حظي الإعلان عن وفاة رئيس الوزراء الكندي السابق، بيار إليوت ترودو، من ناحية باهتمام الصحافة ووسائل الاعلام العالمية والتي تحدثت عن حياته ودوره وغطت مراسيم دفنه وبحضور شخصيات مشهورة من الرئيس الكوبي كاسترو وآغا خان وحتى جيمي كارتر وريمون بار ومن ناحية اخرى في داخل كندا وكما قيل في جريدة "الفايننشال تايمز" "عمق ردود الفعل على وفاته يبدو وكأنه فاجأ الكنديين". وأثار نقاشاً بين مؤيديه ومحبذي سياسته وبين معارضيه ومنتقديه. أعاد ترودو اسم كندا الى دائرة الضوء والى جانب الاخبار الكثيرة والساخنة في العالم وهي البلد الهادئ الذي قلما نسمع عنه. وقبل وصوله للسلطة في عام 1968 كانت كندا اكثر بعداً عن العالم وقضاياه ولولا مشاركتها في قوات الاممالمتحدة لحفظ السلام، هنا وهناك، في الخمسينات من القرن الماضي لبقيت بلداً منعزلاً لا يعرف إلا كموطن للهجرة ومنتج للقمح وطقسه بارد جداً. مع ترودو بدأت كندا تطل على العالم وتؤكد شخصيتها الخاصة وبعيداً عن واشنطنولندن. ففي عهده اعترفت العاصمة الكندية، اوتاوا والتي لا يعرفها كثيرون ولحد الآن، بالصين الشعبية وكانت بهذا ثاني دولة غربية بعد فرنسا وذلك في عام 1970، وشكل هذا بداية تمايز السياسة الخارجية الكندية عن مثيلتها الاميركية وبداية عهد من توتر العلاقات بين الطرفين. وضمن الاتجاه ذاته عمل ترودو على توسيع العلاقات مع اوروبا واليابان مؤكداً استقلاليته وابتعاده عن السياسة التقليدية الكندية والمتوافقة، غالباً، مع واشنطن. كما راجع دور ومساهمة كندا في الحلف الاطلسي وانتقد الحرب في فيتام. كذلك أبدى ترودو اهتماماً بالعالم الثالث ودعا في عام 1975 الى اجراء تغييرات في المؤسسات الاقتصادية العالمية لتخدم مصالح الدول الفقيرة. وحين كانت الحرب الباردة على اشدها طالب بالحد من سباق التسلح والتفاوض بين الدول الكبرى وبدأ بعدها مهمّته لأجل السلام في العالم 1983، فزار واشنطن وبكين وموسكو والتي لم تسفر عن اي نتيجة واظهرت حجم كندا الفعلي على المستوى الدولي. وعلى صعيد الشرق الاوسط دان الغزو الاسرائيلي للبنان بشدة وتكلم عن حقوق الشعب الفلسطيني. داخلياً اتبع ترودو سياسة تكمل سياسته الخارجية فكرس كندا كمجتمع فسيفسائي متعدد الثقافات وكبلد واحد ثنائي اللغة، الفرنسية والانكليزية، وحافظ على وحدته. ويمكن القول انه ساهم والى حد كبير في فشل الاستفتاء على استقلال مقاطعة كيبيك الفرنسية في عام 1980 ببرنامجه لتجديد الفدرالية ومن خلال سعيه لإيجاد شخصية وطنية كندية تضم الجميع وإعادته للدستور الكندي من لندن بحيث اصبح يمكن تعديله ومن قبل البرلمان الكندي ومما جعل العلاقة مع بريطانيا رمزية جداً باعتبار الملكة رأساً للدولة. واتخذ قرارات لتشجيع الثقافة الوطنية الكندية في حقل الاعلام والسينما والراديو والتلفزيون وبهدف التقليل من الهيمنة الاميركية في هذا المجال. كما عمل على دعم الصناعة الكندية ورسم سياسة وطنية للطاقة. وكما قالت جريدة "تورنتو ستار" بمناسبة بلوغه الثمانين من العمر "كأمة لقد غيرنا الى الافضل". وفي استفتاء حول اهم الشخصيات الكندية في القرن العشرين جاء ترتيبه في رأس القائمة. تعزيزه لقوة الحكومة الفيدرالية واتباعه سياسة تدخلية اقتصادية اكسبه عداء الكثيرين سواء بين رجال الاعمال او في المقاطعات وخصوصاً في غربي البلاد الغني بالبترول حيث فرض سعراً للنفط اقل من السعر العالمي أثناء ازمة البترول عام 1973، مؤكداً اولية مصلحة كندا ككل علي المصلحة الخاصة لبعض المقاطعات او في كيبيك بوقوفه ضد الحركة الانفصالية. ولم يتردد في انزال الجيش الى الشوارع لمحاربة جبهة تحرير كيبيك وما قامت به من اعمال عنف وخطف الامر الذي لم تشهده البلاد من قبل. لم ينس الانفصاليون الكبيكيون موقف ترودو ورئيس وزراء المقاطعة الحالي تأخر في تنكيس العلم لفترة 16 ساعة وكما تقتضي مراسم الحداد. وما زالت المقاطعة الناطقة بالفرنسية اهم مشكلة للعاصمة اوتاوا ولحد اليوم، لكن مظاهر الحزن التي عمت انحاء كندا من الشرق الى الغرب حزناً على رمز الوحدة الوطنية الكندية جعلت احد الصحافيين الكنديين يقول: "وفاته وحدت البلاد ولو لعدة ايام". بقي ترودو 16 عاماً على رأس السلطة وفي مقاييس العالم الغربي يعتبر ذلك مدة طويلة ولم يخرج منها نتيجة هزيمة انتخابية إنما بقراره الخاص حين اعلن في العام 1984 الاستقالة فعبّر اعداؤه عن فرحهم ورحب رجال الاعمال بالامر وشربت الانخاب في غربي كندا وكان الشارع الكندي يرغب بالتغيير وخصوصاً في ظل الازمة الاقتصادية في حينه ارتفاع نسبة التضخم، مليون ونصف عاطل من العمل. وينتقد الليبراليون ترودو على سياسته الاقتصادية ويشيرون الى انه تسلم السلطة وموازنة الدولة متوازنة وتركها بعد 16 عاماً بعجز مقداره 38 بليون دولار كندي بسبب إنفاقه على البرامج الاجتماعية. وقصة زواجه من مارغريت سنكلير الشابة وعمرها 21 عاماً وهو في الخمسينات ومن ثم هجره وطلاقهما وفضائح علاقاتها الغرامية سببت له آلاماً كثيرة لكنها قربته من قلوب الشعب بظهوره حريصاً على اطفاله وعائلته. كما انها اضافت الى رصيد شهرته العالمية بعداً آخر يتكامل مع ما عرف عنه حبه لسيارات السبور والوردة الحمراء التي لا تفارق صدره وعلاقاته مع نجوم من امثال الممثلة المعروفة باربرا ستريساند وعازفة الغيتار ليونا بويد. لقد شكل ترودو مرحلة في التاريخ الكندي سيطر خلالها على الحياة السياسية وعرف بقوة شخصيته وثقافته العالية درس في جامعة مونتريال وهارفرد وكلية لندن للاقتصاد. وكما قال صحافي كندي "لم يقم ترودو طوال فترة حكمه بأية مساومة لا مع وزرائه ولا مع حزبه او وطنه، بل كان على الجميع ان يتعاملوا معه وعلى طريقته او بدونه". ظهر فجأة في سماء الحياة السياسية الكندية وبعد ثلاث سنوات على دخوله الحزب الليبرالي اصبح زعيماً للحزب وبعد فترة وجيزة رئيساً للوزراء سحر الكنديين بشخصيته القوية وجاذبيته وسياسته. وكما قال رئيس الوزراء جون كريتيان في بيان نعيه "لقد غادرنا مجسد حلم مجتمع عادل... ذهب ولكن اعماله غير المنتهية ما زالت على جدول الاعمال". ويتهم كريتيان بأنه سيسعى لاستغلال العواطف التي أثارها رحيل ترودو للدعوة لانتخابات في الربيع المقبل مما يكسب حزبه اصواتاً انتخابية كثيرة. ويضيف هؤلاء ان الاستعداد للانتخابات تجعله اقرب الى سياسات كرودو فبعد أن حارب العجز في الموازنة الفدرالية هناك اشارات تدل على عزمه على دعمه للانفاق اكثر على برامج دعم الفقراء فالوقت مناسب ليلف نفسه بعلم ترودو وعلى حد قول احد الصحافيين في جريدة غلوب اند ميل. وفاة ترودو اوضحت ان سياساته وبرامجه ما زالت حية في داخل كندا كما اعادتها الى الساحة العالمية، مما يجدد مصداقية قول المستشار الالماني السابق فيلي براندت "إنه احدى الشخصيات المميزة التي احضرت كندا الى قلب العالم"، وذلك تعقيباً على استقالته من رئاسة حزب الاحرار وبالتالي من رئاسة الحكومة. * كاتب فلسطيني