الوضع في لبنان جيد. لا تصدقوا اللبنانيين. قضيت في بيروت اسبوعاً، ورأيت فنادق ملأى بالضيوف، ومطاعم ومتاجر عليها اقبال معقول. ومع هذا وذاك كان هناك قدر من التفاؤل بين الناس لم أر مثله السنة الماضية. لم يتغير كثير منذ زرت بيروت في مثل هذا الوقت من العام الماضي، غير أن ما رأيت كان يعكس معنويات الناس أو توقعاتهم، فالشعور العام هو أن حكومة الرئيس سليم الحص لم تكن تقدر، وأن حكومة الرئيس رفيق الحريري قادرة. هل تكون الحكومة الجديدة في مستوى آمال الناس؟ المهمة صعبة جداً الى مستحيلة، وأتوقع شخصياً أن تحقق الحكومة الكثير، إلا أنني أتوقع كذلك أن يكون انجازها دون رغبات المواطنين، فهؤلاء يتوقعون معجزات بعد أن ولى زمنها. الحكومة تواجه مهمة تكاد تكون متناقضة في تفاصيلها، فهي من ناحية تريد خفض الدين العام، وهي من ناحية أخرى تريد خفض الجمارك والرسوم لتحريك الاقتصاد، وزيادة قدرة لبنان على المنافسة كبلد سياحي. وثمة مهمة أسهل منالاً إلا أنها ضرورية جداً هي تسهيل المعاملات لرجال الأعمال، وللناس العاديين، وقد تحدث رئيس الوزراء نفسه عن معاملات تحتاج الى عشرات التواقيع، وسمعت من زملاء ان بعض تسجيلات الكومبيوتر، وديسكات الانترنت يحتاج الى شهر للخروج من انفاق الجمارك والأمن العام وأجهزة أخرى، وهي عادة لا يفرج عنها حتى تكون انتهت الفائدة منها أو فاتت. هذه الأمور تعني المواطن اللبناني المقيم أكثر مما تعني مواطناً مثلي يقيم في لندن، ويزور بلده ويأمل ان يقضي وقتاً سعيداً بين ناس سعداء. ساحة البرلمان ساحة النجمة والشوارع المحيطة بها، والأسواق مثل سوق البرغوث الذي لم أكن أعرف بوجوده حتى وصلت الى بيروت، كلها تستحق أن يزور الانسان لبنان من أجلها. كان الطقس جميلاً والزحام على أشده، ورأيت حركة وبركة، ومع ذلك عندما كنت أسأل الأصدقاء المقيمين عن الأوضاع كانوا يشكون من كل شيء وأي شيء، حتى ان بعضهم شكا من حجم الدين العام كان البنك يطالبه بخمسة وعشرين بليون دولار. ربما كان "النق" خصوصية لبنانية، مثل المعارضة في الكويت، وشخصياً لم أقتنع، رغم انني أعرف كثيراً عن الوضع الاقتصادي، وقد نزلت في فندق فينيسيا، وزرت فندق فاندوم المجاور، وكانا مزدحمين بالضيوف طوال اسبوع اقامتي. وزرت فندقاً فخماً جميلاً جديداً، هو جفينور، قرب المركز التجاري المعروف في رأس بيروت، وكان أيضاً مزدحماً بالضيوف. والواقع ان افتتاح فندق جفينور ومشاريع مماثلة يعكس ثقة بمستقبل البلد ان لم يكن بحاضره. وفي حين أدرك ان للنق أسباباً حقيقية، فإن ثمة أسباباً أخرى للتفاؤل، وقد زاد تفاؤلي بزيارة معرض الكتاب، فقد تجولت فيه مساء يومين متتاليين، وكان مزدحماً بالزوار، وبأعداد يفخر بها: "ماتش كورة"، لا مجرد معرض كتاب. وسرني أن أرى الزميل القديم والدائم رياض نجيب الريس وقد استرد عافيته، سعيداً بين الكتب، فهو ورّاق بامتياز لا أحد من جيلنا يجاريه قدرة في ميدان اختصاصه المختار. ثمة كتب تلبي رغبة أي قارئ ممكن من الفلسفة اصدارات قليلة الى الجنس اصدارات كثيرة بعضها اباحي وكل ما بينهما. غير أنني أترك هذا كله لأقدم للقراء الشاعرة الشابة سهام الشعشاع، ولها ديوان صغير بعنوان "كأن لم أكن يوماً". كانت الشاعرة قدمت إلي كتابها مع اهداء رقيق، وخفت ان أكون أمام شاعرة حداثية أخرى قال فيها الشاعر: تحدثني فلا أفهم عليها/ كان حديثها الشعر الحديث. إلا أنني وقد قرأت ديوانها كله، وأعدت قراءته، أقول بثقة إن براعم شعرها ستتفتح زهراً يبقى عبقه مع القارئ طويلاً. وكان نزار قباني توقع لها مستقبلاً باهراً وأتوقع لها مثله. أغرب ما في أمر سهام الشعشاع الشاعرة انها حسناء، وهو أمر متوقع لأنها "شامية"، ورأيي فيهن معروف ومسجل. غير أنني رأيت هذه المرة من الحسناوات اللبنانيات ما جعلني أفكر في العودة للعيش في لبنان. وبما أنني أعرف ان القارئ الذي يريد الثقافة يذهب الى المكتبة، فإنني أترك رياض نجيب الريس بين الكتب، وآخذ القارئ في سياحة مع الحسان. هناك حياة ليل في لبنان تقصر عنها لندن وباريس، وأنا أعرفهما ليل نهار. وكنت قرأت تحقيقاً لصحافي انكليزي بعنوان "وداعاً ايبيزا، مرحباً بيروت". واعتقدت انه يبالغ. أما وقد رأيت حياة الليل في بيروت، فانني أشعر بأنه كان متحفظاً. ووقفت ذات ليلة أمام ملهى مزدحم حتى فاض باتجاه موقف السيارات في الخارج، ورأيت على الجانب الآخر مبنى نصف متهدم. ولا أعرف مكاناً آخر يمكن أن يواكب صخب الحياة فيه الدمار الذي يذكر الناس بالجحيم الذي خرجوا منه. قلت لصديق ان نسبة الجمال في لبنان، وقد كانت عالية دائماً، زادت بعد دراستي الميدانية عن الموضوع، وهو قال اننا من عمر نرى فيه كل امرأة جميلة، وربما كان هذا صحيحاً، ومع ذلك فهناك حسن وأناقة ودلع نادراً ان تجتمع لغير اللبنانيات. ماذا أزيد على الكتب والحسان؟ هناك السياسة طبعاً، وهي في لبنان خالطت الهواء والماء كما خالط البخل أهل مرو. وكنت في الجلسات مع الزملاء مثل جوزف سماحة ووليد شقير ومحمد شقير اسمع جدلاً حول البطريرك ووليد جنبلاط، والرئيسين لحود والحريري، والدين العام والدين الخاص، وأسرح بنظري عن هذا كله الى اثار رومانية في وسط المدينة، أو مائدة مجاورة جمعت حولها أربعة أقمار، وأرى الماضي والمستقبل معاً، في مقهى على بعد أمتار من مبنى "الحياة" العام.