انها ايام مثيرة للقلق في واشنطن، اذ "تصارع" الادارة الاميركية للسيطرة على اعمال العنف المتزايدة في الشرق الاوسط. ويجري مسؤولون كبار في البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية الاميركية سي آي أي ومكتب التحقيقات الفيديرالي إف بي آي ووزارة الخارجية الاميركية واجهزة اخرى اجتماعات طارئة على مدار الساعة. وخوفاً من وقوع هجمات ارهابية وضعت القوات الاميركية المتمركزة في تركيا والبحرين وقطر في حال انذار قصوى. وفي الوقت نفسه، يواصل مسؤولون اميركيون واسرائيليون اجراء مشاورات عاجلة ضمن اطار "الشراكة الاستراتيجية" بين الطرفين. وتلقي الازمة في الشرق الاوسط ظلالاً قاتمة على الاسابيع الاخيرة من ولاية الرئيس بيل كلينتون. وتضطر الادارة الى مواجهة بعض الحقائق المزعجة: اولاً، من الواضح في الوقت الحاضر ان حليفها الاسرائيلي في ورطة عميقة، فيما تتخذ اعمال العنف في الاراضي المحتلة على نحو متزايد طابع انتفاضة شعبية. ثانياً، تقف الولاياتالمتحدة ذاتها في الخط الامامي، اذ تُحمّل في ارجاء العالم الاسلامي المسؤولية عن سلوك اسرائيل الوحشي تجاه الفلسطينيين. واتاحت زيارة قصيرة الى واشنطن ان ادرك الى أي مدى ضلّت الولاياتالمتحدة طريقها في الشرق الاوسط. فمع توارد الانباء السيئة الواحد تلو الآخر، تبدو ادارة كلينتون - وجمهور الاميركيين - في حيرة بشأن ما حدث وأين يكمن الخلل، وفي حال تشوش وتردد بشأن كيفية الرد. لقد وجهت الاحداث التي شهدتها الاسابيع الاخيرة ضربة قوية لثقة اميركا بالنفس، كما الحقت الاذى بصدقية المسؤولين المعنيين على نحو مباشر تماماً بالشرق الاوسط: مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية، وصموئيل بيرغر مستشار الامن القومي، ودنيس روس المنسق الاميركي لعملية السلام العربية - الاسرائيلية. ويكمن في لب المشكلة التردد العميق الذي يبديه المسؤولون في الحكومة، ووسائل الاعلام الاميركية ككل، في الاعتراف بأن التحالف مع اسرائيل هو السبب الاساسي وراء موجة العداء للولايات المتحدة التي تجتاح الآن العالمين العربي والاسلامي. ويعد هذا الموضوع في الولاياتالمتحدة من المحرمات التي لا يمكن ان تُثار علناً، خصوصاً في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية الاميركية الشهر المقبل، اذ يحرص كل مرشح على كسب اصوات اليهود او على الاقل عدم تنفيرهم. شبح الارهاب اثارت اربعة تطورات قلقاً كبيراً - يكاد يكون اشبه بصدمة وطنية - في الولاياتالمتحدة، وساهم ذلك في حال التشوش في سياسة اميركا في الشرق الاوسط. الهجوم المدمر في ميناء عدن في 12 الشهر الجاري على المدمرة "يو. إس. إس. كول"، وهي من احدث المدمرات الاميركية المزودة صواريخ موجهة التي تبلغ كلفتها بليون دولار، ما ادى الى مقتل 17 بحاراً اميركياً واصابة 39 آخرين بجروح. الانهيار العنيف في الاسابيع الاخيرة لعملية السلام الاسرائيلية - الفلسطينية، الذي اثار الشكوك حول السبل والمنطلقات التي اعتمدتها الديبلوماسية الاميركية على مدى سبع سنوات. الخطوات العربية والدولية لاعادة تأهيل العراق، وهو بلد لُُقّن الاميركيون على اعتباره جوهر الشر. وتشير الرحلات الجوية الانسانية الكثيرة الى بغداد، بالاضافة الى اشراك العراق في القمة العربية الاخيرة في القاهرة، الى وحدة في الصف العربي والى انهيار تدريجي للعقوبات. الاحساس في واشنطن بأن الولاياتالمتحدة خسرت نفوذاً وقوة في العالم العربي، حتى لدى اقرب حلفائها. ومن بين هذه التطورات الاربعة كان الهجوم على المدمرة "كول" الاعمق تأثيراً على الرأي العام الاميركي. وقد احدث موجة صغيرة من الذعر في المؤسسة العسكرية الاميركية، وفي السفارات والمؤسسات والمنشآت التجارية الاميركية في ارجاء العالم الاسلامي. ويشعر كل اميركي في الخارج حالياً انه قد يصبح هدفاً لقوى معادية، لاسباب لا يدركها سوى قلة من الاميركيين، ويخيم على البلاد شبح الارهاب. واُضيفت الى اجواء الفزع العامة الشهادة التي ادلى بها الاسبوع الماضي امام لجنة تابعة لمجلس الشيوخ الجنرال انتوني زيني، القائد العام السابق ل "القيادة المركزية" والعسكري البارز، الذي تنبأ بأن جماعات ارهابية، معادية للولايات المتحدة، ستحصل يوماً ما على اسلحة دمار شامل. ويوصف "الارهابيون" باستمرار بأنهم "جبناء" وان افعالهم "حمقاء". ولا يبذل اي جهد لتحديد الاسباب التي تكمن وراء اعمال العنف ضد الاميركيين. ولا تجري الاشارة الاّ نادراً في وسائل الاعلام الاميركية الى ان الولاياتالمتحدة تدفع ثمناً باهظاً مقابل تحالفها مع اسرائيل. وعلى العكس تماماً، يُبذل كل جهد للتوصل الى تفسيرات بديلة للعداء الذي يبديه العرب والمسلمون، مثل حرب اميركا المستمرة ضد صدام حسين او وجود القوات الاميركية في الخليج العربي. تحميل اسامة بن لادن المسؤولية تركز الجدال في الولاياتالمتحدة بشأن الهجوم على المدمرة الاميركية، الذي يدور على نطاق واسع في الصحافة والتلفزيون، بشكل كامل تقريباً على ما كان ينبغي القيام به لمنع حدوثه وعلى هوية الجماعة الارهابية المسؤولة. وتأخذ الاسئلة الموجهة عادةً الشكل التالي: هل كان ينبغي للمدمرة "كول" اعادة التزود بالوقود في عدن؟ من اعطى الامر بأن تقوم بذلك؟ ألم يكن معروفاً بأن اليمن ملاذ للارهابيين؟ لماذا لم يعترض البحارة الاميركيون المسلحون على ظهر السفينة الحربية الزورق الصغير، بحمولته المهلكة من المتفجرات، قبل ان يقترب منها؟ اما في ما يتعلق بهوية الجماعة الارهابية، فان وسائل الاعلام الاميركية ألقت المسؤولية على جهات مختلفة مثل "حزب الله" او "الجهاد الاسلامي" او على "جيش عدن - أبين الاسلامي"، وهو تنظيم يمني غامض تورط في خطف غربيين. ومن بين الافكار الاخرى التي طرحها بعض الصحافيين والمعلقين ان العراق اصدر الامر بالهجوم على السفينة الاميركية. لكن المتهم المفضل لدى المسؤولين الاميركيين ووسائل الاعلام هو اسامة بن لادن الذي يشار اليه بانتظام من قبل "خبراء مكافحة الارهاب" باعتباره العقل الموجه الذي يكاد يكون مسؤولاً عن كل عمل عدائي ضد الولاياتالمتحدة في السنوات الاخيرة. وكان اسامة بن لادن استأثر باهتمام وسائل الاعلام في الولاياتالمتحدة في الايام الاخيرة بالارتباط مع قضية علي محمد، وهو رقيب سابق في الجيش الاميركي من اصل مصري اعترف بالتهمة الموجهة اليه بالتآمر ضد مصالح اميركية في شرق افريقيا وفقاً لاوامر ابن لادن. واُعلن في 18 الشهر الجاري ان علي محمد اعترف بأنه عاين اهدافاً اميركية محتملة في نيروبي في 1993. واعتبرت الحكومة الاميركية اعترافه نصراً كبيراً في مساعيها للعثور على منفذي التفجيرات التي استهدفت سفارتين اميركيتين في شرق افريقيا في 1998. وكان اقرار علي محمد بالتهمة الموجهة اليه، وتعاونه الواضح مع السلطات، جزءاً من مساومة قضائية يتوقع ان تخفض الى حد كبير العقوبة التي ستصدر بحقه. ومع ذلك، عززت قضيته في أعين الاميركيين الرأي القائل بأن ابن لادن مسؤول ايضاً بشكل ما عن الهجوم على المدمرة "كول". من الاسهل قطعاً بالنسبة الى الرأي العام الاميركي ان يلقي المسؤولية على "قائد ارهابي" يصدر اوامر الى القتلة التابعين له من مخبأ في جبال افغانستان، بدلاً من التفكير في احتمال ان تكون السياسات الاميركية ذاتها هي التي فجّرت اعمال العنف التي تعاني الولاياتالمتحدة نتائجها في الوقت الحاضر. "لغز" الانتفاضة الجديدة وعلى غرار الهجوم على المدمرة "كول"، جاء تفجر اعمال العنف في الاراضي الفلسطينية، والتظاهرات الضخمة في ارجاء العالم الاسلامي تأييداً للفلسطينيين، مفاجئة لاميركا، واستقبلت بذهول وحيرة في معظم وسائل الاعلام الاميركية. ويوضح هذا الموقف الى أي مدى فقدت الولاياتالمتحدة رؤيتها لقضايا اساسية - مثل استمرار الاحتلال الاسرائيلي للكثير من الاراضي الفلسطينية - وجهلها العميق، او عدم اكتراثها، بمزاج العرب. وفي ترديد للموقف الاسرائيلي الرسمي تميل اميركا لالقاء المسؤولية على الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لعدم سيطرته على "الشارع العربي". لكن الاميركيين والاسرائيليين يسعون حالياً، في مؤشر الى الذعر جراء استمرار العنف، الى التأكيد على ان استخدام العنف من قبل الفلسطينيين لن يغير شيئاً "على الارض". وتؤكد الولاياتالمتحدة واسرائيل على السواء على ضرورة وقف اعمال العنف من جانب الفلسطينيين كشرط مسبق لاستئناف المفاوضات. وفي احاديث خاصة يصف مسؤولون اميركيون الرأي القائل بان رماة الحجارة الفلسطينيين قد ينجحون في تغيير ميزان القوى في المنطقة، على نحو ما تمكن "حزب الله" من القيام به في جنوبلبنان، بانه "سيناريو اشبه بكابوس". وبالتأكيد، في الوقت الذي يصارع فيه الاميركيون والاسرائيليون لاحتواء الازمة يُضطرون الى الاعتراف بأن الاحداث الاخيرة غيّرت بشكل جذري البيئة الاستراتيجية في الشرق الاوسط. * كاتب وصحافي بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.