Christian Delacampagne. La Philosophie Politique Aujourd'hui. الفلسفة السياسية اليوم. Seuil, Paris. 2000. 250 Pages. منذ ان احرزت الديموقراطية انتصارها التاريخي الكبير على الشمولية الشيوعية في مطلع التسعينات وهي تواجه تصاعداً في القوة لعدوين ايديولوجيين آخرين لها: النزعة القومية المتطرفة التي تجد انصارها في صفوف "اليمين الجديد" والنزعة الدينية المتطرفة التي ينشط تحت رايتها الاصوليون. ورغم قاسم العداء المشترك للديموقراطية الذي يجمع بين القومية المتطرفة والاصولية الدينية، فانهما تفترقان افتراقاً كبيراً في تكوينهما السوسيولوجي: فاليمين الجديد ظاهرة غربية خالصة على حين ان الاصولية، الاسلامية كما اليهودية والهندوسية، ظاهرة غير غربية، بل معادية للغرب سياسة وحضارة كما في حال الاصولية الاسلامية. وهذا لا يعني ان التحدي الذي تواجهه الديموقراطية في شخص الاصولية الاسلامية هو محض تحدٍ خارجي: فالاصوليون يجندون كثرة من انصارهم في اوساط الهجرة في بلدان اوروبا الغربية، ولا سيما انكلترا وفرنساوهولندا وبلجيكا والمانيا، كما في داخل الولاياتالمتحدة الاميركية نفسها. أضف الى ذلك ان اليمين الجديد في بلدان الغرب يدين بقدر كبير من تصاعد شعبيته وقوته لانتشار موجة الاصولية في صفوف الهجرة. وهذا ما يعزز الطابع "الداخلي" للتحدي الاصولي الخارجي المصدر. وفي مواجهة هذين الخصمين الايديولوجيين، المتغذي كل منهما من تصاعد قوة الآخر، تطرح الديموقراطية على نفسها، او تعيد بالأحرى طرح السؤال الاشكالي الكبير: الى اي حد تستطيع الديموقراطية ان تتسامح مع اعداء الديموقراطية؟ لقد كان اول من طرح هذا السؤال في الفلسفة السياسية الكلاسيكية المنظّر الاول لليبرلية جون لوك. فهذا الفيلسوف السياسي الذي حضر الثورة بقيادة كرومويل وشهد الصراعات الدموية بين البروتستانت والكاثوليك كان اول من أرسى مبدأ التسامح كحجر اساس للعمارة الديموقراطية في "رسالة التسامح" التي كتبها عام 1685 والتي لم تُنشر الا بعد اربع سنوات في هولندا وبدون اسم مؤلف. فمن تجربة الصراع بين انصار الكنيستين الانغليكانية والكاثوليكية، انتهى الى الاقتناع بان السلطة السياسية - مهما يكن من قوتها - عاجزة مادياً ونفسياً عن اكراه مواطنيها على اعتناق عقيدة دينية بعينها، اذ لا قيمة للعقيدة ما لم يتم اعتناقها بحرية وعن اقتناع ذاتي. ومن ثم فقد ميّز تمييزاً جذرياً بين الدولة التي تنحصر سلطتها بالشؤون المدنية ولا تمتد بصورة من الصور الى "خلاص النفوس"، وبين الكنيسة التي ينبغي ان تبقى سلطتها محصورة بالشؤون الروحية من دون ان يباح لها بصورة من الصور الامتداد الى الشؤون السياسية والمدنية. ولئن ألزم ج. لوك الكنيسة بعدم التدخل في ما يتجاوز الشؤون الروحية، فقد الزم الدولة في المقابل بالتسامح: فعليها ان تقبل بتعدد العقائد الدينية لمواطنيها من دون ان تتدخل، هي الاخرى، لتحبيذ عقيدة ضد اخرى. ولكن في الوقت الذي تولى لوك التأسيس النظري لمفهوم التسامح، فقد طرح بنفسه سؤال "حدود" التسامح: فالى اي حد يمكن التسامح مع اعداء التسامح؟ هنا ايضاً، في الاجابة عن هذا السؤال، جعل لوك المعيار الاول الفصل بين السلطتين السياسية والدينية، اي بمصطلح سيرى النور في القرن التاسع عشر: العلمانية. فالكاثوليكي، الذي ينتمي الى عقيدة دينية مغايرة لعقيدة اكثرية البريطانيين، يسري عليه مبدأ التسامح لانه باعتقاده ان الخبز والخمر، المكرسين في القداس، هما جسد المسيح ودمه حقاً، لا يؤذي بذلك غيره من المواطنين الذين لا يعتقدون هذا المعتقد. ولكن الكاثوليكي، المنتمي الى الحزب الكاثوليكي، لا يسري عليه مبدأ التسامح لأن الحزب الكاثوليكي، بما هو حزب سياسي، خطر على الدولة وعلى المجتمع، اولاً لانه لا يحترم "الهراطقة" اي لا يقر للآخرين بالحق في اعتناق عقيدة مغايرة، وثانياً لأنه يحل المواطنين من الالتزم بالطاعة لأمرائهم، بل يحل لهم خلعهم او قتلهم اذا ما صدر عن الكنيسة الكاثيوليكية قرار بحرمانهم. وثالثاً لأن هذه الكنيسة الكاثوليكية تابعة للبابا، والبابوية سلطة اجنبية، والتابع لسلطة اجنبية لا يمكن اعتباره مواطناً "موثوقاً" في دولة لا تتبنى عقيدته. ان اشكالية التسامح هذه كما صاغها لوك هي عينها التي تواجهها الدولة العلمانية الحديثة في المجتمعات الديموقراطية المتقدمة. اذ ان السؤال الجوهري الذي لا تفتأ الفلسفة السياسية للديموقراطية الحديثة تحاول الاجابة عنه هو: هل تستطيع دولة ديموقراطية وعلمانية - وهي لا تستطيع ان تكون ديموقراطية الا اذا كانت علمانية - ان تسمح بالتعبير العلني عن مذاهب وعقائد معادية لفكرة الديموقراطية والعلمانية بالذات؟ وبديهي ان هذا السؤال الذي واجهته الدولة الديموقراطية الحديثة في العديد من اطوارها التاريخية يرتدي اليوم اهمية خاصة مع صعود مدّ الحركات الاصولية التي، مهما اختلفت مرجعياتها الايديولوجية ، فانها تنشد جميعها استراتيجية واحدة هي اعادة بناء نظام ثيوقراطي، اي نظام يتحكم فيه الدين بالسياسة، على انقاض فكرتي التسامح والعلمانية. كما انه يرتدي اهمية خاصة مع صعود مدّ الحركات اليمينية المتطرفة - بما فيها النازية الجديدة - في اوروبا والولاياتالمتحدة الاميركية. فمن منظور اليمين الجديد كما من منظور الحركات الاصولية، فان الحرية ليست هي القيمة التأسيسية الاولى للدولة وللمجتمع كما ينص على ذلك دستور الديموقراطية. فسؤدد الامة والعزّة القومية يتقدم في سلم قيم اليمينيين المتطرفين على قيمة الحرية، مثلما تتقدم "حقوق الله" على "حقوق الانسان" في نظر الاصوليين. ومع ذلك، فان هذه المناقضة الايديولوجية، بل الميتافيزيقية، لقيمة الحرية من جانب اليمين الجديد والاصوليين لا تلغي السؤال الاشكالي الكبير. فما دام المبدأ المؤسس للديموقراطية هو الحرية، فكيف تبقى الديموقراطية ديموقراطية اذا انكرت على اليمينيين الجدد والاصوليين الحرية في رفض الحرية الديموقراطية؟ واذا كانت حرية التعبير هي "حرية الحريات" اي اذا كانت هي البند الاول - والاهم باطلاق - في الدستور الديموقراطي، فكيف تستطيع الديموقراطية من دون ان تكفّ عن ان تكون ديموقراطية ان تحرم اعداءها الحق في التعبير الحر عن آرائهم، حتى بما فيها الآراء المعادية للمبدأ الديموقراطي بالذات؟ الحرية اذن حتى لاعداء الحرية؟ بلى، ما دام السؤال نظرياً خالصاً، فميتافيزيقياً تتضمن الحرية حتى مبدأ نفيها. ولكن عملياً، فان حرية التعبير تبقى مقيدة بالقانون. ذلك ان الدولة الديموقراطية ليست دولة حرية فقط، بل هي ايضاً - وبالقدر نفسه - دولة قانون. والقانون ناظم لممارسة فعل الحرية بحيث يوقف حرية كل واحد عند حدود حرية الآخرين. وليس من دولة ديموقراطية الا وتملك ترسانة من التشريعات والقوانين التي تعقلن ممارسة فعل الحرية بحيث لا يتعدى احد على مبدئها بالذات، وبحيث لا يمارس احد الحرية على حساب حرية غيره. ومع ذلك، فان القوانين لا تعمل دائماً بالشكل الامثل، ولا هي تستطيع ان تتوقع سلفاً جميع الحالات المستجدة. وقضية "الحجاب الاسلامي" في فرنسا تقدم مثالاً على مدى قلق القانون في مواجهة حالات هو غير مهيأ لها لاحتوائها مقدماً. والمثال الآخر تقدمه قضية كتاب روجيه غارودي الذي اتُهم فيه بأنه يتبنى اطروحة النازيين الجدد في نفي واقعة "الشواة" او المحرقة. والواقع ان قضية غارودي لم تكن الا وجهاً مستجداً من قضية أعم أثارت انقساماً هي قضية "الانكاريين" Ne'gationnistes. فهذا اللقب يطلق في فرنسا وفي اوروبا عموماً، على نفاة "الشواة" والمشككين في واقعة ابادة اليهود في اثناء الحرب العالمية الثانية. وقد كان سبقه الى هذا النفي مثقف فرنسي آخر هو روبير فوريسون الذي تولى نعوم شومسكي بنفسه - وهنا المفارقة - التقديم لكتابه "مذكرة دفاعية ضد من يتهمونني بتزييف التاريخ". وبدهي ان فوريسون، مثله مثل غارودي من بعد، قد اتهم باللاسامية، ولكن اطروحته الانكارية ما كانت تقع في حينه تحت طائلة اي قانون. ولهذا استنّ في فرنسا قانون لاحق في عام 1990 يعرف باسم "قانون غيسو" لمعاقبة القائلين بها وتغريمهم بمبالغ طائلة، وبالتالي رادعة لغيرهم. وهذا القانون هو ما أثار اعتراض العديد من المثقفين الفرنسيين، ومن مختلف التيارات الايديولوجية لأنهم رأوا فيها تعدياً على مبدأ حرية التعبير. وقد انطلقوا في اعتراضهم هذا من اعتبارين اثنين: اولاً ان كل قانون يفرض رقابة ما على حرية الفكر والتعبير هو قانون بغيض وخطر، وثانياً، ان مسألة "الشواة" مسألة تتصل بالحقيقة التاريخية، والحقيقة التاريخية لا يقررها سوى الدارسين والمؤرخين، وليس القضاة. وذلك كان ايضاً موقف نعوم شومسكي عندما تطوّع للتقديم لكتاب فوريسون. فرغماً عن انه هو نفسه يهودي المولد وليس ممن يشككون في واقعة الشواة، رفض مصادرة الحق في حرية التعبير ولو باسم ضحايا الشواة. ذلك ان حرية التعبير، تماماً كما كان قال فولتير الذي يعلن شومسكي انتماءه اليه، تفقد معناها اذا لم تُمنح حتى لاعداء الحرية. وفضلاً عن ذلك فإن الشواة - على فظاعتها - قضية تاريخية وليست عقيدة ايمانية، ولهذا لا يجوز "تكفير" نُفاتها. وبديهي ان تدخل شومسكي لم يحسم النقاش. ولا كذلك تدخل قلة من المثقفين الفرنسيين للدفاع لا عن غارودي بشخصه، بل فقط عن حقه في حرية التعبير. ففضلاً عن الاهواء الايديولوجية التي تحيط بقضية الشواة، فان السؤال المتعلق بحرية اعداء الحرية يبقى سؤالاً اشكالياً لم تحسمه بعد الفلسفة السياسية للديموقراطية. ولا شك ان النازيين الجدد والاصوليين المتطرفين بارعون، من هذا المنظور، في استغلال تسامح الديموقراطية. ولكن هل تملك الديموقراطية من خيار آخر - تحت طائلة تناقضها مع نفسها - غير ان تلتزم بالطريقة الديموقراطية المتسامحة حتى في مواجهتها لمستغلي تسامحها؟ مع العلم بأن هناك من يعتقد - ومنهم مؤلف هذا الكتاب - ان كثرة الديموقراطية ههنا قد تكون قاتلة للديموقراطية.