صورة الطفل الفلسطيني محمد الدرة، ابن الاثني عشر عاماً، وهو يحتمي بوالده خوفاً من الرصاص المتطاير حولهما. وصورة الأب جمال الدرة وهو يخبئ ابنه خلفه لينقذه من الموت، صورة تهز الضمير، ضمير كل انسان، ولكنها لم تستطع ان تهز ضمير ايهود باراك، الذي قال ان الجيش الاسرائيلي يقوم بأقصى درجات ضبط النفس. ولم تستطع ان تهز ضمير شلومو بن عامي الذي وقف أمام التلفزيون ليطلب بتبجح من عرفات، ان يضبط رجال شرطته. لقد مات الطفل بعد ثوان أمام عدسات التلفزيون، وشاهده الجميع، وبكى لمقتله الجميع، وأغمي على الأب الذي مات ابنه بين يديه، مات برصاص الجنود الاسرائيليين الذين مارسوا أقصى درجات ضبط النفس، حسبما قال باراك. لم يكن الأب والإبن في ميدان قتال. كانا وحيدين وسط شارع عريض، وكانا يختبئان خلف علوة صغيرة أمامهما، وكان الأب يصيح: الطفل... الطفل، وما كان للطفل ان يموت الا بتصويب مباشر عليه وعلى الأب. وهذا ما أنجزه الجنود الاسرائيليون الذين مارسوا أقصى درجات ضبط النفس، حسبما قال باراك. لقد أخرج الفلسطينيون بنادقهم دفاعاً عن الأقصى وعن القدس وعن أنفسهم، وأخرج الجنرال موفاز الدبابات وطائرات الهليكوبتر والصواريخ، وأطلقها على المباني في رفح، وكأنه ذاهب الى معركة بين جيشين، لا الى مواجهة متظاهرين حتى ولو كانوا مسلحين. هل هي الحاجة العسكرية التي دفعت هذا الجنرال الى اخراج الدبابات لمواجهة البنادق؟ حتماً لا. إذاً ما هو الدافع وما هو المحرك؟ لا نكون مغالين اذا قلنا انها الرغبة في القتل. نعم... الرغبة الاسرائيلية في قتل الفلسطينيين، فطالما هناك فلسطينيون فهناك اذاً شاهد على الجريمة الاسرائيلية، الجريمة التي سلبت وطناً، وشردت شعباً، وها هي الآن تريد ان تستل روح هذا الشعب، فتسلبه مسجده ومصلاه. هذه الرغبة في القتل الاسرائيلي للفلسطينيين ليست وقفاً على موفاز وباراك، فهي لها جذورها القريبة والبعيدة، ولنذكر هنا عناوينها القريبة فقط: - الرائد ارييل شارون في غزة. ألم يضع عام 1970 خطة يومية، نفذها خلال سنة كاملة، لقتل جميع زعامات العمل الفدائي في قطاع غزة، وتباهى بعد ذلك بأنه نجح في مهمته؟ هذا اذا لم نذكر دوره في مجزرة صبرا وشاتيلا؟ - الجنرال اسحق رابين، أليس هو صاحب نظرية تكسير العظام التي مارسها ضد الانتفاضة الشعبية، قبل ان تكسر الانتفاضة خطته وتقضي عليها وتدفعه للتفكير في التفاوض؟ - الجنرال ايلان بيران مسؤول الضفة الغربية العسكري لسنوات، ألم يبن فرقة "المستعربين" الذين أخذوا على عاتقهم اغتيال نشطاء الانتفاضة، بالملاحقة والقتل العمد، حتى بلغ مجموع من قتلهم اكثر من 150 شخصاً حسب احصاءات منظمات حقوق الانسان الاسرائيلية؟ - وها هو الجنرال باراك، وقد أصبح رئيساً للوزراء، لا يستطيع معالجة اي حدث إلا بالدبابات والصواريخ وطائرات الهليكوبتر. ونستغرب انه يستطيع ان ينام بعدما شاهد الطفل محمد الدرة وهو يقتل. في مسرحية "العادلون" لألبير كامو، يستنكف الارهابي عن ممارسة الاغتيال، بسبب وجود طفل في مسرح الجريمة، وقد يقتل أثناء الهجوم. حتى الارهابي الساعي للاغتيال يرتجف ضميره امام احتمال قتل الاطفال. وهناك جنرال اسرائيلي انسحب من برج البراجنة عام 1982 وترك الخدمة، لأنه رفض ان يطلق النار على الاطفال الذين شاهدهم بعينيه خلف المتاريس. وحده الجنرال باراك، ومعه الجنرال موفاز، وخلفهم الجنرال شارون، لا يتورعون عن قتل الأطفال، لا يتورعون عن العمل المنظم لقتل الفلسطيني. وقبل أي حديث بالسلم والسلام، أوقفوا هذا القتل الاسرائيلي للشعب الفلسطيني!