ثمة من يقول، وهو قول ينطوي على كثير من الصواب، ان معظم النتاج العربي في السبعين سنة الاخيرة، وبشقّيه الابداعي والفكر سياسي، كان "رومانسياً". وهذا سبب اضافي للاهتمام بالمحاضرات التي اصدرتها مؤخرا دار "شاتّو وويندوس" بعنوان "جذور الرومانسية". ففيها يوضح صاحبها اشعيا برلين بان ما يعنيه بالحركة الرومانسية ليس فقط تلك المحصورة في الفن، بل اساساً ما حصل للمرة الاولى في تاريخ الغرب: حين سيطرت الفنون على أوجه الحياة الأخرى، وحين نشأ نوع من طغيان للفن على الحياة. فهذا، عند المفكر السياسي البريطاني الراحل، جوهر الرومانسية خصوصاً وأن ما لا يُحصى من ظاهرات زمننا، كالقومية والوجودية والاعجاب بالعظماء وتقديس المؤسسات غير المشخصنة والديموقراطية والتوتاليتارية، هي كلها، وعلى تبايُنها، عميقة التأثّر بصعود الرومانسية التي تخترقها جميعاً. وما يترتب على ذلك ان هذا الاتجاه الذي ظهر في قرون مضت، لم يفقد راهنيته ومعناه بالنسبة الى زمننا، فلا تستنفده التاريخية الصارمة بالتالي. لقد حدث تحول راديكالي في القيم خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، اي قبل النشأة المتعارف على انها النشأة الرسمية للحركة الرومانسية. وطال هذا التحول الأفكار والمشاعر والعمل في الشطر الغربي من العالم، فتداخل في الاحداث العظيمة الاخرى كالثورة الصناعية في انكلترا والثورة السياسية في فرنسا والثورة الاجتماعية والاقتصادية في روسيا. والحال ان الادبيات التي وُضعت عن الرومانسية تبقى اكبر من الرومانسية نفسها، ومع هذا فاهميتها انها اضخم الحركات المتأخرة زمناً لجهة تحويلها حيوات اهل العالم الغربي وافكارهم، بل ربما كانت، في وعي الغرب، اهم ما حصل من تلك الحركات، فيما الاخرى التي تقل اهمية عنها، لم تنج من عميق التأثر بها. فأين نشأت الحركة الرومانسية هذه؟ بالتأكيد ليس في انكلترا، مع انها، بالمعنى التقني البحت، نشأت فيها على ما يُجمع المؤرخون. فالبلد المذكور لم يكن مهد الاحتدام الدرامي للرومانسية، ولا قدّم، وهذا ما يهم، الاطار الدائم للتفكير الذي لازمها. ان معظم ما حصل في الثلث الثاني من القرن الثامن عشر، مما غدت ولادة الرومانسية توسم به، انما كان مهده المانيا. لكنْ قبل هذا لا بأس بالتعريج على تناقضات الحركة العظيمة: فالمؤرخون يرون ان الرومانسية اعتراض مشبوب بالعاطفة على كونية اي واحد من الاجناس لا البشر وحدهم، ما يضعها على الطرف النقيض للثورة الفرنسية. بيد انها تملك من التناقضات ما هو اكثر من هذا بكثير: فهي تؤمن بعظمة الشهادة، لكنها تؤمن ايضاً باولوية الاقليات على الاكثرية، وبان الفشل انبل من النجاح. وما انجذاب الرومانسيين الواضح الى ما هو ناءٍ وبعيد وبدائي، الا من تعابير تناقضاتها. فهي، في وقت واحد، الشباب والحيوية والحالة الطبيعية الاولى السابقة على التمدين والتصنيع، وهي المرض والانحدار والتصدع والانحطاط والموت. انها هدوء البال وهي الفوضى والعنف والموت. وهي موسيقى الرعاة وغموض المرتبكين والمعقّدين والمُجددين غير المفهومين. انها "مجتمع الموتى العظيم"، بحسب بارّس، وهي في تتمة العبارة اياها "لغة الذين لم يولدوا بعد". انها عبادة كارليل للسلطة وكره هوغو لها. التقوى والالحاد، الورع والتمرد... وقد حملت تناقضاتها مواقف حديثة نسبياً منها الاستعداد الذي ابدته للتضحية ولتقديمها. فالشهادة والتضحية باتتا، مع اواخر عشرينات القرن الماضي، مرغوبتين بذاتهما وبمعزل عن القضايا التي استدعتهما، وكذلك حس البطولة والعظمة وحس المأساة، او التراجيديا. فالأجيال السالفة افترضت المأساة ناجمة عن خطأ ما تم ارتكابه وكان يمكن تلافيه. فلو عرف اوديب ان ليوس والده لما قتله، ولو عرف عطيل ان ديزدمونا بريئة لما حلّت المأساة. وبهذا فالتراجيدي هو ما ينجم عن الافتقار الى شيء ما كالمعرفة او المهارة او الشجاعة الادبية او القدرة على الحياة. لكن منذ اواخر الثامن عشر شرع هذا يتغير، كما راحت تتغير، تاليا، الفكرة القديمة القائلة ان كل نزاع قابل للتسوية. ففي مأساة "مصرع دانتون" لبوخنر مثلاً، لا يظهر سبب وجيه يدعو الى قتل دانتون، الثوري المخلص الذي ارتكب بضعة اخطاء قد يرتكبها ايٌ كان. مع هذا يبدو روبسبيير مصيباً كل الصواب في قتله. اي ان الخطأ لم يعد سبب المأساة، بل هناك حتمٌ ما يستدعيها. وفي هذه التناقضات وبينها يصعب، تعريفا، البحث عن قواسم مشتركة ما خلا حس الاختلاف عن شائعٍ ما، او حضارة ما. غير ان هذا القاسم لا يكفي لرسم الموصوفين به رومانسيين، فكيف اذا كان الهدف تعريف الحركة الكبرى التي هي الرومانسية؟ تبدأ الخطوة الاولى بالهجوم على التنوير الذي غذى شرايين التقليد العقلاني الغربي. والتنوير، في النهاية، ثلاث فرضيات - مبادىء: ان الاسئلة كلها قابلة للاجابة عنها، فاذا استحال تقديم الجواب، إن لم يكن اليوم فغداً، فقد السؤال كونه سؤالاً. وان الاجابات يمكن معرفتها بوسائل وتقنيات قابلة للتعلّم والتعليم. وان الاجابات هذه ينبغي ان تتساوق في ما بينها، وان يقود العقلُ سعيها، والا عمّت الفوضى واستبدّت. وقد اختلف التنويريون كثيرا في ما بينهم، الا انهم اتفقوا على ان الفضيلة تقوم على المعرفة. فحين يصل الامر الى الجماليات بدا نقل الطبيعة في الفن، على تعدد التأويلات وتفاوت المواهب، هو القاعدة الذهبية التي بموجبها كُتب الطغيان للشكلي والنبيل والمتناسق. بيد ان التنوير، الذي لم يخل من استثناءات، هو نفسه من سجّل بدايات نقده. فحتى مونتسكيو، وهو احد ممثليه الراسخين، اقترح عدم تماثُل البشر وتساويهم، مولياً اهمية فائقة للتربة والمناخ، ومحذّراً من ذهاب القوانين بعيداً في فرضية الوحدة الانسانية. والضربة الاخرى للتنوير جاءت من هيوم، فيلسوف انكلترا القرن الثامن عشر. فقد شكك، من دون ان يقصد التشكيك بالتنوير، بفرضيتين: فرضية العلاقة السببية بين الاشياء، وفرضية البرهان الايجابي على وجود الاشياء: فقد أصطدم بالطاولة، وهذا تنبيه سلبي الى وجودها، اما ان ابرهن هذا الوجود ايجابياً، بالمعنى الذي تُبرهَن فيه الفرضيات الرياضية فهذا مستحيل. هذه النقودات شككت بالعالم كواحدٍ عقلاني يؤثّر بعضه في بعضه الآخر. مع هذا فلا مونتسكيو ولا هيوم انتسبا الى اللاعقلانية او عارضا القيم التنويرية الصلبة كالعلم والتقدم وامكانات العقل في بلوغ السعادة. غير ان النقد الراديكالي جاء من ألمانيا. والأمر يبدأ بتخلف الألمان في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بعد تقدم عرفوه في السادس عشر. فدورر كان من اهم رسامي اوروبا آنذاك، ولوثر كان اهم مُصلحيها الدينيين. اما القرن الذي تلا فلم يشهد، ما خلا ليبنتز، اسماً المانياً كبيرا واحدا. لقد عجزت المانيا عن بناء دولة مركزية على غرار فرنسا وانكلترا وهولندا. وفي السابع عشر والثامن عشر حكمها 300 امير و1200 امير منطقة. والى قلة اكتراث الامبراطور، فعلت فعلها آثار حرب الثلاثين عاماً التي قضت على اعداد كبرى من الالمان وسحقت بالدم ما كان يمكنه ان يفضي الى نهوض ثقافي باهر. وفعلاً ضُربت الروح الالمانية واستحال ان ينشأ مركز مديني كباريس فتريّفت الثقافة وتفرّعت في وجهتين، اما الحذلقة التأويلية للتبشير اللوثري، او التمرد على ذاك التبشير السكولائي الميت مع التوكيد على الحياة الداخلية للروح الانسانية. وشهدت تلك الفترة سطوع عقدة نقص حيال الوطنيات الاوروبية الاخرى، لا سيما الفرنسية التي سحقت المانيا فيما هي تتبوأ صدارة العلوم والفنون. وانعكس مشاعر الحزن والمرارة والاذلال في الادب الشعبي اواخر السابع عشر. وحتى الموسيقى الالمانية نزعت منازع انطوائية ودينية وعاطفية تغاير البهجة التي اتسمت بها مثيلاتها الاوروبية. فالموسيقى العبقرية لباخ، مثلا، لم تتخلص من انحصارها في الحياة الدينية الداخلية لمدينة لايبزغ. ومع انها عُزفت في بلاطات الامراء فموسيقاه لم تطرح على نفسها مهمة الوقوف امام بلاط عظيم زاهٍ، او مخاطبة احاسيس كونية ناهدة الى الشمول. وتبعاً لهذه الخلفية غدت الحركة الوَرَعية، وهي من جذور الرومانسية، حركة متجذّرة في المانيا. والورعية فرع من اللوثرية دأب على درس التوراة وكنّ احتراما عميقا للعلاقة الشخصية بين الانسان وربّه. هكذا راج تركيز على الحياة الروحية وتوكيد هائل على العلاقة التي تربط روح الفرد الانسانية المعذبة بباريها، قابلهما احتقار للتعلّم وللطقوس والشكل والعظمة والاحتفاليات. بهذا حمل رواد الحركة الورعية، سبِنِر وفرانكِ وزِنزاندورف وارنولد، الراحة والخلاصية لكثيرين من الالمان المسحوقين سياسيا واجتماعيا. لكن ما كان يحصل بهذه العملية، هو حركة انكفاء عظيم نحو الذات مشابه لما جرى في اليونان القديمة حين راح الاسكندر يدمر المدن - الدول فهرع الرواقيون، كما الابيقوريون، يعظون باخلاقية جديدة تقود الى الخلاص الشخصي. وكان من التجليات الشكلية والمظهرية التي ارتدتها التشكيكُ باهمية السياسة والحياة المدنية وتتفيه كل المثل التي رفعها كبار اليونان. فحين لا تستطيع قطف الثمار، عليك ان تعلّم نفسك أنك أنت لا تريدها وتتعالى عليها. اذا حرمك الأمير الأرض، خرجتَ بأن الأرض سخيفة، واذا حرمك المكانةَ قمتَ بتعهير المكانة. وتجنباً لإنزال الضربات بجسدك، تكمش جسمك الى اقصى حدود الانكماش وتضغطه في نفسك وتعزله عن العالم بحيث لا تصادفه اية ضربة جديدة، وتقول لكل شيء وعن كل شيء: حصرم في حلب. وانما نتيجة لهذا الميل ظهر ادب عاطفي جريح، شخصي وعنيف يضج بكراهية المواهب، ولكنْ أيضاً بكراهية فرنسا وعلامات السلطة او النجاح او البذخ او الحياة الهانئة. وقد تأسس على الميل المذكور ضرب من العداء للثقافة وكراهية للغريب افادت منهما، في القرن الثامن عشر، ثقافة ريفية تمجّدهما، ثقافةٌ قضى غوته وشيلر حياتهما في مكافحتها. والواقع ان الالمان الاشد تأثيراً في القرن الثامن عشر، وهذا ما يدعم فرضية الجرح النرجسي، كانوا اشخاصاً ذوي ملمح سوسيولوجي دال. فعلى عكس نظرائهم الفرنسيين ولد ليسنغ وكانط وهيردير وفيخته ولادات عادية متواضعة، بينما انتمى هيغل وشيلنغ وشيلر وهولدرلين الى الشريحة الدنيا في الطبقة الوسطى. واذا كان غوته بورجوازياً غنياً، الا انه لم ينل لقباً ملائماً الا في وقت لاحق. ووحدهما كلايست ونوفاليس كانا اعياناً، اما الوحيدون الذين ربطتهم صلة بالاريستوقراطية، فالاخوان الكونتان ستولبرغ والبارون اكرتسهاوزن. والثلاثة الاخيرون لا يندرجون في مقدم صفوف الثقافة الالمانية آنذاك. هذا المنبت، المشابه لوضع "الأمة"، كان بذاته سبباً للنقمة. فحين وصل هيردر الى باريس في مطالع سبعينات الثامن عشر، لم يستطع الوصول الى ايٍ من زملائه الفرنسيين من ابناء الطبقات العليا. لقد بدوا له مصطنعين ذاتيين وباردين يعجزون بلا كلل عن فهم حقيقة البشر. وهذا ما زاد الكراهية الثقافية لفرنسا، لا سيما وان "الاستعلاء الفرنسي" شمل ايضاً الراديكاليين ممن كرهوا ملكهم وكنيسة روما. ولما كانت الثورة على الموقع الفرنسي المسيطر ثورةً على شطر من الواقع، وشطر من واقعية الواقع، تداخل التمرد الالماني ضد فرنسا والتمرد الرومانسي ضد الواقعية الضاربة في التنوير. فالعلم مثلاً، في نظر هؤلاء الألمان، هو ما يجيز للفرنسيين، وللعقلانيين، تشريح الطير بدل التمتع بالنظر اليه والتأمل في علاقته بالحرية. ولما كان القرن الثامن عشر قرن العلم، ولما بلغت عقلانيته حد الاقصى فراح تلامذة لايبنتز يبشّرون بالدين العقلاني، ابدت العاطفة الانسانية تطلّبها الى اللاعقلاني تبحث عنه في ميادين اخرى. لهذا كان القرن المذكور، ايضاً، قرن الفِرق وقرن الدعاة النصّابين ونشأة "العلوم" الزائفة. ولم يقتصر هؤلاء على الالمان اذ تبعهم بعد فترة، انكليز كالشاعر وليم بلايك الذي تأثر به جبران خليل جبران. هذا الارتداد ضد التنوير، ضد تردي وضع الدين، كان ارتدادا ضد فرنسا وفكرها الذي رُسم بوصفه فكراً بارداً لا يجيد فهم الروح، لكنه ايضاً معادٍ للحركة والمباردة. ومن هذا القبيل كتب الشاعر الالماني لِنز الذي انتحر لاحقاً: "الفعل، الفعل هو روح العالم، لا المتعة، لا الاحتكام الى المشاعر، لا الاحتكام الى العقل. وحده الفعل. فقط عن طريق الفعل يصبح المرء صورة عن الله ... من دون الفعل، كل المتعة، كل المشاعر، كل المعرفة، لا شيء الا الموت المؤجّل". وبدورهم عبّر المسرحيون الالمان في سبعينات وثمانينات القرن، مع انهم لم يحتلوا مواقع متقدمة في التاريخ الثقافي لبلادهم ولاوروبا، عن مناخات نفسية لم تجد ما يماثلها في باقي القارة. وكانت الموضوعة المتكررة تدور حول وجود مشكلة في العالم، في الطبيعة، لا حلا لها، مما يترتب عليه استحالة العيش معا بين القوي والضعيف، وبين الآساد والأغنام. لكن يبقى ان أبوي الرومانسية هما هيردر وكانط. اما تصور هيدر المتعلق بالتعبير، وبالفن كتعبير، فهو الذي قضى بالفصل بين الوظائف الفردية والوظائف الفنية - الثقافية التي تقوم بها الجماعة من خلال الفرد. فمن يأكل ويشرب يأكل ويشرب، الا ان كاتب الاغاني، مثلاً، يستخدم ايقاعات واصواتاً، لا بل كلمات، هي ليست من ابداعه بل من ابداع "الأمة الالمانية". ومن الأمة التي تحدث عنها وهو لم يتحدث عن العِرق والجنس ينبني عالم من الامم المتغايرة التي لا ينفع الزمن في ازالة تغايُرها لأنه لا يسعه ان يزيل تغايُر تعابيرها. في هذا أسس هيردر للتاريخانية بقدر ما اسس للتمرد على الواحدية الانسانية للتنوير، فيما كره كانط، معاصره وشريكه في الخلفية الورعية، الرومانسية. فهو مجّ التعميم وأُخذ بالعلم، بل كان هو نفسه عالماً، واعتبر ان مهمة حياته شرح اسس المنطق العلمي والطريقة العلمية. مع هذا اندرجت فلسفته الاخلاقية في مكان مختلف هو ما يسمح بالكلام عليه كرائد للرومانسية التي كرهها. لقد كان متحمسا للحرية الانسانية، قادته خلفيته الورعية الى استغراق في ما هو داخلي واخلاقي في حياة البشر. وكان احد الافتراضات التي اعتنقها ذاك الفارق بين الرغبة وبين الواجب، بين الميل وبين الصائب واللازم. فالانسان، بالنسبة اليه، لا يكون انساناً الا لأنه يختار. وما يميز الانسان عن سائر الطبيعة خضوع الاخيرة لقانون السببية، وقدرته هو على الخيار تبعا لارادته. فالارادة هي ما يتيح التفريق بين الجيد والعاطل، فلا يكون، اذن، فضلٌ لاختيار ما هو صالح، إلا اذا توافر اختيار ما هو سيء. وعنده ان التنوير انما هو قدرة الشخص على الامساك بحياته وتقريرها. ولهذا رفض بحماسة واصرار اياً من اشكال السيطرة يمارسها فرد على فرد، مؤسسا لاعتبار الاستغلال الانساني، المُعطّل لارادة المستَغَل، اكبر مثالب الاجتماع. فاذا صح ان مفكرين مسيحيين سبقوه الى اعتبار الاستغلال هذا اسوأ ما يمكن لانسان ان يرتكبه، الا ان كانط هو من علمن المعادلة هذه وادرجها في سائد الفكر الاوروبي. فالكرم، بالنسبة اليه، رذيلة لأنه شكل من الابوة والاحتواء يمارسه الانسان على الانسان، وفي عالم قائم على العدالة لن تدعو الحاجة الى وجود الكرم. اما الشفقة فيفضل عليها التعرض للتجاهل وللاهانة، اذ البشر ينبغي ان يكونوا متساوين في قدراتهم على الحرية والخيار، فحين يكون احدهم قادرا على بذل الشفقة لآخر فانه يحيله شيئاً او حيوانا. وبهذا وضع كانط الارادة في مواجهة الطبيعة التي كان يُنظر اليها، حتى ذاك الحين، كمصدر للتناسق والانسجام والعدل، مصدرٍ ما على الفن الا ان يحاكيه. وقد تطورت هذه الوجهة على يد تلميذه المخلص فريدريك شيلر. فهذا الاخير، الشاعر والمسرحي والمؤرخ، اعتبر ان ما يجعل الانسان انسانا حقيقةُ قدرته على النهوض فوق الطبيعة وتكييفها وسحقها واخضاعها لارادته الجميلة التي تقودها الاخلاق من غير ان تخضع لمطلق تقييد او محدودية. اما تلميذ كانط الآخر الذي كانت مساهمته في الرومانسية كبيرة، ففيخته. ذاك ان المثقف الذي اشتهر لاحقاً بخطابته القومية، اشتهر قبل ذاك بتوكيده اولوية "الفعل" والمبادرة على المعرفة والطبيعة. فالمعرفة ليست سوى وسيلة تزودنا اياها الطبيعة من اجل ان... نفعل. انها معرفة كيف نبقى على قيد الحياة، وكيف نفعل وماذا، وكيف نكون وكيف نكيّف الاشياء لما في مصلحتنا. ومن ثم فانسانية الانسان مرهونة بالفعل والحركة، بالاقدام والمبادرة. هذه التصورات في مجموعها، وفي التطوير الذي عرفته على ايدي رومانسيين آخرين، اثمرت ظاهرتين وسواسيتين لم تفارقا القرنين التاسع عشر والعشرين، ولا ارتاحتا من منازلة التنوير: النوستالجيا الحنين والبارانويا العُظام. وربما لم تتجمع الظواهر هذه كما تجمعت في الموسيقى. ففي القرن الثامن عشر، ولا سيما في فرنسا، اعتُبرت الموسيقى فناً متدنياً لا يشفع به قليلا الا كونه كاشفاً لاهمية الكلمات. اما الرومانسيون الالمان للحقبة نفسها فذهبوا مذهبا بالغ الاختلاف معتبرين ان الموسيقى "تكشف لنا كل حركات روحنا وقد حُلّت من جسومها". وما لبث شوبنهاور ان رأى فيها التعبير عن الارادة العارية وعن كل طاقة داخلية تحرّك العالم. وعموماً نُظر الى الموسيقى كمعطى مجرد ومفصول عن الحياة، وكتعبير مباشر لا يقلّد ما عداه، شديد البعد عن اي وصف موضوعي لاي شيء كان. لقد وضعت الرومانسية اصبعها، وهذا ما لا شك، على جرح لم تعره الكلاسيكية انتباهها، اي القوى اللاواعية والمعتمة، او بلغة اخرى: ان وصف الكلاسيكية للبشر، بالاستناد الى العقل والى العلم، الوصف الذي قدمه هيلفيتيوس او جيمس ميل، ه. ج. ويلز وبرنارد شو او برتراند راسل، لم يقبض على كامل التعريف للبشر وللفرد. لقد ادركت الرومانسية ان ثمة مظاهر داخلية للوجود الانساني لم تحظ بما تستحقه من اهتمام، فاعطتها هذا الاهتمام بمبالغة وحدّة عنفيتين. واطلقت الرومانسية، بهذا، تحويلا للقيم فأوجدت عددا من الفضائل، او ما اعتبرته فضائل، يدور معظمها حول موضوعة الارادة. فما دمنا نحن، البشر، ارادات، وما دام ينبغي ان نكون احراراً بالمعنى الكانطي او الفيختي، اضحت حوافزنا اهم من نتائج اعمالنا. ذاك ان النتائج ما لا يمكن السيطرة عليه، فيما يمكن التحكّم بالحوافز. وما دام ينبغي ان نكون احرارا، وما دام ينبغي ان نكون، نحن، انفسَنا الى اكمل الدرجات وابعدها، اصبحت "الاصالة"، بحسب الوجوديين ورثة الرومانسيين الأكثر شرعية، واصبح "الصدق"، بحسب الرومانسيين، الفضيلة الاولى والاعظم. وهتلر وجد الكثيرين ممن دافعوا عنه بصفته "أصيلاً" و"صادقاً" في ما آمن به، بغض النظر عما آمن به، وبغض النظر عن النتائج التي آلت اليها اعماله! * كاتب ومعلّق لبناني.