الطوبى هي المقابل العربي لكلمة يوتوبيا او يوطوبيا التي تشير الى حالة مجتمع مثالي غير واقعي كما استخدمها توماس مور، على هيئة المدن الفاضلة التي تخيلها الفلاسفة من افلاطون الى الفارابي، مع ان المفردة جاءت في القرآن الكريم لمرة واحدة: "الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب" الرعد: 29. ويقول ابن كثير في تفسيره الشهير ان طوبى "شجرة في الجنة كل شجر الجنة منها، اغصانها من وراء سور الجنة، يأخذ منها أهل الجنة ما يشتهون". مع كارل مانهايم في "الايديولوجيا واليوتوبيا"، تم تحرير المفهوم من معناه السلبي الذي جاء على يد مور، وراح مانهايم يميز بين يوتوبيا سلبية واخرى ايجابية. فالفكر الطوبوي ينظر الى الواقع الراهن على ضوء الاماني والآمال والاحلام غير المتحققة التي يتطلع الى تحقيقها في المستقبل القريب او البعيد. ويرى مؤيدو الفكر الطوبوي ان لا غنى للبشرية عن هذا النمط من التفكير الذي هو بمثابة مهماز يمنع البشر من الركون الى الكسل والخمول ويدفعها الى مزيد من النمو والسير نحو الافضل. في سعيه الى اعادة تكوين اليسار العربي، بالاصح بيانه من اجل توحيد صفوف اليسار العربي في سبيل الخروج من الازمة، يرى سمير امين ان مساعيه تقع في المتن من طوبى تقدمية تمييزاً لها عن طوبى سلبية تسم الاجتهادات النظرية للاسلام السياسي على حد تعبيره، فتسعى الى محاكاة الماضي والعودة اليه. قبل ان ألج تخوم الطوبى التقدمية هذه، اود ان اشير الى ان الدعوة الى توحيد صفوف اليسار العربي ليست الاولى من نوعها. فعلى مدار ربع قرن واكثر تعالت الصيحات وكثرت الندوات في سبيل الخروج من الازمة. وكان آخرها ندوة سويسرا في 1983 تحت عنوان "اليسار العربي الراديكالي، مواقفه، ازمته، رؤيته المستقبلة" والتي ضمت اليسراويين العرب البعثيين والشيوعيين والقوميين العرب والناصريين بكل فرقهم وتشكيلاتهم وذلك في سبيل الرد على الهزائم. لكن النتيجة كانت مخيّبة للآمال، وهذه هي العادة سواء على مستوى قمة اليسار العربي او القمم العربية. ما حصل هو ان طغت فقط ارادة الايديولوجيا على حساب ارادة المعرفة وانتهت الندوة ببعض التوصيات التي ذهبت ادراج المكاتب والرياح، مع تشديد كبير على التمييز الذي تعودناه بين اليسار التقدمي واليمين الاصولي الذي من شأنه ان يمهّد لانقسام المجتمع العربي الى اشطار غير متآلفة بدلاً من توحيد صفوفه. كذلك غابت الديموقراطية عن مفردات الخطاب التقدمي الذي لم يملّ الحديث عن... الديموقراطية. في بحثه عن ازمة اليسار العربي، يرى امين ان الازمة/ المأزق هي ناتج الازمة العميقة التي تضرب النظام الرأسمالي العالمي منذ اكثر من ربع قرن والآخذة في التفاقم من دون ان يلوح ادنى اشارة للخروج منها. ويؤكد امين على ان للازمة طابعاً كلياً. فهي تضرب النظام بكليته بحسب توصيفه: مراكزه المتقدمة حيث تتفاقم البطالة وتنخفض معدلات النمو والاستثمار، واطرافه المتخلفة ومنها وطننا العربي حيث تأخذ الازمة شكلاً اكثر فجاعة كما هو الحال في افريقيا والكثير من الاقطار العربية، اذ ان كثيراً من النظم الانتاجية التي اقيمت في مراحل سابقة آخذ في الانهيار دون ان تظهر في الافق اية بوادر تفتح ابواباً وآفاقاً لمستقبل افضل، الى درجة انهيار ايديولوجيات التنمية في هذه البلدان. في اطار سياق الازمة هذه ودوامها وعجز انظمة الحكم في العالم الثالث عن مواجهتها، كان من المفروض ان يفتح الباب على مصراعيه لحركات مد شعبي وجماهيري من شأنها ان تعطي لليسار العربي فرصاً اكبر لكسب مواقع جماهيرية خاصة وانه، وكما يقول سمير امين، لم يكف بعد عن نقد الرأسمالية من حيث المبدأ. وبالرغم من ان اليسار العربي، وعبر رؤيته المؤدلجة، هو الممثل الطبيعي لهذه الجماهير، وبالرغم من ان السياق العام للازمة كان من الممكن ان يمنحه فرصة افضل لتوحيد صفوف اليسار العربي واليسار على صعيد عالمي، خاصة وان امين راح يبني آمالاً على قوى اليسار العالمي انظر كتابه "ما بعد الرأسمالية" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، الا ان ما حدث هو العكس، فما السبب يا ترى؟ وما الاسباب التي قادت الى فقدان مصداقية اليسار العربي وقادت الى تهميش دوره على المسرح السياسي والاجتماعي؟ يركز امين على مجموعة من الاسباب، منها: اولاً- وهم التنمية في اطار مشروع بورجوازي وطني يهدف الى اللحاق بالمجتمعات الاكثر تقدماً، ما غذى الوهم بامكانية اللحاق وبذلك تحول اليسار العربي الى ذيل للنظم الوطنية التي تقود هذا المشروع. ثانياً- تنازل اليسار العربي عن موقفه التقليدي كمدافع عن الطبقات الشعبية وتحوله الى جناح من اجنحة نظم الحكم مكتفياً بالمطالبة ببعض الانجازات في الاتجاه نفسه. ثالثاً- غياب النقد الاجتماعي عموماً. في رأيي ان الاحكام السابقة التي قادت الى انهيار اليسار العربي هي اسباب شائعة حظيت بكثير من النقد والاهتمام. وسمير امين لا يأتي بالجديد هنا، بل يسوق ما هو شائع. وبالرغم من وجاهة هذه الاسباب المضمرة برؤية ايديولوجية يسراوية عتيقة، فانها تتستر على ما هو اهم وتتواطأ على حجب المسكوت عنه والذي يجد تعبيره من وجهة نظرنا في امور عدة: اولها- ان اليسار العربي لم يكن في يوم من الايام الممثل الحي لتطلعات الجماهير العربية، بل كان باستمرار الناطق الرسمي باسم ايديولوجيات نخبوية وفاشية قادتنا الى رحاب الاستبداد والى الانفاق المظلمة لشرق المتوسط. ثانياً- ان اليسار العربي هو بمثابة التعبير الحي عن تخلي الاكثرية وتولي الاقلية، كما يشهد على ذلك العنوان الفرعي لكتاب حازم صاغية الموسوم ب"اول العروبة". ثالثاً- ان المسكوت عنه في سلفية اليسراويين العرب، ان هناك قصوراً منهجياً ومعرفياً يطول المنطلقات النظرية للاحزاب القومية ويطول الماركسية كنظرية ايديولوجية. وهذا ما يعترف به سمير امين على خجل، عندما يدعو الى تطوير المادية التاريخية وتجاوز الدوغمائية الماركسية، او ما يسميه بالماركسية المبتذلة والسوقية التي تستعاد الآن من قبل الماركسويين الارثوذكسيين لتفسير العولمة هذا ما يفعله صادق جلال العظم الذي يذهب الى القول ان العولمة هي اعلى مراحل الامبريالية كما هي الامبريالية اعلى مراحل الاستعمار على ما كتب لينين في كتيبه الذائع الصيت. وهذا ما يفعله سمير امين في حواراته مع برهان غليون حول "العولمة". وهنا يصح قول جورج طرابيشي في كتابه الصادر هذه الايام والموسوم "من النهضة الى الردّة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة، دار الساقي، 2000" حيث يرى ان السجال حول العولمة التي تظهر في خطاب اليسار العربي كمؤامرة امبريالية اميركية، قد اتاح فرصة ثمينة للايديولوجيا الماركسية المأزومة ان تجدد نفسها محاولة بذلك استعادة مصداقية خطابها. ويضيف طرابيشي ان شبيه ذلك يمكن قوله عن الايديولوجية القومية المنحسرة. ومن وجهة نظر البعض ان هذا القصور المعرفي المحفوف بالايديولوجيا المتخشبة هو الذي وقف حائلاً دون رؤية المشروع السوفياتي على حقيقته، وهو الذي يدفع ببقايا اليسار العربي الى التباكي على ايام زمان انظر رسالة عبدالرحمن منيف الى غورباتشوف. يقول امين: "نحن الآن امام تحدٍ هو تجديد اليسار، عالمياً وعربياً ومصرياً. بتعبير آخر اعادة تكوينه. فالخروج من المأزق يتطلب على صعيد الوطن العربي تكوين قطب ثالث قوي فعلاً على الساحة ومستقل تماماً عن قطب الحكم وعن قطب الاسلام السياسي". وامين يعترف بقوله انه عمل طويل النفس وعلى جميع المستويات ويأخذ شكل مشروع تاريخي طابعه طوبوي ولكن بالمعنى الايجابي للكلمة. وفي رأيي ان هذا المشروع التاريخي يقع على مستوى طوبوية سلبية في بحثه عما يسميه امين "البرلمان العالمي" او"اممية جديدة للشعوب". وأترك الجواب له هو الذي يرى ان المشاريع الانسانية الموصوفة برلمان عالمي، يسار عالمي ليست موضع رهان وانها غير مطروحة على الساحة العالمية. والنتيجة التي يمكن استخلاصها، انها بنات افكار وطوبويات تساعد المثقف العربي على الهروب الى الامام. أليست هذه شيمة الخطاب العربي المعاصر؟