} بدأت السعودية منذ الثاني من أيلول سبتمبر الماضي حملة إعلامية وطنية شاملة لجميع النواحي الأمنية والمرورية، وتهدف الحملة الى "توثيق أواصر العلاقة بين المواطن ورجل الأمن لجهة بناء جسور الثقة والمشاركة الفاعلة". وإذا كان الهدف من الحملة هو "النواحي الأمنية والمرورية" إلا أنه لوحظ أن الجانب المروري احتل الحيز الأكبر من الحملة بسبب انعدام الوعي المروري مما يؤدي الى وقوع الكثير من الحوادث المرورية وما يترتب عليها من خسائر مادية وبشرية. وعلى رغم مرور نحو ثلاثة أسابيع على الحملة ما زالت الظواهر تؤكد انها في وادٍ والجمهور في وادٍ، وما زال الشباب يساهم في الحملة على طريقته من تجاوز للسرعة والدخول على المسارات الأخرى وقطع للاشارات والتفحيط. وتشير الاحصاءات الرسمية الى أن معدل الوفيات السنوية نتيجة الحوادث المرورية يبلغ أربعة آلاف وفاة عدا الجرحى. غير أن هذه الأرقام الرسمية تظل موضع شك وعدم تصديق بسبب خروجها عن التعريفات التي تأخذ بها منظمة الصحة العالمية في تعريف "الوفاة المرورية" كما يقول الدكتور علي بن سعيد الغامدي استاذ هندسة المرور والنقل المشارك في كلية الهندسة في جامعة الملك سعود ورئيس اللجنة الوطنية لسلامة المرور. وأيضاً يؤكد المسؤولون السعوديون ان السعودية ما زالت الأقل في الحوادث المرورية قياساً بالدول الأخرى. وهذا أيضاً يخالف الحقائق لعدم الأخذ في الحسبان أن نصف المجتمع السعودي المرأة لا يسمح لها بالقيادة. فما هي الأرقام الحقيقية للخسائر البشرية والمادية للحوادث المرورية؟ وما أسباب هذه الحوادث؟ ولماذا القاء اللوم دائماً على السائق من دون النظر الى التخطيط الخطأ للمدن؟ ولماذا التفرقة بين السائق السعودي والأجنبي؟ هذه بعض من الأسئلة التي وضعناها على مائدة النقاش مع الدكتور علي الغامدي في هذا الحوار: أولاً ما هو تقييمك للوضع المروري في السعودية؟ - لا أخفيك أن الوضع المروري في السعودية لا يعتبر جيداً ولا يقارن بما هو موجود في معظم دول العالم وارتفاع نسبة الوفيات والمصابين غير مبرر، ولو أخذنا الدول المتقدمة التي تكثر فيها الحوادث المرورية نجد أن أغلبها بسبب المسكر، وهذا العامل لا وجود له في السعودية، أيضاً لدينا المرأة نصف المجتمع لا تقود السيارة. إذاً المقارنة التي تضع السعودية في موضع غير جيد بين الدول الأخرى، مقارنة خاطئة لأن الواقع أقل من ذلك بكثير عندما نأخذ هذين العاملين في الاعتبار. ولذلك فأنا أتحفظ على الاحصاءات الرسمية في شكل كبير. قلتم ان الوضع المروري ليس جيداً، ما الأسباب التي أدت الى ذلك؟ - أسباب كثيرة متشعبة ومختلفة، السبب المباشر هي الطفرة التي شهدتها المملكة منذ السبعينات تبعها تطور سريع كان مربكاً للمجتمع وكان أسرع من استجابة المجتمع له ولم يستطع المجتمع أن يتعاطى مع هذا التطور كما ينبغي. وكان من آثار الطفرة النفطية دخول الوافدين في شكل كبير الى السعودية، واختلط جمهور الوافدين بالسائقين السعوديين ما أفرز مشكلات مختلفة كانت أبرزها الحوادث المرورية خصوصاً أن الوافدين جاؤوا من دول كثيرة ولهم حضارات وسلوكيات مختلفة، وهذا أحد العوامل وليس العامل المباشر. الى جانب ان السائق السعودي لم يجد الصرامة في تطبيق الأنظمة منذ البداية، ويلاحظ أن الحزم ليس في الشكل الذي ينبغي مع المخالفين بالتالي مع مرور السنوات أصبح هناك "عادة" ألفها السائق طالما أنه ليس هناك نظام يراقبه. كذلك لا ننسى أن المجتمع السعودي منذ ثلاثة عقود كانت الأمية فيه تصل الى 60 في المئة وعندما جاءت الطفرة أصبح الناس يملكون السيارات الفارهة لم يقدروا ولم يحترموا التعامل مع هذه الوسائل الحضارية. والى جانب كل العوامل السابقة عامل آخر مهم، ان معظم الأسر السعودية تعتمد على السائق الأجنبي، ووجدنا ان معظم السائقين لم يمارسوا هذه المهنة في بلادهم وإنما جاؤوا يتمرنون في شوارع السعودية على رغم حصولهم على رخصة من بلادهم انهم سائقون ولكننا نعرف أن في بعض الدول يستطيع أي شخص أن يشتري حتى الرخصة الدولية. وأثبتت الأبحاث الميدانية التي قمنا بها ان 20 في المئة من سائقي الأجرة العامة "الليموزين" ليسوا سائقين والباقون لديهم رخصة سائق خصوصي وليست رخصة عمومية تتيح له العمل في الليموزين، إذاً هناك خلل في تطبيق الأنظمة ومتابعة هؤلاء السائقين. كانت هذه هي العوامل التي أدت الى الفوضى المرورية، فما هي أم مظاهر هذه الفوضى؟ - المظاهر أيضاً كثيرة أولها السرعة الطائشة إذ وجدنا في الدراسات الميدانية ان 90 في المئة من السائقين يتجاوزون السرعة القصوى المقررة للطرق وهذا معناه عدم احترام اللوحات المحددة للسرعة. الظاهرة الأخرى هي قطع الاشارة بلا مبالاة من الشباب على رغم ادراكهم خطورة ذلك، ما يشير الى وجود حال من اللاوعي قد يكون سببها الغرور الذاتي. الى جانب ذلك نجد ظاهرة الانتقال المفاجئ من مسار الى آخر من دون احترام حق الآخرين في الطريق، والانتقال من أقصى اليمين الى أقصى اليسار. ومن أهم تلك المظاهر ظاهرة "التفحيط" التي لم تستطع السلطات حتى الآن للأسف القضاء عليها وفشلت في محاربتها وما زلنا نسمع كل يوم عن ضحايا لهذه الظاهرة. أضف الى تلك المظاهر ممارسات أخرى منها عدم الالتزام بقواعد المرور الأساسية مثل التوقف في المكان الخاطئ، والتوقف عند التقاطعات ما يؤدي الى تعطل المرور والحوادث. هل وصلت الحال المرورية الى مرحلة الفوضى؟ - أستطيع أن أقول إننا في السعودية وبعض الدول الخليجية التي عاصرت الطفرة لدينا "انفلات" مروري من عقاله لا بد من أن نتصدى له. هذا الانفلات المروري كيف نترجمه الى لغة الأرقام والاحصاءات؟ - عليّ أن أقول إننا نعاني دائماً نقصاً في المعلومة وعدم الحصول عليها في الشكل المطلوب السريع، وعموماً فالحوادث المرورية في الأعوام الثلاثين الماضية سببت 70 ألف حال وفاة و600 ألف مصاب، وهذه أرقام كبيرة جداً مقارنة بدول أخرى، ويلاحظ أن معدل الوفيات في السعودية يصل الى ثمانية أضعاف المعدل في أميركا قياساً بعدد السكان، وقياساً بمعدل ملكية السيارات فنحن لا نقف في موقف مشرف علماً ان ال70 ألفاً هم الذين توفوا فقط في مكان الحادث. وهنا أشير الى خطأ الاحصاءات الرسمية التي لا تعرّف الوفيات المرورية إلا بمن يموت في موقع الحادث في حين أن تعريف منظمة الصحة العالمية يقول إنه من "يموت نتيجة الحادث خلال شهر" ولو طبقنا هذا التعريف لوجدنا ان عدد الوفيات المعلن رسمياً وهو 4000 سنوياً سيصل الى 8000 سنوياً. أيضاً لدينا 2000 معوق بإعاقة مستديمة، ومن الناحية الاقتصادية نجد أكثر من 30 في المئة من أسرّة المستشفيات تُشغل بمصابي الحوادث فيما نحتاجها لمرضى آخرين. وتقدر الخسائر الاقتصادية للحوادث المرورية في السعودية بنحو 21 بليون ريال 6،5 بليون دولار سنوياً يشتمل على المتوفين والعلاج وأجور الموظفين والانفاق على الخدمات المساندة والدفاع المدني والهلال الأحمر، وهذا الرقم يمثل 4 في المئة من الناتج الاجمالي وهو رقم كبير جداً إذ لا يزيد في الدول المتقدمة على 2 في المئة وهذه مشكلة خطيرة جداً في مجتمع نصفه لا يقود سيارة. تشير الاحصاءات أيضاً الى أن 40 - 45 من المفقودين في الحوادث المرورية تقلّ أعمارهم عن 40 سنة ومعظمهم أقل من 30 سنة فنحن إذاً نفقد أيدٍ عاملة شابة نحتاجها لدفع عملية التنمية، الى جانب أن 20 في المئة من وفيات الأطفال تقل أعمارهم عن عشر سنوات، ولا نغفل الخسائر المعنوية والمعاناة التي يسببها وفاة أحد أفراد الأسرة. وأستطيع القول إن لدينا كل ساعة قتيلاً وأربعة جرحى بسبب الحوادث المرورية. لماذا تم التعتيم على الأرقام طوال الفترة السابقة وبدأ الافصاح عنها مع الحملة فقط؟ - الاشكالية ان الحصول على الاحصاءات المرورية يتعطل بالبيروقراطية. الاحصاءات كانت موجودة وكان هناك بعض التحفظ أما الآن فأعلنت. حتى عندما أعلنت لم تعلن الأرقام الحقيقية؟ - ليس هناك تعمد في اخفاء الأرقام ولكن الاختلاف عن تعريف الوفاة المرورية، ونحن كدولة نامية تعاني الاحصاءات فيها مشكلات من عدم الدقة وعدم الاهتمام، مثلاً نحن ننظر الى تقارير الحوادث المرورية نجد انها لا تملأ في شكل كافٍ. هناك خلل أيضاً في ملء البيانات من قبل رجل المرور وهي ظاهرة موجودة في بعض الدول حتى المتقدمة، لكنها تبرز في الدول النامية مثل السعودية، إذاً هناك خلل في الاحصاءات خصوصاً في عدم اعطائها التفاصيل اللازمة، مثلاً نجد الوفيات توضع كرقم من دون تحديد النوع ذكراً أم أنثى، والأعمار، والجنسيات وهذا لا يفي حتى بأغراض التوعية. أخلص من ذلك ان اسلوب جمع الاحصاءات في السعودية ما زال دون المستوى المطلوب. المشكلة إذاً تتعلق بثلاث: رجل المرور والسائق والطرق، فكيف نحدد مسؤولية كل من هؤلاء؟ - بالنسبة الى السائق: طبقاً للاحصاءات الرسمية يتحمل السائق 90 في المئة من الخطأ، ونحن لا نثق دوماً في هذه النسبة لأن السائق ليس كل شيء. التحقيق في الحادث يغفل دوماً الجانب الفني وأقصد بذلك أن محقق الحادث لا يعرف الأسباب الفنية للحادث. قد يكون خطأ في تصميم الطريق. قد يكون هناك مشكلة في مجال الرؤية. فالتحقيق إذاً لا يرقى الى مستوى معرفة هذه العوامل فتحمل المسؤولية السائق بنسبة 90 في المئة فيما لا تصل هذه النسبة في معظم الدول المتقدمة الى 60 في المئة. وبالنسبة الى الطرق لدينا شبكة طرق رائعة، لكن المشكلة أن تقرير الحوادث المرورية لا يساعد على اكتشاف المواقع الخطرة أو ما يطلق عليها "مواقع البقع السود على الطرق" وبالتالي لا أعرف كجهة مسؤولية ان الطريق أحد اسباب الحوادث، وبالتالي تستمر الحوادث في طرق معينة من دون غيرها لأن الاحصاءات لا تساعد على كشف المواقع الخطرة. كذلك ليس على الطرق اسعافات طبية سريعة، فقد يقع الحادث وينتظر المصاب ساعات قد تكلفه حياته. وأود أن أشير الى أن التخطيط الشبكي الذي اتبع في تخطيط مدينة الرياض مثلاً غير مناسب لأنه يساعد على دخول السائق احياء معينة ليس له علاقة بها لمجرد الوصول الى حي آخر، كما نلاحظ وجود طرق سريعة مزدوجة تساعد على القيادة بسرعة مئة كلم في الساعة داخل الأحياء السكنية مما يساهم على تفاقم مشكلة الحوادث. ولكن ألم ينشئ هذه الطرق خبراء ومهندسون، أين كانوا من كل ذلك؟ - في وقت الطفرة كان هناك اهتمام بإنشاء البنية التحتية ولم يؤخذ في الاعتبار عامل السلامة المرورية، كان التفكير في كيفية نقل المواطنين من مكان الى آخر من دون مراعاة لسلامتهم، الآن نلوم الماضي لكن يجب أن نجد الحلول لهذه الأخطاء الهندسية وهي موجودة عالمياً. مثل ماذا؟ - مثل الأحياء السكنية المغلقة التي بدأت تظهر في الرياض، ومثل استخدام المهدئات المرورية كما تسمى في الخارج. وماذا عن عسكري المرور؟ - لا تطالب العسكري بأكثر من طاقته. رجل المرور السابق كان أميّاً ثم بات يقرأ ويكتب ثم ارتفع مستواه التعليمي حتى المرحلة الثانوية. وأدى ضعف التحصيل العلمي لرجال المرور في الماضي الى خلق فجوة بينهم وبين المواطنين أو المقيمين. من ناحية أخرى في الرياض 500 اشارة ضوئية، فمن الصعب وجود عسكري مرور عند كل اشارة، الى جانب أن العسكري يعلم أن هناك واسطة وبالتالي يتساهل في تطبيق القوانين ولا نستطيع أن ننكر وجود الواسطة أو الشفاعة وللأسف أن بعضهم يستخدمها في غير مصلحة المجتمع. وحتى السيارات التي يركبها عسكري المرور قديمة لا تستطيع أن تلحق بسيارة شاب أو أن تبلغ عنه على الأقل، فلا بد إذاً أن يؤهل العسكري ونوفر له الامكانات اللازمة.