أعرف أنه من غير المعقول ولا المقبول إنكار موروثنا الثقافي المتمثل في الحكايات والقصص التي تتضمن أخبار السلف خصوصاً الضاحكة منها تلك التي تروى كطرائف ونوادر للمشاهير من الشعراء والعيارين ومضحكي السلاطين والتي تنتهي في الغالب (مهما كان سبب الحدث) بنهاية سعيدة تتمثل في هبات وعطايا (مهولة) يمنحها الضاحك للمهرّج مما يجعل المتلقي (القارئ) يعُجب ايما اعجاب بأسلوب المهرجين فيصبحون مثالاً للذكاء والقبول لديه بل وحتى المحاكاة وكنت أتمنى من محققي التراث وجامعي أخبار السلف التركيز على نقل الحكايات التي تحث على العمل أو تبرز مكارم الأخلاق أو تروي كفاح ومعاناة الدارسين ومشقة الحصول على المعلومة بدلاً من نشر ثقافة أقرب إلى تمجيد التسوّل والتسكّع عند الابواب منها إلى الحث على العمل والإنتاج، خذّوا مثلاً هذه الحكاية التي وردت في كتاب (أحلى طرائف ونوادر الخلفاء والملوك) من إعداد «إميلي يعقوب كرم» وهي سلسلة من الكتب تحكي كما كُتب على أغلفتها أحلى الطرائف والنوادر، تقول الحكاية (بتصرّف): قال الجاحظ: كان ابودلامة بين يدي الوالي واقفاً فقال له: سلني حاجتك؟ قال ابودلامة: كلب أتصيد به. قال: أعطوه أيّاه. قال: ودابّة أركب عليها. قال: أعطوه. قال: وغلام يصيد بالكلب ويقوده. قال أعطوه غلاماً. قال: وجارية تصلح لنا الصيد، وتطعمنا منه. قال: أعطوه جارية. قال: هؤلاء، يا مولاي عبيدك فلابد لهم من دار يسكنونها. قال: أعطوه داراً تجمعهم. قال: فإن لم يكن لهم ضيعة فأين يعيشون..؟ قال: أعطيتك مائة جريب (مساحة معيّنة من الأرض) عامرة ومائة جريب غامرة. قال: وما الغامرة..؟ قال: ما لا نبات فيها. فقال: قد أقطعتك أنا يا مولاي خمسمائة ألف جريب غامرة في فيافي وصحاري بني أسد، فضحك وقال: اجعلوها كُلّها عامرة.. إلى أن قال الجاحظ فانظر إلى حذقه بالمسألة ولطفه فيها ابتدأ فسهّل القصّة به وجعل يأتي بما يليه على ترتيب وفكاهة حتى نال ما لو سأله بديهة لما وصل اليه أ.ه حكايات كهذه أراها تسوّق لشخصية المُهرج وأنه شديد الذكاء الأمر الذي يمكنه من الحصول على ما يُريد بمجردّ المديح أو الاضحكاك، وهذا يجعل سوق (العيارين) يرتفع ومنزلتهم تعلو عند الأغنياء والمسؤولين فما الحاجة للدراسة والعلم والتعب إذا كان مجردّ خفّة الدم والفهلوة تؤمن المستقبل..!! يحدث نفس الشيء في وقتنا الحاضر حين يتداول الناس باعجاب طرائف ونوادر الحشاشين وجعل شخصية (الحشّاش) كوميدية محبوبة وكأنها دعوة غير مباشرة لتعاطي المخدرات من أجل اكتساب شخصيّة تحظى بقبول الناس..!! أعود فأقول كان من الاولى ابراز انجازات الاسلاف وحكايات كفاحهم من أجل البقاء بدلاً من نشر ثقافة التسوّل عن طريق الفهلوة.