الكتاب : أو أكثر شعر الكاتب: فادي طفيلي الناشر: دار الانتشار العربي بيروت 2000 أول ما يسترعي الانتباه ويستحق التأمل في قصيدة الشاعر اللبناني الشاب فادي طفيلي في مجموعته الشعرية الأولى "أو أكثر"، انفتاح هذه القصيدة على عالم كتابة النص في حشد من الصور المضيئة بقوة الكامن فيها من شعرية - إيحائية، وتعتمد أيضاً في جوانب منها اللغة أداة لتوصيل شحناتها. كما أنها تبدو اعتباطية - مجانية إذا تعاملنا معها على أساس ذهني - فكري وهذا ما يتناقض طبعاً مع الشعرية الحديثة، ويجافي بلورية الشعر وجوهريته. إذ ا كتابة كهذه ليس هدفها عرض جملة أفكار متتابعة - منتظمة، تمليها ضرورات لغوية وجمالية معينة. ولعل السرد الذي طغى على غالبية قصائد هذه المجموعة لم يتمكن من استدراجها الى الوقوع في فخ اللفظية، واستسهال استخدام أدواتها. وقد ظلت حميمية هذه النصوص وتماسها الشعري - الانساني المسوّغ المركزي الذي جعلها مضيئة، متحركة حتى "في الحافة التي/ نصبوا عليها قطع الزجاج المحطم". في القسم الأول من المجموعة تحت عنوان "نفسية" يحشد الطفيلي ست مطولات ذات انشغالات وانهمامات تكاد تتوحد إن من حيث الهجس الدائم بالمكان الغائب أو المتواري، أو لجهة الاسلوب وتقنيات التعبير التي تشكلت منها القصائد. ويذكّر فادي في هذا المدخل الى بقية قصائد المجموعة بما كانت تشيعه الكتابة السردية وما تنطوي عليه من تداعيات ذاتية مغرقة لها الكثير من الانسحابات على المكان والآخر، والمعتنية بالتفاصيل ذات الايقاع اليومي المجاور بدرجة عالية للغنائية التي افتقدتها الكتابة الحديثة، هذا إذا ما عُدَّ منخرطاً فيها، ولا يبغي الحياد عنها. فالرغبة في "التحليق" في القصيدة الأولى لا يحكمها عدم اكتمال الجرأة لدى الشاعر على "فسخ" "قشرة الدم اليابس / المسودّة قليلاً/ بين عيني وأذني" كما يقول في بدايتها بل هشاشة الرغبة في الأصل، واليقين القاطع بلا جدوى الفعل، ولا جدوى الحماسة له حين ينكشف الواقع الصرف الذي يصادر حركة الشاعر خصوصاً والانسان عموماً، وحين بقسرية صرفة "يبرد جسدي/ كروح جبل الجليد/ وعندما تسقط قشرة الدم اليابس/ بمفردها بعد أسبوع/ بلا ألم أو جرأة تذكر". على رغم تقاطع الاستعارات والتشبيهات واقتراب التيمات النفسية ثمة صوت شعري دافئ، مَرِن بدا مرة في تصاعد درامي - رمزي يشير اليه فادي كأن يقول في قصيدة "نفسية" محدداً الألم "بين عيني وأذني" ومرة أخرى في تصاعد درامي - نفسي - إيبستمولوجي لصور هي ليست في الأصل نفسية فحسب، بل تجد أماكن لها في الذاكرة الفتية، المختزِنة مشاهد وأحداثاً ومواقف عاشها الشاعر في مراحل مبكرة جداً كأن يقول: "... بين يدي اليمنى/ ورأسي.../ هناك/ حيث ينام مسدسي/ الخفي/ وتغفو يدي المتوترة/ ويذهب رأسي الساخن/ في منام بعيد". لا يغادر نبر الفتوة النزق كتابة طفيلي، ويكاد يغلف جميع قصائده شغب طفولي جارح لاهث خلف أمكنة معدومة، فاقد الإحساس بالزمن، ويدرك سلفاً أن الخيبة والفشل ما الحصاد الوحيد في "كوكب/ لا حياة عليه". وهذا ما يقوده بشكل اعتيادي الى رسم ملامح الانتحار إذ يقول: "ككل يوم/، ... سأشطب معصمي/ في المكان ذاته". في "أسرار" القسم الثاني من المجموعة يرسخ فادي هاجس البحث عن المكان وأشياء تتشكل منها محطات الطفولة شبه المغيّبة من مثل: "الورق الملون/ والطائرات الخفيفة واللعب السهل/، ... وأراجيح من قماش العتمة" ويحاول أيضاً إقامة نسيج متقطع بين أحلام، وأمنيات بسيطة كما في قصيدة "بيت طيب بابه أخضر" و"حلوى" و"أسرار" إلخ. الخفوت والكلام الخفيض والعبارات الدامعة، الكئيبة التي صاغ بها طفيلي قصائده تلمح الى انقباض وحذر وريبة دفينة توحي بمأسوية هذه النصوص لكنها تجانبها في ممرات أفقية لا تحلو لها الإقامة فيها. وتبقى قصيدة كهذه تعتمد الإخبار والتوصيف والمحايدة، ما يقربها من أجواء ومناخات القصة القصيرة، أو الحكاية، وهي غالباً ما تتولّد من حوض صُوَر سائلة سيلان الوعاء الطافح باللون، ربيبة منابت شعرية لا تتوخى الإدهاش والمفاجأة. ولعل في هكذا صنيع تكمن ميزة هذه الكتابة التي تحرك كوامن الشعور بالتراضي كلما استفاضت وكثرت سيولتها الكلامية، إلا أن عنصر الإمساك بالفكرة من بداية القصيدة حتى نهايتها الهاجسة بالشعر جعلها على بعض اختلاف وفرادة مع كثير من قريبات لها عند بعض الشعراء الشباب. لم يختر فادي طفيلي لقصيدته النازعة نحو التدمير، الذي عنون به قصيدته "تدمير ذاتي" أن تكون جزءاً من لعبة فانتازيا، وتنويعات كتابية تجريبية، بل هو أُحيل الى أجوائها وانعقدت على هذا الإشهار الدلالي المحايث لمعظم القصائد التي ألّفت مشروعاتها من دون أن تتكبد عناء تصيّد الفكرة، أو الموضوع أو النص. فهي قصائد متصلة بمناخ لا يسعى نحو طرق رؤيا جديدة، إذ ان حياة هذه النصوص مستمدة من وهم اندلاعها المفقود في كوكب "رمادي، وقارس وثقيل/،..." حيث أن ثمة أيادي غير تلك الخارقة القدرة تقبض عليه، وأن "الحياة الطويلة الى هذا الحد/، ... غريب أن لا نحزن/، ... إذ نقيم بها قسراً/ من فرط ما نبتعد عنها".