لم تخسر الجزائر في العشرية الأخيرة فنانين عاديين هربوا من الموت "المفترض" أو المبرمج فحسب، بل ضيعت ذاكرة ثقافية وحضارية كاملة ممثلة في عدد غير قليل من الفنانين الذين أبدعوا خلال أكثر من نصف قرن. المطرب الهاشمي فروابي آخر مؤسسي الأغنية الشعبية العاصمية نسبة الى العاصمة منذ الخمسينات. انه أحد خيرة الشيوخ الذين جسدوا نوعاً من الغناء القريب من الشعب والبعيد عن النخبة في كل أشكالها. "الحياة" التقت فروابي في باريس التي يقيم فيها بعد أن ملأ الشيب شعره - على حد تعبيره - وأجرت معه هذا الحديث الكاشف عن شخصية مرموقة خارجة عن المألوف وعن نوعية فنية جزائرية غير معروفة بالقدر الكافي في الوطن العربي. هل يمكن تقديم مفهوم الأغنية الشعبية رفعاً لأي لبس ما دام هذا المفهوم مرتبطاً أيضاً بأنواع أخرى من الأغاني الشعبية المعروفة في الجزائر كالراي وفي كل البلدان العربية؟ - ولد الغناء الشعبي في القصبة، الحي العاصمي والثوري الشهير، وتكمن قوته في تجذره الحضاري، وتجاوزه لقواعد الأغنية العربية الأندلسية التقليدية التي عرفت بالمضمون الشعري العاطفي الخالص. وخلافاً لمطربي هذه الأغنية... ينفرد مطربو الأغنية الشعبية بنصوص مستوحاة من الواقع المعاش ومجسدة لهموم أو هواجس أو تساؤلات الشعب. الى أي حد نستطيع القول إن "التمرد" على الأغنية الأندلسية التقليدية كان شاملاً وتجاوز الموضوع وشمل اللغة والشكل الموسيقي؟ - صحيح... يمكننا الحديث عن تمرّد شامل لم يتوقف عند مستوى الموضوع. لقد تغير الايقاع الموسيقي في الأغنية الشعبية وأصبح سريعاً وحياً الأمر الذي أفسح المجال للارتجال والعفوية بفضل التنويع الموسيقي الكاشف عن تجديد مفاجئ وفصل اضافي يمكنان الجمهور من المشاركة بحرار وحماسة ولا يتنافى هذا التنويع مع أحادية الموضوع المعالج في قصيدة مطولة من الطراز التقليدي. ولكن يبقى الشعر خاصية أساسية في الأغنية الشعبية كما هو الحال في الأغنية العربية الأندلسية. أليس كذلك؟ - هذا صحيح أيضاً وتعد نوعية القصيدة الشعرية عنصراً أساسياً في الأغنية الشعبية، والملاحظ أن هذه القصيدة التي تستوحى من الشعر الملحن تمثل مزيجاً من اللغتين العربية الفصحى والدارجة. هل تشعر ان انفرادك بإلقاء رائع وواضح زاد من رسوخ أو ثبات الأغنية الشعبية التقليدية وربما يعود ذلك الى تجربتك المسرحية القصيرة مع المسرحي الراحل الكبير محيي الدين باش تارزي؟ - هذا يعود الى سيطرتي على الاداء باللغة العربية الفصحى كتابة وقراءة. لقد تعلمت اللغة العربية في الطفولة وأنا خريج الكشافة والمدرسة القرآنية وتربيت فنياً في أحضان الشعر الملحن. ألا تعتقد أن علاوة على صوتك القوي والمتميز تمكنت من تعميق صيرورة القصيدة التقليدية لكشفها المستمر عن واقع آني ناهيك عن النفس الذي يتطلبه الأداء والصدق في التعبير؟ - يقول المتخصصون ان فصاحتي اللغوية أعطت حياة جديدة لهذه القصيدة علاوة على الصوت كما تقولون. وأنا أشاطركم الرأي لما تقولون ان عدداً غير قليل من القصائد التقليدية والتراثية ما زالت آنية ومنها على سبيل الحصر "عويشة والحراز" مثلاً التي يطلبها مني الجمهور في كل المناسبات. هل تعتبر أن لديك جمهوراً غير جمهور مطربي الأغنية الشعبية - كما يقول البعض تمجيداً للخصوصية الفنية - أم أن كل محبي الأغنية الشعبية يجدون أنفسهم في أغانيك؟ - بكل تواضع ومن جديد أقول ان جمهوري ليس هو جمهور الغناء الشعبي بوجه عام لأنني - وكما أسلفتم الذكر - أعطيت نكهة جديدة لهذا الغناء وأعدت النظر فيه بجرأة وأضفت لمسة غير مسبوقة شكلاً ومضموناً. لا أستطيع القول ان جمهوري نخبوي ويرفض الايقاع والرقص ولكن يمكنني القول انه جمهور مستمع ومتذوّق للقصيدة الشعرية الملحنة الطويلة والضامنة للحظات رائعة من الأنس والتأمل والطرب في آن. أحس انك تميل أكثر للقصيدة الطويلة على رغم أدائك في وقت سابق الأغنية العصرية الخفيفة. هل احساسي في محله؟ - أفضلها بسبب كشفها عن الصدق المطلوب في الأداء وللعبرة الحافلة بها وللغتها التي لا تمل. وهناك سبب ارتباطها بحياتك الشخصية الى حد ما؟ - هذا صحيح أيضاً. ماذا تمثل الأغاني العصرية التي اشتهرت بها أيضاً مثل "يا الوردة" و"البارح كان عمري عشرين" و"يالشمعة"؟ - انها محطات أو مراحل خاصة في حياتي الفنية الطويلة، وعبرت عن موضة أو موجة عابرة لم تصمد أمام النوع الشعبي الأصيل المستمر الى هذه اللحظة. الذين يتذوقون أغنيتك يعتبرونك شيخاً وليس مغنياً للنوع الشعبي. ما الذي يسرك اذا علمنا ان التسمية الأولى مرتبطة بمفهوم القصيدة؟ - أنا الشيخ الوحيد الذي ما زال على قيد الحياة من الذين أسسوا الأغنية الشعبية الأصيلة الى جانب عمار الزاهي. انها تمثل الأصالة كما تمثلها أم كلثوم في الشرق وأحمد رامي وهي الأصالة الآنية أكثر من أي وقت مضى. على ذكر الشرق... كيف تفسر عدم انتشار اسمك في المشرق العربي على رغم شهرتك الوطنية ونوعيتك الفنية العربية؟ - يمكنك طرح السؤال على حكام "جمهورية الأصدقاء والأحباب" ومسؤولي وزارات الثقافة الذين يعتقدون أن اللغة الدارجة تحول دون "مرور" الأغنية الشعبية للجمهور الشرقي. ان حجتهم باطلة لأن كل المطربين العرب يغنون بالدارجة باستثناء البعض ثم إن القصيدة الشعبية مفهومة في مجملها، وللأسف عدد غير قليل من مسؤولي الاذاعة ووزارات الثقافة يتعالون على الأغنية الشعبية، ويعتقدون انها خاصة بالرعاع في حين تمثل ذاكرة حضارية كما أسلفت الذكر. أنت بدورك التحقت بالمنفى الباريسي كعدد غير قليل من الصحافيين والفنانين والمثقفين. كيف تعيش بعدك عن الوطن الذي كرمته في أغنيات جديدة تلقى إقبالاً منقطع النظير؟ - بتردد ينم عن لحظة تأمل لا أريد التحدث عن غربتي المفروضة وماذا أقول وأنا أقارب الستين من عمري؟ وهل يكون الانسان الذي يشيخ بعيداً عن وطنه سعيداً؟! الشيب والعيب!