خسرت اسرائيل في لبنان لأن جنودها تعرضوا للقتل. وخسرت اسرائيل في الأرض المحتلة لأن جنودها قتلوا فلسطينيين مدنيين. هل هذه الملاحظة صحيحة؟ الى حد ما. أو، بالأحرى، الى حد بعيد. لقد أدى سقوط مدنيين لبنانيين في العمليات العسكرية الاسرائيلية الى "خسائر" سياسية للدولة العبرية. ومثال قانا هو الأكثر شهرة. فلقد "ساعدت" المجزرة على تسريع البحث في وضع حد لعدوان نيسان ابريل 1996 وصولاً الى الاتفاق الشهير الذي قاد، بعد 4 سنوات، الى اندحار الاحتلال. ولكن ذلك لا يجوز ان يحجب الحقيقة الأخرى ومؤداها ان قرار الانسحاب شديد الارتباط بفاعلية المقاومة المسلحة ونجاحها في جعل الاحتلال يدفع ثمناً متواضعاً لاستمراره. وما يصح على التحرير الكامل يصح على الانسحابات السابقة. ففي كل مرة ارتبط الانكفاء الاسرائيلي بالنعوش العائدة من لبنان. وتوّج الأمر، قبل أشهر، تحت ضغط عمل عسكري عزز انحياز الرأي العام الاسرائيلي الى مطلب الخروج ولو من دون اتفاق. لا يصح هذا السياق على الحال الفلسطينية - الاسرائيلية. لقد اكتشف الاسرائيليون "الشعب الفلسطيني" وقت الانتفاضة أكثر مما اكتشفوه زمن العمليات العابرة للحدود. وكان واضحاً، وقتذاك، ان ارتفاع عدد القتلى بين المدنيين الفلسطينيين هو الذي عزل اسرائيل وأسس لبداية مراجعة وصلت الى ذروتها في "اتفاق أوسلو". ويتكرر الأمر اليوم بصورة أقل حدة. ويمكن القول، ولو ببالغ الأسف، ان اقدام جيش الاحتلال على قتل هذا العدد من الفلسطينيين قاد الى محو الانجازات السياسية التي بدا ان ايهود باراك حققها في "كامب ديفيد" وما بعده. ويتذكر الجميع ان انتفاضة النفق هي التي أرغمت بنيامين نتنياهو على اتفاق يبدو سخيفاً في الشكل، ولكنه، في الواقع، يشكل ثورة فكرية في معسكر اليمين القومي وهي ثورة انتجت الضياع الذي تسبب، بين أمور اخرى، في هزيمة نتنياهو امام باراك. إن في الاشارة الى دور الشهداء الفلسطينيين في خسائر اسرائيل السياسية تشديداً على فعل المقاومة وانما بأسلوب آخر لا علاقة له، كثيراً، بذلك الذي نجح اللبنانيون بواسطة اعتماده. ويكفي للتدليل على ذلك التذكير بأن عمليات عسكرية فلسطينية أوقعت خسائر اسرائيلية مدنية جسيمة كانت تؤدي، عملياً، الى إضعاف الموقف التفاوضي لا بل الى اضعاف الموقع الوطني الاجمالي في مواجهة اسرائيل. اذا كانت هذه المقارنة وجيهة فهي تخدم في تصويب النقاش الخافت الذي اندلع بعد الاندحار الاسرائيلي في جنوبلبنان. فلقد ارتفعت أصوات تدعو الى النقل الميكانيكي لما جرى في منطقة الى منطقة اخرى غير عابئة بتباين الشروط وأواليات الصراع ومواقع اطرافه المختلفة. وإذا كان مطلوباً تعميم روح المقاومة على الجميع، فلسطينيين ولبنانيين وعرباً، فإنه من غير الجائز "استنساخ" التجارب. ان الاسرائيلي القتيل في لبنان يقود الى خسارة سياسية لاسرائيل. ولكن الفلسطيني القتيل في الأرض المحتلة هو الذي يقود الى خسارة سياسية للبلد نفسه. ليس في هذا الكلام أي تمجيد للشهادة. ان جل ما فيه هو رفض لدعوة القتل المجاني منظوراً اليها من زاوية انجاز مطالب وطنية واضحة. غير ان هذا التباين يستدعي تفسيراً. ليست اسرائيل مدججة بالسلاح فحسب. إنها "مدججة" بالحماية الأخلاقية التي توفرها لها وراثة الرصيد المعنوي للمحرقة النازية، وهي وراثة تمت فبركتها عبر عقود من الزمن. ولأن هذا هو الواقع فإن علاقة الضحية - الجلاد تبدو مشوشة جداً عندما تترجم المقاومة الفلسطينية نفسها بالسلاح. ولكن هذا التشوش يتراجع كثيراً عندما تقف الأمور على رجليها ويعاد تصوير الاسرائيلي وأحياناً بالمعنى الحرفي لكلمة "تصوير" بصفته معتدياً. يتم عزل اسرائيل فوراً ويأخذ عليها الغرب انها قطعة منه ولكنها متخلفة عن عملية "تصفية الاستعمار المباشر" التي أقدم عليها. وبمجرد حصول ذلك، وخاصة اذا كان "اليسار" في السلطة، وهو ذو حساسية وخصوصاً حيال الخارج، تستشعر الحكومة الاسرائيلية الخسارة، وتشعر ان مكانتها المعنوية تهتز، وتروح تبحث عن وسيلة للتماهي مع هذا الخارج. ويختلف الأمر عند الحديث عن الوجود العسكري الاسرائيلي وممارساته خارج الحدود. وينطبق الأمر على لبنان طبعاً وبنسبة اقل على غزة مثلاً وبنسبة اقل على الضفة ثم القدس. فمفاعيل بوليصة التأمين الأخلاقية ليست شاملة خصوصاً عندما ينتقل اسرائيليون الى موقع التشكيك فيها ورفض استخدامها. هل يعني ما تقدم ان على المدنيين الفلسطينيين ان يموتوا من اجل ان يحصل من بقي حياً على حقوقه؟ كلا بالتأكيد. ولكنه يعني ان على الفلسطينيين ان يحسنوا وضع سلوكهم في سياق مقاومة الضعيف للقوي بما يؤكد المخاوف السياسية لذلك المسؤول الاسرائيلي الذي قال ذات مرة: لن نغفر للفلسطينيين تحويلنا قتلة! فهو لم يقل ذلك حرصاً على بسيكولوجيا "القاتل الباكي" فحسب وانما، خصوصاً، ظناً منه بالتراجعات التي يتوجب عليه الاقدام عليها جراء ذلك. وما يصح على الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي معزولاً لا يصح كله على الصراع العربي - الاسرائيلي. ففي الحال الثانية يبقى على العرب خدمة الحقيقة بوضع أنفسهم موضع المعتدى عليه. ولكن من واجبهم، ايضاً، الاعداد من اجل اشعار اسرائيل بأنهم يملكون بدائل من التسوية وبأن هذه البدائل مكلفة جداً بالنسبة اليها بما في ذلك على صعيد الأرواح البشرية. وسيبقى الفلسطيني المدني القتيل خسارة سياسية اسرائيلية الى ان يعيد الوضع العربي قلب الصورة ليصبح تهديد اسرائيل بقتلى في صفوفها مدخلاً الى ارغامها على التراجع.