محافظ الخرج يشارك أبناء "إنسان" مأدبة الإفطار    استعراض استراتيجية الاستثمار في القصيم أمام فيصل بن مشعل    إطلاق «الواحة» أول مشغل بملكية سعودية بالأسواق الحرة    مشروع قانون بالكنيست لإلغاء اتفاقيات «أوسلو»    سورية تعلن استعادة الأمن في محافظات الساحل    المملكة واحة استقرار    «مشروع الأمير محمد بن سلمان» يجدد مسجدي «الحزيمي» و«الفتح»    سلمان بن سلطان يدشن مشروعات بحثية لتوثيق تاريخ المدينة المنورة    الداخلية تصدر دليلًا إرشاديًا لأمن المعتمرين والمصلين في رمضان    هوية إسلامية وتاريخ متجذر    استمرار مبادرة "لك مثل اجره " التي اطلقها فريق قوة عطاء    الإنتاج الصناعي يسجل نموًا بنسبة 1.3% في يناير 2025    أمير تبوك يرعى حفل يوم البر السنوي ويكرم الجمعيات الفائزة بجائزة تبوك للعطاء    نائب أمير المنطقة الشرقية: العلم السعودي رمز للوحدة والاعتزاز بالهوية الوطنية    النصر يستعيد رونالدو ولاجامي    من قلب التاريخ: فعاليات "قلعة تاروت" تعيد إحياء التراث الرمضاني    «سلمان للإغاثة» يدشن مشروع سلة "إطعام" الرمضاني ومشروع "كنف" في لبنان    اتفاقية تعاون بين شركة حرف السعودية وشركة شكرا لخدمات الأعمال لدعم الحرفيين    الجمارك تحبط تهريب أكثر من 1.3 مليون حبة "كبتاجون" مُخبأة في إرسالية أجهزة تكييف    المسلم في عين العاصفة    السياحة تعلن عن تجاوز عدد الغرف المرخصة في مكة 268 ألفًا بنسبة نمو 64%    حساب المواطن: 3 مليارات ريال مخصص دعم شهر مارس    اتفاقية تعاون بين تجمع الرياض الصحي الثالث ومستشفى الملك فيصل التخصصي    في ختام الجولة 25 من " يلو".. النجمة والعدالة في صراع شرس على الوصافة    اليمن.. إتلاف ألغام حوثية في مأرب    أنهى ارتباطه بها.. فقتلته واختفت    42 شهيدًا ومصابا في غزة خلال 24 ساعة    خلال حفلها السنوي بالمدينة.. «آل رفيق الثقافية» تكرم عدداً من الشخصيات    300 مليون دولار.. طلاق محتمل بين جورج كلوني وزوجته اللبنانية    في ترتيب الأكاديمية الوطنية للمخترعين الأمريكية.. الجامعات السعودية تتصدر قائمة أفضل 100 جامعة في العالم    تجاوز ال"45″ عاماً.. الإفطار الجماعي يجدد ذكريات «حارة البخارية»    مخيم عائلة شبيرق بأملج لإفطار الصائمين    مواقف ذوي الإعاقة    اغتراب الأساتذة في فضاء المعرفة    الغذامي والبازعي والمسلم.. ثلاثتهم أثروا المشهد بالسلبية والشخصنة    مدير الأمن العام يرأس اجتماع اللجنة الأمنية بالحج    خيام الندم    ولي العهد يتلقى رسالة من رئيس إريتريا    الشيخوخة إرث الماضي وحكمة الحاضر لبناء المستقبل    الكشافة في المسجد النبوي أيادٍ بيضاء في خدمة الزوار    سعود يعود بعد غياب لتشكيلة روما    الأمير سعود بن نهار يستقبل قائد منطقة الطائف العسكرية    فيجا يربك حسابات الأهلي    السالم يبتعد بصدارة المحليين    تمبكتي يعود أمام باختاكور    الاتحاد يجهز ميتاي للرياض    فتيات الكشافة السعودية روح وثّابة في خدمة المعتمرين في رمضان    قطاع ومستشفى تنومة يُفعّل "التوعية بالعنف الأُسري"    أبها للولادة والأطفال يُفعّل حملة "التطعيم ضد شلل الأطفال" و "البسمة دواء"    مستشفى خميس مشيط العام يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للزواج الصحي"    فرض الضغوط وتعزيز الدعم إستراتيجية بورتمان لسلام أوكرانيا    "تكفى لا تعطيني" تحاصر عصابات التسول    شبكة مالية حوثية للهروب من العقوبات    نعتز بالمرأة القائدة المرأة التي تصنع الفرق    ‏ "أمّ القُرى" تحصد شهادة الآيزو الدَّوليَّة في مجال أمن المعلومات ومجال الأمن السيبراني    أمير منطقة جازان يتسلم التقرير السنوي لجمعية الأمير محمد بن ناصر للإسكان التنموي    العلم شامخ والدعوة مفتوحة    الجامعة العربية تدين تصاعد العنف في الساحل السوري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«ديبلوماسية القمة»... عن مسار عربي لم يستطع انهاء التخبط والتراجع
نشر في الحياة يوم 22 - 03 - 2010

 لم يتمكن أحد في العالم ولن يتمكن من التقليل من الأهمية «التقليدية» للعالم العربي والتي يستمدها من التاريخ والجغرافيا، أو «الموقع الاستراتيجي والجاذبية الجيو اقتصادية»، لكن العرب أنفسهم يعيشون في إحباط مزمن حيال نظامهم الإقليمي، ويعزون ذلك إلى السلطات الحاكمة بعد رحيل الاستعمار، ويبرهنون على صدق مشاعرهم المحبطة بالحصاد الهزيل للقمم العربية المتتابعة لا سيما في العقود الثلاثة الأخيرة.
وعلى رغم صعوبة الحديث عن دور عربي مؤثر على صعيد العلاقات الدولية في ظل سعي القوى الكبرى الدائب والدائم لتهميش العرب والحاقهم واحتوائهم، فإن العالم العربي ظل، على مدار تاريخه المديد، مسرحاً لتشكيل التوازنات القائمة بين مختلف المراكز السياسية الدولية، المتنافسة والمتصارعة، سواء خلال فترة القطبية الثنائية أو تحت عباءة نظام متعدد الأقطاب. وحتى حين انفردت الولايات المتحدة بتسيّد العالم عسكرياً واقتصادياً، فإن «النظام الإقليمي العربي» لم يتخلَّ عن وظيفته تلك. فالمنطقة العربية بدت ذات أهمية بالغة للأطراف المتحالفة في الحرب العالمية الثانية، والتي كانت في سباق محموم بغية تحديد أدوارها في النظام الدولي الذي كان في طور التكوين آنذاك. والحرب التي دارت رحاها على أرض مصر عام 1956، حيث العدوان البريطاني - الفرنسي - الإسرائيلي، كانت (الحرب) نقطة تحول في النظام الدولي من خلال إتيانها على الأحلام الإمبراطورية التي كانت لا تزال تراود بريطانيا وفرنسا في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، إذ برزت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قطبين رئيسين معترفاً بهما من المجتمع الدولي برمته بعد أن أجبرا الأطراف الثلاثة على وقف العدوان. وكان هذا التدخل بمثابة تحذير سافر لبريطانيا وفرنسا من أن وضعهما على الساحة الدولية تغير تماماً. ثم تأكدت هذه الخصوصية في أحداث ووقائع عدة، حتى جاءت حرب 1973 لتغذي عملية التحول من الحرب الباردة إلى الوفاق بين القطبين الكبيرين. ومع اندلاع حرب الخليج الثانية في 15 كانون الثاني (يناير) 1991، والتي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، تم الإعلان النهائي عن ميلاد نظام دولي جديد، يقوم على انفراد قطب واحد بقوة تمكنه من أن يسيّر دفة أمور كثيرة في العالم المعاصر. وإثر وقوع حادث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) وجدت الدول العربية نفسها في قلب التداعيات التي ترتبت عليه، بدءاً باتهام «تنظيم القاعدة» الذي يشكل «الأفغان العرب» الجزء الأكبر من أعضائه وقدراته المالية والتخطيطية، وانتهاء بوضع تنظيمات ودول عربية في فوهة المدفع الأميركي في إطار الحملة التي تقودها واشنطن على «الإرهاب الدولي»، مروراً بحزمة من السياسات والتدابير الأمنية التي أخذت شكل «مطالب» تقدمت الإدارة الأميركية بها إلى دول عربية عدة من أجل تنفيذها، ووصلت إلى حد الضغوط والتهديدات، في كثير من الحالات، وانتهى الأمر باحتلال العراق عام 2003، لتعود الأرض العربية لتؤدي وظيفتها التقليدية، لكنها هذه المرة ك «فاعل» وليس مجرد «قابل»، حيث هُزمت الولايات المتحدة على أرض الرافدين، وساهم احتلالها العراق في توعكها اقتصادياً، فبات مفكروها الاستراتيجيون يتحدثون بإسهاب عن «حدود القوة» وقرر رئيسها الجديد باراك أوباما «الانسحاب المسؤول» من العراق.
لا بد هنا من نظرة على ديبلوماسية القمة وعناصر نجاحها، لمناسبة انعقاد قمة سرت (في ليبيا):
ديبلوماسية القمة أو «الديبلوماسية المباشرة»، مصطلح يبدو من ابتكارات القرن العشرين بعد أن صكه ونستون تشرشل في خطاب شهير له عام 1950 فإن ممارسة هذا العمل السياسي الشخصي والمتعالي وذي المستوى الرفيع تعود إلى زمن أبعد بكثير، إذ يحفل تاريخ الإنسانية بوقائع لا تحصى عن استخدام هذا الأسلوب، لا سيما أيام الحكم المطلق للملوك والسلاطين، حين كانت شخصية الدولة تتماهى في شخصية الحاكم تماماً إلى درجة دعت لويس الرابع عشر إلى أن يقول ذات يوم: «أنا الدولة».
وتوارت «ديبلوماسية القمة» في ركن نسيان موقت مع ظهور أنظمة الحكم الديموقراطية في أوروبا، حتى أعادها الرئيس الأميركي ويلسون إلى الحياة عام 1919 أثناء مؤتمر السلام الذي أعقب الحرب العالمية الأولى واستضافته باريس. وكان لجوء ويلسون إلى هذا الأسلوب مرده الارتياب في الديبلوماسية السرية التي يمارسها رجال يحترفون إدارة السياسة الدولية من خلف الستار أو حتى أمامه، وكذلك طبيعة ويلسون النفسية ذاتها حيث كان لديه ميل جارف إلى العمل المنفرد وفرض إرادته على الآخرين، ورفض أي سلطة فوق سلطته. ومنذ ذلك التاريخ باتت اجتماعات القمة، على مستوى قادة الدول، أمراً معتاداً في الساحة الديبلوماسية الدولية. فلمّا جاءت الحرب الباردة صار هناك اقتناع راسخ لدى العالم أجمع في أن اجتماعات القمة ضرورة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين.
وتراكم ممارسة ديبلوماسية القمة والتفكير حولها يهدينا حزمة من المعطيات التي تفيد كثيراً في تحليل هذه الظاهرة، على المستوى العربي، والتي لا تخرج في الغالب الأعم عما يلي:
أ - تكمن القيمة الأساسية لديبلوماسية القمة فيما تنطوي عليه من أبعاد وإيحاءات نفسية ومعان رمزية، أكثر من انطوائها على نتائج سياسية حاسمة وناجزة.
ب - يدور هذا النوع من الديبلوماسية حول أشخاص قلائل، هم قادة الدول، ومن ثم يظل دوماً أسير خبرات هؤلاء ومعارفهم، وسماتهم النفسية، وقدراتهم الفردية، وكذلك أسير الظروف المؤدية إلى تعاظم دور قائد الدولة في صنع السياسة الخارجية، ومنها حجم اهتمامه بالسياسة الخارجية، وأسلوب وصوله إلى سدة الحكم، ومدى تمتعه بخصائص كارزمية من عدمه، ومقدار عمق تجربته السياسية، إلى جانب الدوافع الذاتية والصفات الشخصية، التي تختلف من قائد يمتلك عقلاً منفتحاً وآخر موصوماً بعقل منغلق، وبين قائد يسعى في شكل محموم إلى تحقيق ذاته، وآخر يفتقد إلى الطموح.
ج - يتوقف نجاح ديبلوماسية القمة من عدمه على ما بُذل من جهد ديبلوماسي على مستوى أدنى في سبيل إنضاج لحظة سياسية وتاريخية أمام اتفاق نهائي يضع القادة البصمات الأخيرة عليه. أما حين يلتقي القادة لمناقشة التفاصيل، أو البدء من نقطة الصفر، فإن فرص نجاحهم تكون غاية في الضعف والتهالك، بل قد يؤدي مثل هذا اللقاء إلى انهيار الموقف برمته، وانحداره إلى درجة أسوأ مما كان عليه.
خبرة القمم العربية
عرف العرب المعاصرون ديبلوماسية القمة، في طورها الأخير، منذ نحو ثلاثة وستين سنة، حين التأم قادة الدول العربية في آيار (مايو) 1946 في مدينة أنشاص المصرية لمناصرة القضية الفلسطينية، أعقبوها بعد عقد كامل من الزمن بقمة بيروت لدعم مصر في مواجهة «العدوان الثلاثي» 1956. لكن القمم العربية لم تتم في سياق «مؤسسة سياسية»، أي تعقد تحت مظلة جامعة الدول العربية بصفة رسمية، سوى عام 1964 الذي شهد قمتين متتاليتين سَعَتا إلى تعزيز التضامن العربي، وتزكية التوجه القومي، والتصدي للتحديات الدولية التي تجابه العرب، والترحيب بمنظمة التحرير الفلسطينية. كما لم تصبح القمة دورية سوى عام 2000 الذي استضافت فيه القاهرة قمة طارئة لبحث سبل دعم انتفاضة الأقصى.
وعلى مدار ما يربو على ستة عقود التقى القادة العرب في واحد وثلاثين قمة، عشرون منها كانت اعتيادية والإحدى عشرة الباقية كانت طارئة أو غير اعتيادية. ومن يمعن النظر في هذه القمم، متقاربة أو متباعدة، دورية أو استثنائية، يجدها تتصف بسمات عدة، يمكن ذكرها على النحو التالي:
1 - مثل الصراع العربي الصهيوني القاسم المشترك بين أعمال القمم كافة، سواء في شكل تام حين انعقدت قمم معينة لبحث مباشر لمشكلات ترتبت على عدوان إسرائيلي، أو في شكل جزئي حيث كان هذا الصراع يمثل إحدى القضايا الأساسية التي تنظرها تلك القمم، سواء مباشرة أو بصيغة غير مباشرة.
2 - جاء معظم هذه القمم، إن لم يكن جميعها، في إطار «رد الفعل» على مبادرات أو أزمات أثارتها قوى إقليمية أو دولية، وخلت من سياسة «الفعل» التي تعتمد على الهجوم الديبلوماسي واتخاذ الإجراءات الاحترازية لمواجهة تهديد في طور التكوين، إما لقتله في مهده، أو على الأقل لصده حين يُترجم في عمل مضاد للمصالح العربية.
3 - لم يتوافر عزم كافٍ يقود إلى معالجة جذرية وشاملة للأزمات التي تواجه هذه القمم، بقدر ما كانت النية، المسكوت عنها غالباً، ترمي إلى تخفيف حدة الضغوط المتوالدة عن تلك الأزمات والتي تضغط على أعصاب النظام الإقليمي العربي. فالعرب تمكنوا باقتدار من أن يتبعوا المنطق الذي يقول: «سكن تسلم» فيقومون داخل القاعات الفخمة التي تقام بين أروقتها مؤتمرات القمة بتمرير الأمور على نحو سريع، وفي كلمات عاجلة متتابعة، يقدم أغلبها في ثوب بياني بلاغي لافت، وعلى أساس القواسم المشتركة، والأمور الثابتة المتفق عليها، اللهم إلا إن حدث بعض المناوشات الذي بات الصحافيون المتابعون للقمة ينتظرونه ليصنعوا المانشيتات المغلفة ببعض ما هو غريب وملفت وطريف أحياناً، بعيداً من الرتابة المعتادة.
4 - لم يلبِّ معظم هذه القمم طموحات الجماهير العربية، ولم يحقق آمالها، ولم يتجنب مخاوفها من تحول لقاءات القادة العرب إلى منتدى لممارسة الجدل السفسطائي، واستعراض المهارات اللفظية الإنشائية، وعجز عن تطوير الواقع المُعاش بما يكافئ طبيعة اللحظات التاريخية الصعبة التي تنعقد القمم في أتونها.
5 - مع توالي الزمن تحولت القمم العربية إلى لقاءات رمزية، لا تتخطى حدود «محاولة سد الذرائع»، وتلبي بعض احتياج الطرف العربي المتأزم، الذي يطلب عقد القمة تصريحاً أو يدفع في هذا الاتجاه تلميحاً، إلى المساندة المعنوية والتعاطف، إلى جانب المشاركة في الغرم عن بعد، مثل تقديم الدعم المادي لما خربه العدوان الإسرائيلي في لبنان وفلسطين.
6 - يتجه الخط البياني لفاعلية القمم العربي إلى انحدار واضح مع مرور الزمن، باستثناء قمم محددة اتجه فيها هذا الخط إلى أعلى، مثل التي انعقدت في الخرطوم عقب هزيمة حزيران (يونيو) 1967 والتي أطلقت لاءات ثلاث شهيرة في وجه الكيان الصهيوني: (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف) وتلك التي انعقدت في الجزائر عقب انتصار تشرين الأول (أكتوبر) 1973 وأكدت استحالة فرض حل على العرب، وقمة الرباط 1974 التي وضعت أسس العمل العربي المشترك، وفرضت الالتزام باستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، واعتماد منظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً له، وقمة الدار البيضاء غير العادية 1989 التي أعادت مصر إلى عضوية جامعة الدول العربية، وبحثت قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وتشكيل لجنة لمساعدة لبنان على الخروج من نفق الحرب الأهلية المظلم.
أسباب الفشل
حين يواجه أي طرف رشيد مشكلة ما فإنه يقوم أولاً بتوضيح أهدافه أو قيمه أو مراميه، ثم يرتبها في ذهنه، وبعدها يضع قائمة بكل الطرق المهمة الممكنة، أو السياسات التي بوسعه أن يصنعها، لتحقيق هذه الأهداف، ويبحث النتائج المهمة التي سوف تترتب على كل واحدة من السياسات البديلة، ليقارن تلك النتائج المترتبة على كل سياسة بديلة مع الغايات التي يصبو إليها، ومن هنا يكون بوسعه أن يختار السياسة ذات النتائج الأقرب إلى أهدافه.
ومن دون اتباع استراتيجية «الرشد الكامل» تلك أو قدر كافٍ منها، يفشل هذا الطرف في صناعة قرار رشيد ومؤثر. وقد خالف «العمل العربي المشترك» تلك الخطوات في أغلب الأحيان. فالنشاطات التكاملية العربية تتعثر في مسيرتها، ومعظمها لا يتجسد مادياً على أرض الواقع، بفعل سلوك متعمد من قبل كل قطر عربي على حدة، وبحكم العوامل والعناصر التي تغذي التنافر العربي ومنها حمولات الميراث التاريخي، والبنية الاجتماعية المركبة، وتباين الخبرات الاستعمارية، وتفاوت الحجم والقدرة بين الكيانات السياسية العربية، وترسيخ تنشئة سياسية قمعية في المعارف والقيم والتوجهات، وضعف درجة الاتصال وكثافته بين الشعوب، علاوة على عوامل خارجية منها، آثار الصراع الدامي ضد إسرائيل، وديمومة التنافس والتناحر الدولي في المنطقة العربية، وحرص القوى الكبرى على عدم تحول العالم العربي إلى كيان واحد قوي، واستسلام الدول العربية للتوزع على استراتيجيات هذه الدول التي تتصارع بطبعها، ما يقود بالتبعية إلى نشوب صراعات عربية عربية، مثل تلك القائمة الآن بين ما يسمى «محور الممانعة» و«محور الاعتدال». وهذا الوضع ليس سوى استمرار لحالة قديمة متجددة، إذ لم يخل النظام العربي في أية مرحلة من مراحل تطوره من ظاهرة النزاع بين أعضائه، في ظاهرة «بندولية» صارت عيباً عربياً ظاهراً ومتأصلاً.
فالتفاعلات العربية العربية تنتقل من تعاون إلى صراع، في شكل منتظم، وفي زمن متفاوت، يبلغ حده الأدنى أقل من سنتين، حين انتقل النظام العربي من الصراع إلى التضامن ما بين مطلع عام 1966 وحلول آب (أغسطس) 1967 الذي شهد قمة الخرطوم الفارقة. أما حده الأقصى فيبلغ عشر سنوات، حيث انتقل العرب من التباعد عام 1977 إلى التقارب عام 1987.
وإذا عدنا إلى فترة أعمق زمنياً نجد أن تضامن العرب عام 1948 في ظل سعيهم إلى منع قيام «دولة إسرائيل» لم يستمر سوى سنتين، إذ اختلفوا عام 1950 حول ضم الملك عبدالله الضفة الغربية الفلسطينية إلى المملكة الأردنية، ثم هدأ الخلاف أو تم تسكينه إلى أن تجدد عام 1955، وفي شكل حاد، للخلاف حول الارتباط بسياسة الأحلاف الغربية في المنطقة. لكن العرب عادوا إلى التضامن مع مصر إبان العدوان الثلاثي عليها عام 1956، ليختلفوا من جديد حول قضايا عدة في مطلعها عودة الارتباط بسياسات غربية في ظل مشروع الرئيس الأميركي أيزنهاور عام 1957.
وتعمق الخلاف عام 1959 بين الجمهورية العربية المتحدة والعراق، ثم بين الرئيس جمال عبدالناصر وحزب البعث في أوائل الستينات، حتى حدث صدام مسلح بين القوى الثورية العربية والقوى المحافظة حول الثورة اليمنية التي اندلعت عام 1962، لندخل إلى ما تسمى «الحرب العربية الباردة». ونشب صراع آخر بين الجزائر والمغرب عام 1963. لكن هذه الصراعات هدأت استجابة لدعوة عبدالناصر إلى العرب ليتضامنوا في وجه التهديد الإسرائيلي لمياه نهر الأردن، فعادت العلاقات العربية إلى انفراج لم يستمر سوى سنتين، ليعود الصراع في شبه الجزيرة العربية والمغرب العربي. فلما وقعت هزيمة حزيران (يونيو) 1967 التأم العرب في تضامن طويل نسبياً استمر إلى عام 1977، الذي شهد خلافاً مشهوداً حول سياسة التسوية مع إسرائيل، انتهى بقطيعة عربية لمصر، ونقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس. وتوازى هذا مع نزاع سوري عراقي بسبب الحرب بين بغداد وطهران، لتأتي قمة عمان 1987 وتشهد محاولة لتلطيف الأجواء واستعادة التضامن العربي، كُللت بعودة مصر إلى العرب عام 1989، وإنشاء كيان إقليمي عرف باسم «مجلس التعاون العربي» ضم مصر والعراق واليمن والأردن.
لكن كل هذا تبخر بغزو العراق الكويت في 1990 ليشهد النظام الإقليمي العربي واحدة من أشد انقساماته وطأة، لا سيما بعد أن انجرفت الأمور إلى الاستعانة بقوات أجنبية لتحرير الكويت، في ما بدا مقدمة طبيعية لاحتلال العراق بعد 12 سنة من إخراج قواته من أرض الكويت، لتستمر الانقسامات العربية حول المسألتين اللبنانية والفلسطينية، بين توزع العرب على محورين مختلفين تماماً استجابة لرؤية إدارة الرئيس جورج بوش، وذلك في استقطاب جديد، لا تلوح في الأفق علامات على تبدده سريعاً.
ومع تتابع هذه الصراعات، التي لم تجد أبداً حلاً ناجزاً، توالت القمم العربية، وكان من الطبيعي أن تلقي هذه الصراعات بظلالها على تلك القمم، خصوصاً مع سلبية العناصر التي تؤثر في إصدار القرارات العربية على المستوى القُطري، حيث هيمنة شخص واحد على القرار، وتراخي الرأي العام في الضغط على الحكام في أغلب الأوقات، وسيطرة الهاجس الأمني على عقل الأنظمة الحاكمة على ما عداه من اعتبارات، إلى جانب الضعف الاقتصادي والتشرذم الاجتماعي، وتغييب الحياة السياسية الصحية، التي تعتمد على تعددية حقيقية، وتداول للسلطة.
وإذا ما أمعنا النظر في تاريخ القمم العربية يمكن أن نخرج بنتيجة واضحة المعالم مفادها أن القمة العربية تنجح في حال توافرت ثلاثة عناصر أساسية هي:
- تعرض النظام الإقليمي العربي لأزمة حادة تهدده بطريقة سافرة وكاسحة، ما يفرض ضرورة وجود قدر مناسب من الصد والرد يحفظ لهذا النظام وجوده واستمراره، على غرار ما جرى في حزيران (يونيو) 1967. ويُشترط هنا أن يقتنع القادة العرب أن بوسعهم التصدي لهذا التهديد، أما إذا كان التهديد فوق طاقتهم، كما جرى إبان الغزو الأميركي العراق، فإنهم يقفون عاجزين عن فعل ملائم ومؤثر.
- تعرض الأنظمة الحاكمة لضغوط خارجية تهدد بقاءها في الحكم، فعندها يتضافر القادة العرب من أجل الدفاع عن عروشهم وكراسيهم. فرغم أن أغلب الدول العربية تبدي تبعية ظاهرة للولايات المتحدة والغرب عموماً، فإن القادة العرب كشروا عن أنيابهم في قمة تونس 2004 ليرفضوا أي محاولة لفرض إصلاح سياسي من الخارج.br /
- وجود قيادة سياسية «كارزمية» أو «دولة قائدة» على المستوى العربي، فقد كان بوسع جمال عبدالناصر أن يسهم في شكل إيجابي في دفع العمل المشترك في اتجاه إيجابي حين يريد، وكان بوسع الملك فيصل أن يقنع دول الخليج بوقف إمدادات النفط عن الدول التي تساعد إسرائيل في حرب 1973. وساعد وجود «دولة قائدة» وهي مصر على نجاح بعض القمم العربية. لكن غياب القيادات الكارزمية، وعدم وجود «دولة قائد» بعد أن كفت مصر عن لعب هذا الدور، بتوقيعها اتفاقية السلام مع إسرائيل، ساهم في عدم فاعلية القمم العربية.
ومع غياب العوامل الثلاثة تقريباً، فإن قمة طرابلس لن تحقق أي اختراق على المستوى السياسي، وستوضع مداولاتها وتوصياتها على الرف، لتستقر إلى جانب أخواتها من القمم السابقة.
* كاتب مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.