورباتشوف قد اعتبر نفسه منتصراً عند بداية العام، حين أعلن عزمه الإصلاحي ولم يلق معارضة تذكر، فإنه كان عليه انتظار خريف ذلك العام نفسه قبل أن تحل خيبة الأمل محل الشعور بالانتصار، وقبل أن يفيق على واقع أن هناك، في وجهه معارضة جدية وقوية، ما يجعل من غير السهل عليه تنفيذ خططه التي كان، هو، يرى أن من دون تنفيذها لن يكون هناك مستقبل لهذا البلد. خيبة الأمل، حلت يوم 3 تشرين الثاني نوفمبر، حين كان غورباتشوف انتهى من إلقاء خطابه لمناسبة الاحتفال بالذكرى السبعين لثورة تشرين الأول اكتوبر الشيوعية. يومها ألقى غورباتشوف خطابه في الكرملين في حضور حوالى 5800 شخص يشكلون في مجموعهم مجمل أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، وكانوا هم أنفسهم الذين سبق أن اجتمعوا أوائل العام واستمعوا الى خطاب غورباتشوف الإصلاحي، مضافاً إليهم اعضاء مجلس السوفيات الأعلى لاتحاد روسيا، ومندوبو الأحزاب الشيوعية العالمية البالغ عددهم في ذلك الحين أكثر من 160 مندوباً. استغرق خطاب غورباتشوف يومها نحو ثلاث ساعات، وفيه دعا الزعيم السوفياتي الحاضرين الى الاستنفار الجدي من حول سياساته، مؤكداً لمن يريد أن يصغي إليه أن "السنوات الثلاث المقبلة سوف تكون خطيرة ومهمة وحاسمة". غير أن غورباتشوف، على رغم طول خطابه، وعلى رغم أنه طاول فيه بعض اهم القضايا الشائكة المنتمية الى الماضي والحاضر، لم يجرؤ على الدنو من واحدة من قضايا الماضي الأكثر إثارة للسجال، قضية المحاكمات التي اجراها ستالين خلال النصف الثاني من سنوات الثلاثين. وكان كثيرون من الإصلاحيين قد أشاروا على غورباتشوف بضرورة التحدث عن هذه المسألة والتنديد، حتى، بالمحاكمات، لأن من شأن موقف كهذا أن يرضي ويطمئن كثيرين لا يزالون يرون في محاكمة زعماء مثل كامينيف وزينوفييف وبوخارين، بل حتى تروتسكي أيضاً، خطأ لا يغتفر وبداية لانغلاق الشيوعية على نفسها ولانشقاقاتها. غير أن غورباتشوف على رغم جرأته كلها، آثر عدم الدنو من هذه المسألة في خطاب سيرى كثيرون لاحقاً أن نصه الأصلي كان عرض على اللجنة المركزية يوم 21 تشرين الأول اكتوبر الفائت، ونال رضاها، لكن تعديلات عدة عادت وأجريت عليه بعد ذلك. وهذه المسألة المتعلقة بمحاكمات موسكو لم تكن الأمر الملتبس الوحيد الذي كان مأخذاً على الخطاب. فالحال أن غورباتشوف إذ عمد الى توجيه تحية الى ذكرى خروتشيف بسبب "جرأته وشجاعته" في التنديد، بالستالينية، تعمد أيضاً أن يصفه في الوقت نفسه بالنزعة "الذاتية" و"بالمبادرة الطوعية" غير المدروسة، وهي التعابير نفسها التي كانت قد استخدمت في العام 1964... ولكن في تلك المرة من أجل تبرير التخلص من الزعيم الذي كان أول من أحدث شرخاً في جدار الستالينية بعد رحيل صاحب هذه الأخيرة. الصورة: غورباتشوف، أشباح الماضي.