} "إنغريد كافن" هو عنوان الرواية التي فازت أخيراً بجائزة غونكور الفرنسية. لكن إنغريد كافن هي أيضاً الممثلة الألمانية التي حققت اطلالات باهرة في أفلام فاسبندر وسواه. بين الممثلة الفريدة والرواية الفائزة التي تستوحيها ترتسم صورة امرأة حقيقية ومتخيلة! فمن هي هذ المرأة؟ في السادس من الشهر الجاري، بدأ توزيع اسطوانة جديدة للمغنية والممثلة الألمانية إنغريد كافن، أُطلق عليها اسم "الغرفة 1050"، ووضع الكاتب جان - جاك شول كلمات معظم عناوينها فيما تضمنت ألحان الكثير منها توقيع بير رابن، أحد أشهر المؤلفين المعاصرين لموسيقى الأفلام في ألمانيا. ورد هذا الخبر في وسائل الاعلام، وبدت الاسطوانة قابلة للرواج في سرعة وفي شكل يلبي مطامع منتجيها، إذ لم يكن الخبر المذكور ليحظى بأي اهتمام غير عاديّ لم يتزامن وفوز الكاتب جان - جاك شول بجائزة "غونكور" الأدبية عن رواية تحمل، في بساطة، اسم بطلتها "إنغريد كافن"، وجاء هذا الفوز في الجولة السادسة من عملية الاقتراع، حيث أحرز شول أربعة أصوات في مقابل ثلاثة للكاتب العاجيّ أحمد كوروما، عن روايته الأخيرة "الله ليس مجبراً"، وكان كوروما قبيل إعلان النتائج يرأس أعمال لجنة التحكيم الدولية ل"أيام قرطاج السينمائية" في تونس، وتعرّضت قرارات هذه اللجنة للتشكيك في صدقيتها الى درجة أنّ بعض أعضائها لم يتوان عن اتهام كوروما بالنوم أثناء مشاهدة الأفلام وفقدانه الطاقة اللازمة للعمل جرّاء المرض والشيخوخة. مهما يكن، سقط كوروما بفارق صوت واحد أمام جان - جاك شول وبدلاً من حصوله على جائزة "غونكور"، استحقت روايته جائزة "رونودو". أما شول، فانطوى تتويجه على بعض المفاجأة، ولا يعود ذلك الى فوزه أو نوعية عمله، وإنما لأنه دخل في دائرة الضوء بعد نحو ربع قرن من الغياب والامتناع عن نشر أي مخطوطة. ففي عام 1972، أصدر روايته الطليعية "الغبار الورديّ"، عن دار "غاليمار"، من دون أن تلقى استحساناً نقديّاً لافتاً، ثم بدا وكأنه ودّع العالم بكتابه المنشور عام 1976 تحت عنوان "تلكس رقم 1". مع ذلك، وقبيل بلوغه الستين، باغت الوسط الأدبي الفرنسي بنص ساحر، عنيف، غريب ومحرّض يعلن خروجه من هامشية الكاتب التي ارتضاها لنفسه في سبعينات القرن الماضي، ولكن من غير أن يكشف ولو قليلاً كيف عاش صمته المديد لما يناهز ثلاثة عقود. يُنسب اليه أنه قضى وقته مثل متقاعد بين "السرير والسفر"، ويُنقل عن ناشر روايته الجديدة أنه اكتفى بتوزيع نبذة مقتضبة للغاية عن سيرته الذاتية لا تتجاوز العبارة الآتية: "ولد في 9 تشرين الأول/ اكتوبر 1941"! سيرة قرن مضى ضمن سلسلة "اللانهاية" L'infini التي يديرها فيليب سوليرز، تولّت "غاليمار" نشر "إنغريد كافن"، وتتجاوز هذه الرواية الثلاثمئة صفحة وقد أجمع من تسنّت لهم قراءتها على امتداح منحاها الشاعري وشكلها المتباعد المساحات وتأرجحها بين الحنين والعشق الجارف، المدمّر، حيث يجانب السحر المأساة ولا يخلو أسلوب الكتابة وسط ذلك كلّه من غنائيته الرفيعة: في أجواء الميلاد، عام 1943، تفتح الرواية عالمها على بنت في الرابعة من عمرها، تنشد أغنية ميلادية لجنود هتلر. في صباها، كانت عليلة. وإثر مرور خمسين عاماً على ذكرى هذه الحادثة التي وسمت طفولتها، تقودها شهرتها الفنية الى إحياء حفلة غنائية في صرح يهودي في القدس. أبعد من تبسيط الحكاية على هذا النحو، يرى جان - جاك شول في روايته أنها جعلت عمر إنغريد كافن تكثيفاً لسيرة النصف الثاني من القرن العشرين، وبالتحديد طوال الفترة الممتدة من الثمانينات الى أواخر التسعينات، ذلك أن المنعطفات الخطيرة في هذا القرن بدت أكبر في أعوامه العشرين الأخيرة مما كانت عليه منذ بدايته وحتى العام 1978. وبحسب منطق شول، يتراءى نصّه الأدبي سرداً لقرن مضى، عمد الى صوغه في رؤية ذاتية، متجنباً إظهار نفسه مباشرة في هيئة الراوي، إذ فضّل التخفّي في زيّ رجل يهودي يدعى شارل، فهو أراد أن تبقى روايته تحيّة الى إنغريد كافن. وبما أن النجمة الألمانية تربطها به علاقة عاطفية ويقيم معها تحت سقف واحد منذ بضعة أعوام، ذهب بعض الصحافيين الفرنسيين مذهب التفكّه في القول إنّ استلهام شول المصادر التاريخية واستناده إليها في كتابه لم يستلزم منه غير استخراج المواد المتوافرة في "الأرشيف المنزلي". وهنا، تطرح علامة استفهام نفسها، فهل كان شول يحتاج الى ظهور هذه المخلوقة في حياته حتى يستأنف الكتابة ويعطي ما أخفق في إعطائه في عزّ شبابه؟ فاسبندر وما بعد لا شكّ في أن لإنغريد كافن من طبائع الإلهام ما يجعلها امرأة استثنائية، ليس في حياة جان - جاك شول فحسب وإنما كذلك في تجارب رجال آخرين سبقوه إليها وكانوا على قدر كبير من الموهبة والشهرة في دنيا الفن والاستعراض، أوّلهم المخرج الألماني الراحل راينر فرنر فاسبندر الذي لم يمنعه رحيله المبكر في السادسة والثلاثين عن توقيعه خمسة وخمسين فيلماً وعشرين مسرحية ونشر بضعة كتب شعرية. في حزيران يونيو 1993، خصّت مجلة "دفاتر السينما" فاسبندر بمحور رئيسيّ تضمن مقابلة مع إنغريد كافن. حول لقائها بالمخرج الراحل، ذكرت أن ذلك حدث يوم شجعها صديقها بير رابن على الذهاب الى المسرح لاكتشاف طريقة إخراج فاسبندر "أنتيغون" لسوفوكل: "عرفت مبادئ فنّ الكولاج في الرسم ولم أدر أنّ من الممكن تطبيقه في المسرح. أساساً، لم تتسنّ لي فرصة مشاهدة النسخ القديمة من "أنتيغون"، وخصوصاً تلك التي أخرجها جان كوكتو. المهم أن فاسبندر قدّم المسرحية في شكل كولاج للأعمال السابقة عنها وكان ذلك جديداً في نظري. بعد العرض، تناقشت مع بير رابن وصديقين آخرين في العمل، وقلت لهم إنّه أعجبني. لمحت فاسبندر واقفاً في إحدى الزوايا من دون أن ينبس بكلمة. شعرت أن لديه خجلاً قوياً لكنه بدا في الوقت نفسه فضولياً. وبالفعل، فما أن انقضت بضعة أيام، رنّ جرس بيتي وفتحت الباب فإذا به على العتبة". بعد سبعة أعوام على سردها هذه الحادثة، استكملت كافن ما جرى لاحقاً في سياق تحقيق نشرته يومية "لوموند" الفرنسية في الثامن من أيلول سبتمبر الماضي: "مرّ عامان وإثر نومنا معاً للمرة الأولى، صارحني: "لا بد لنا من أن نتزوج"! قال ذلك مغمضاً عينيه ولم يفتحهما قط". من المعروف أنه كان لفاسبندر ميولاً مثلية وحياة مملوءة بالصخب والمخدرات بلغت شفا الانتحار. وتنقل جوزيان سافينيو في "لوموند" عن مقربين من فاسبندر أن نوم شخص، مثله، يحب الرجال مع امرأة يعني أن لهذه المرأة صفات استثنائية تستحق التنازل عن بعض الكبرياء. يبقى الشيء المؤكد في علاقة فاسبندر - كافن انطباعها الأول عنه: "شاب يريد أن يخرج أفلاماً". الى هانا شيغولا، أدار فاسبندر إنغريد كافن في أحد عشر فيلماً وكانت في وقت ما ممثلته الأثيرة والمدللة. "ما لا أستطيع فعله" على نحو وفاة فاسبندر في سن مبكرة، دخل في حياة كافن المنتج الفرنسي جان - بيار رسام الذي مات هو الآخر شاباً، كما كانت لها علاقة بالفنان الأميركي أندي وارهول ومصمّم الأزياء إيف سان لوران. الحق أن علاقتها بالسينما تراجعت كثيراً عقب الرحيل المفاجئ لفاسبندر. ومع أنها حافظت على تألقها في عالم الغناء، إلاّ أن السينما عادت مرّة أخرى لتجمعها بالكاتب جان - جاك شول. حدث ذلك أثناء تمثيلها دوراً في الفيلم الفرنسي "عشيقاتي الصغيرات" لجان أوستاش. يوماً بعد يوم، صارت حياتها منهلاً لخلق أدبي خطّ سطوره بين دفتيّ الرواية التي حملت اسمها - وربما خلّدته لفترات وأجيال مقبلة. منذ أسابيع سألتها صحيفة "ليبراسيون" رأيها في الرواية. أجابت: "ما كان مؤلماً ومشيناً تحوّل بالقلم، وبضربة واحدة، أمراً بالغ النعومة. بات في وسعي الآن الإجابة عن أسئلة الراغبين في معرفة المزيد عن ماضيّ بالقول إنّ عليهم بقراءة الكتاب، فهو يفصح عن هذا الماضي بالقليل القليل من الأوهام وبما لا أستطيع فعله". فور إذاعة لجنة تحكيم "غونكور" إسم الفائز بجائزتها على لسان أمينها العامّ ديدييه دوكوان، بدأ فصل جديد في شهرة إنغريد كافن. فإلى اسطوانتها الجديدة، تحيي في السابع والعشرين من الشهر الجاري حفلة غنائية في ال"فولي برجير" في باريس. أما كاتب روايتها، فقد لا يكون أمامه سوى مساكنة الصمت والغياب من جديد.