الحرب الكلامية الجديدة التي بدأ نظام بغداد، باشعال فتيلها ضد الكويت والسعودية، وحتى ضد دولة الامارات، منذ الثاني من آب الماضي، آلت بمرور الأيام، الى "حرب شاملة" أخذ يطلق فيها هذا النظام النار، بغزارة، في كل الاتجاهات، حيث امتدت لتطال الجامعة العربية وأمينها العام عصمت عبدالمجيد، وتطال كذلك، مجلس الأمن والأممالمتحدة وأمينها العام كوفي انان، وذلك دون أن توفر الأردن الذي كالت له بغداد كماً هائلاً من الانتقادات المريرة، والمهينة، بلسان اكثر من مسؤول، خاصة وزير التجارة محمد مهدي صالح. وفي الفترة الأخيرة ازدادت هذه الحرب اشتعالاً بتوجيه بغداد الى الكويت، الاتهامات ذاتها التي وجهتها اليها عشية العدوان عليها واحتلالها، وهي سرقة النفط و"تسريبه من حقلين متاخمين" للحدود الكويتية - العراقية، ومن ثم تهديدها باتخاذ "الاجراءات المناسبة" كما جاء في تصريح وزير النفط عامر رشيد، الذي اعتبر ان تلك الاجراءات "ستضمن للعراق وللأمة العربية حقوقها في السيادة على الثروات النفطية وتوظيفها لمصلحة شعوبها وليس لتمرير مخططات أميركية مشبوهة"، وهو الأمر الذي يعيد الى الأذهان الشعارات والدعوات التي اطلقتها بغداد ابان احتلال الكويت، للسيطرة على الثروات النفطية في منطقة الخليج! الأمر الآخر الذي انطوى على دلالة مهمة في "الحرب الكلامية" هو تهديد بغداد، أو تلويحها بتهديد، الدول الصناعية المستهلكة للنفط، بوقف تصدير كمية النفط التي يسمح لها بتصديرها وفقاً لاتفاقية "النفط للغذاء والدواء" ومقدارها 2.4 مليون برميل يومياً، وذلك أملاً بأن يؤدي ذلك الى المزيد من الاضطراب والارتباك في أسعار سوق النفط العالمية، التي تشهد أصلاً منذ أسابيع ارتفاعاً متزايداً في الأسعار نجم عنه اندلاع اضطرابات اجتماعية وسياسية في عدد من بلدان الاتحاد الأوروبي. اطلاق نظام بغداد النار عشوائياً، هكذا، وبكل الاتجاهات، بما فيها الدول والجهات التي تعتبر متعاطفة معه، أو غير مناهضة له، يثير تساؤلات حول الأهداف الحقيقية لهذه "الحرب" وفيما إذا كان هذا النظام قد أخطأ، كالعادة، في حساباته، ام انه تعمد اختيار هدف اللعب بالوقت الضائع، بانتهاج سياسة خلط الأوراق واستفزاز الجميع، حيث الولاياتالمتحدة التي تمسك بمفاتيح تطورات الوضع في العراق والمنطقة، غير قادرة أو لا تريد، ردعه بشكل حاسم، خلال الشهرين المقبلين، لانشغالها بالحملات الانتخابية للرئاسة الأميركية. في ضوء ذلك، ثمة من يعتقد ان بغداد تسعى من وراء هذا التصعيد في "الحرب الكلامية" الى تحريك المياه الراكدة لبركة النظام التي يمثلها وضعه المحاصر بمآزق لا أمل بحلول منظورة لها. وثمة من يعتقد ايضاً انها تسعى الى من "يعقد معها صفقة على قاعدة انهاء العقوبات بشروطها"، في حين يعتقد الكويتيون انها تسعى الى خلق حالة دائمة من عدم الاستقرار وتهديد أمنهم وأمن دول المنطقة، بما يُبقي على حالة التوتر ويعطل العوامل المساعدة على النشاط الاقتصادي والاستثمار، بل ولا يستبعد حتى اقدام النظام في بغداد على القيام بعدوان جديد على الكويت، بما يتوفر لديه من وسائل وامكانات. بالطبع، ان بغداد تستطيع، ربما، ان تحقق في هذه "الحرب" بعضاً من أهدافها في محاولة ترحيل الأزمات الداخلية المستعصية الى الخارج، وفي اقلاق الكويتيين وابتزاز الأردن، واحراج الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، وربما استغلال بعض التعاطف مع معاناة الشعب العراقي، لمصلحة النظام، لكن ذلك كله ليس بمقدوره ان يفتح ولو نافذة صغيرة، تتحقق عبرها خطوة واحدة باتجاه البحث في انهاء العقوبات، أو تخفيف العزلة المفروضة عليه، أو تأهيله، أو انجاز "الصفقة" المفترضة، التي يسعى اليها. ان سلوك نظام بغداد وتصرفاته وحربه الكلامية التي تطلق نيرانها في كل الاتجاهات، انما تشير الى حالة اليأس والاحباط التي يعاني منها، والتي يجري التعبير عنها بالغضب والعصبية الشديدين اللذين يتسم بهما سلوكه وخطابه. ما يدعو لهذا الاستنتاج، هو الاعتقاد الراسخ لدى رئيس النظام في بغداد، بأن رفع العقوبات الدولية بشروطه، أو دون قيد أو شرط، هو أمر غير ممكن، أو مستحيل التحقيق، فدونه العديد من العقبات والمصدات، ليس أقلها سماح بغداد لبليكس ولجنته الدولية "أنموفيك" دخول العراق للتفتيش والمراقبة والتحقق من أسلحة الابادة الجماعية، دون معوقات أو عراقيل، ثم السماح لها بأداء مهمتها بحرية كي ترفع تقريرها "السحري" بتعليق العقوبات، والذي لن يقر الا بموافقة مجلس الأمن، سيما الدول دائمة العضوية! ولأن "أنموفيك" لن تبدأ مهمتها فقط من حيث انتهت لجنة "أونسكوم"، انما ستطالب بالكشف عما طالبت به تلك اللجنة ولم تستجب لها بغداد، وذلك اضافة للكشف عما فعلته وانجزته بغداد خلال السنتين المنصرمتين على صعيد اعادة بناء وتصنيع تلك الأسلحة بعيداً عن أعين الرقابة، ولأن "أنموفيك" لن تنجح في أداء مهمتها كما ينبغي، وذلك قياساً الى تجارب سابقة، فإن نتيجة ذلك لن تكون فقط عدم الاقتراح بتعليق العقوبات، انما أيضاً قد تؤدي لاتخاذ قرار دولي يجيز استخدام القوة العسكرية، لارغام نظام بغداد على الامتثال للقرارات الدولية. اما الحديث عن "كسر العقوبات" بتوجه عدد من الطائرات المدنية الى بغداد، أو اقامة بعض الدول العربية ودول العالم لعلاقات اقتصادية وديبلوماسية مع نظام بغداد، فإن هذا النظام يعرف أكثر من غيره، ورغم الضجيج الاعلامي الصاخب حولها، انها لا تعني شيئاً، لأنها محكومة بسقف العقوبات الدولية المفروضة، وهي لن تعني بالتالي تآكلاً للعقوبات، وهو الأمر الذي أكد عليه بوضوح وزير الخارجية الفرنسي فيدرين بقوله، في اعقاب اجتماعه أخيراً الى طارق عزيز، بأنه أخبره "بأن العراق سيرتكب خطأ فادحاً اذا كان يعوّل على التآكل التدريجي للنظام الحالي للعقوبات من دون التزامه بالقرار 1284 والتعاون مع الأممالمتحدة". في ضوء هذا الواقع تولّدت لدى نظام بغداد قناعة راسخة بلا جدوى أية مبادرات، أو محاولات، لرفع العقوبات المفروضة. ومع اقتراب استحقاق موافقته على دخول لجنة "انموفيك" الى العراق واستحقاق البحث في التعويضات، سوف لن يجد النظام أمامه، سوى الهروب الى الأمام ومواصلة اللعب بالوقت الضائع، وتقطيعه، بالمزيد من التصعيد في "الحرب الكلامية" القائمة، وربما يفاجئ الجميع باستخدام "أسلحة" جديدة في خوضها، والذهاب بها الى مداها الأقصى مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، وربما لما بعد هذا التاريخ. ثمة "سلاح" آخر ينبغي عدم استبعاد لجوء بغداد الى استخدامه في "الحرب" التي تشنها في كل الاتجاهات، وهو سلاح وقف تصدير كمية النفط المسموح بها لبرنامج "النفط للغذاء" متطلعة لأن يؤدي ذلك الى احداث ارتفاع حاد في أسعار النفط في السوق العالمية، بما يؤدي الى توسيع نطاق الاضطرابات في أوروبا، واحراج الحكومات الأوروبية والولاياتالمتحدة، لاظهار "قدرته" على إيذائهم، رغم ما سيؤدي اليه ذلك من تفاقم وتردي الحالة المعاشية والصحية للشعب العراقي ومعاناته. غير أن الدول الأوروبية والولايات المحتدة التي تستطيع ان تناشد دول "اوبك" وان تستخدم ما لديها من احتياطي استراتيجي، لتجاوز مثل هذه الأزمة المفترضة، ستدفع هذه الدول، المتباينة المواقف تجاه بغداد، الى توحيد تلك المواقف، واتفاقها على ضرورة المساعدة في ازاحة النظام الحاكم في بغداد، بالقوة العسكرية ربما... عندها يتحول اللعب بالوقت الضائع الذي أرادت بغداد أن تلعبه، وتتلاعب بأعصاب العالم، الى مواجهة ساخنة، قد تكون مواجهة عسكرية، لا تؤدي فقط الى إلحاق كارثة جديدة بالعراق وشعبه، انما ايضاً إلحاق الكارثة بالنظام ذاته، الذي تمادى كثيراً في تجاوزه "الخطوط الحمر" سواء تجاه العراقيين أو تجاه دول المنطقة وشعوبها، فضلاً عن المجتمع الدولي وهيئاته! * كاتب عراقي.