نما الاستهلاك للمشترك السكني من الطاقة الكهربائية في النصف الثاني من التسعينات بنحو 1 في المئة سنوياً، وقدر المتوسط السنوي للمشترك بنحو 35 ألف كيلووات ساعة عام 1994، طبقاً للاحصاءات الرسمية وطبقاً لخطة التنمية الخمسية السابعة، ومن المتوقع أن ينمو متوسط الاستهلاك الكلي السنوي للمشترك السكني بمعدل سنوي متوسط نحو 1.2 في المئة، ليصل المتوسط السنوي سنة 2004 الى نحو 39 ألف كيلووات ساعة، أو ما يعادل قرابة 3300 كيلووات ساعة شهرياً. وهكذا نجد أن هناك علاقة منطقية بين متوسط الاستهلاك السكني وبين تسعير بيع الكهرباء للشرائح الدنيا في التعرفة الحالية، حيث يباع الكيلووات/ساعة بنحو خُمْسَيْ 2/5 كلفته. يبدو أن هناك من الأسباب ما يبرر القول ان قضية قطاع الكهرباء السعودي ليست مجرد تعرفة بل أبعد من ذلك، فالتعرفة ما هي الا محصلة لعوامل عدة، وعند مقارنة معدل نمو الطلب على الطاقة الكهربائية بمعدل النمو الاقتصادي خلال العقد المنصرم نجد أن الأول يتجاوز الثاني بأضعاف، وكبح النمو في الطلب على الكهرباء يمثل التحديد الأول، فمجابهة النمو تتطلب أموالاً لاستثمارها في محطات التوليد وشبكات النقل الخاص أو من الخزانة العامة، لكن الخيار الأول ليس متاحاً فالقطاع مثقل بالديون ودخول القطاع الخاص يتطلب البيع بسعر يتجاوز التكلفة. وعلى رغم أن التعرفة المعمول بها حالياً درست باستفاضة، يمكن الجزم أن تجربة هذا الصيف وما تكرر من شكاوى حول التعرفة واقتراحات لإعادة النظر فيها، كل ذلك يوجب طرح أسئلة. لكن، ومهما يكن من أمر، تبقى التعرفة مجرد انعكاس لتصور محدد المعالم، يمكن أن يشطب ويعدل في أي وقت ليغير تصورنا لقطاع محدد المعالم، من خلال اعادة توزيع الأدوار والمساهمات الاقتصادية للحكومة والمستهلك والمستثمر بين حامل ومحمول. تعرفة جديدة دخل قطاع الكهرباء في السعودية منعطفاً جديداً مع صدور تعرفة جديدة للكهرباء قبل أقل من عام في شعبان 1419 وبدء تطبيق التعرفة بداية السنة الهجرية الحالية الموافقة 6 نيسان/ أبريل 2000، وهدفت التعرفة بصورة مباشرة الى ازالة العجز الذي عايشه قطاع الكهرباء لأكثر من عقد من الزمان، تجاوزت فيه خسائر القطاع 3 بلايين ريال سنوياً في المتوسط، مما كان أكثر من كاف لإعلان افلاس الشركات المكونة للقطاع. غير أن الحكومة تدخلت تدخلاً حاسماً فمنعت حدوث ذلك بإعادة هيكلة القطاع، وفق تصور محدد المعالم للقطاع، ونسق مرسوم بعناية لأدوار الأطراف الرئيسية: الحكومة والمستهلك والمستثمر والرقيب. تعديل التعرفة ولم يكن ذلك هدفاً من دون ضوابط، اذ أصرت دوائر القرار على عدم زيادة التعرفة على الشرائح الدنيا من المستهلكين، وهكذا صدرت التعرفة من دون تغيير لأسعار الخمسة آلاف ك و س الأولى، بل بقيت كما كانت قديماً، ولا يمكن القول ان التعرفة المعمول بها منذ نيسان السنة 2000 نموذجية، بل هي بحاجة الى تعديلات هنا وهناك، وتحديداً في ما يتعلق ببعض الأنشطة الاقتصادية، خصوصاً المستشفيات لاعتبارات غير خافية. لكن الأمر الذي يستحق التوقف عنده هو: هل تعدل التعرفة تعديلاً جذرياً لنبدأ من جديد؟ أم تعدل أخذاً في الاعتبار تجربة استغرقت أشهراً تخللها صيف قائظ؟ وهل تعدل لتغطي الخزانة العامة خسائر القطاع؟ وما تأثير العودة الى تعرفة أخرى كالتعرفة القديمة؟ وما تأثير تقلب تعرفة الكهرباء على المستثمرين في قطاع الكهرباء، الذي يتطلب استثمارات وبالتالي اتفاقات طويلة المدى وتدفقات نقدية موجبة ومستقرة؟ ولعل السؤال الأشمل: ما التصور المحدد المعالم الذي نريده لقطاع الكهرباء: قطاع مستقل اقتصادياً أم قطاع تابع لدعم الحكومة الذي يرتبط بقائمة ممتدة من الأولويات وبتذبذب أسعار النفط؟ وتبين الاحصاءات أن قطاع الكهرباء السعودي يخدم أكثر من ثلاثة ملايين مشترك، وتطول تبعات التعرفة شرائح متنوعة للمستهلكين في المساكن والمصانع والمزارع والفنادق والمستشفيات، ويبدو أن القوة المؤثرة على ما يتردد حالياً عن قرب تعديل التعرفة الجمركية هي شرائح محدودة تضررت من التعرفة التي طبقت قبل نحو ستة أشهر، وبالتأكيد، فالرغبة بالتحسين المستمر مطلب ضروري، اذ من غير المقبول الركون الى فلسفة "ليس بالامكان أفضل مما كان"، لكن في الوقت نفسه لا بد من كشف نقاط الضعف والقوة في أي حل، ولا بد من الاقرار بأن الخطوات التي خطتها الحكومة السعودية في اعادة هيكلة قطاع الكهرباء، وما تبع ذلك من تعديل التعرفة لتأهيل القطاع ليصبح مستقلاً، جسدت ممارسة جريئة وهي أن الخدمات ستقدم على أساس اقتصادي، أما تعديل التعرفة فيمكن أن ينطلق من الرغبة في اضفاء مزيد من المكنون الاجتماعي على تصورنا المحدد لقطاع الكهرباء، لينعكس ذلك على التعرفة الحالية وسيعني هذا في المحصلة اعادة تقسيم الأعباء بين الحكومة والمستهلك، وقد لا يستدعي ذلك نسف التعرفة الحالية بالكامل، والمبرر أن الكهرباء، طال الزمن أم قصر، يجب تقديمها للأنشطة الاقتصادية الهادفة للربح وفق صيغة ربحية خالية من الدعم، أما بالنسبة للاستخدام السكني، فإن النسبة الغالبة لم تتأثر سلباً بالتعرفة الجديدة، وهذا أمر ليس محل جدل بحكم أنه يُقاس ولا يخمن تماماً كما تقاس درجة الحرارة بميزان الحرارة، اذ ليس من الدقة أن يقاس تأثير التعرفة طبقاً لانطباعات أفراد أو عشرات من الأفراد، فعدد المشتركين يزيد على 2.2 مليون مشترك سكني، وعليه لا مكان للتأثر بانطباعات عن حالات فردية، ما دامت البيانات حصراً متاحة وبالامكان التأكد من دقتها على وجه اليقين وليس على وجه التخمين، نبقى في نسبة صغيرة لكنها مؤثرة من كبار المستهلكين في القطاع السكني، فهؤلاء لا يمكن أن تتجاوز الزيادة في فواتيرهم 90 في المئة، باعتبار أن التعرفة كانت 20 هللة ك و س، وارتفعت الى 38 هللة ك و س، مع الأخذ في الاعتبار أن ما يستهلك في ذروة الصيف قد يصل الى أضعاف ما يستهلك في سواه من الأشهر. وهكذا، فليس بالامكان منطقياً تفهم دعوى من يقول إن قيمة فاتورة الكهرباء لمنزله تضاعفت بسبب تطبيق التعرفة الجديدة. باختصار، نجد أن تعرفة القطاع السكني بحاجة الى مراجعة مقننة من باب التحسين المستمر، انطلاقاً من ان التعرفة بنيت في الأساس لتعكس حرص متخذ القرار لتقديم الكهرباء للمنازل بأقل سعر ممكن. خيارات محددة يمكن الجدل أن تطوير التعرفة الحالية يجب أن يرتكز الى معيار الكلفة، أي كلفة أي تعديل في التعرفة على الخزانة العامة، وعلى المجتمع والاقتصاد، ومقارنة هذه الكلفة لتكون أقل مما هي عليه الآن، والا ما جدوى أي تعديل؟ ولعل من المناسب القول إن أي تعرفة جديدة لن يكون أمامها خيارات كثيرة، فاما أن يدفع المستهلك نظير استهلاكه، أو أن تدفع الخزانة العامة نظير ذلك الاستهلاك، أو أن يتقاسم الطرفان الأعباء بصورة أو بأخرى، وإلا سقط قطاع الكهرباء صريعاً غير قادر على مسايرة الطلب. وليس القصد هنا أن لا تخضع التعرفة الحالية للتعديل، ولكن القصد بيان صعوبة أن تلغى فقط لأنها لم تحظ بقبول كامل المشتركين، فهذا مطلب لن تحققه أي تعرفة على الأرجح. ومن دون تجاوز أن بامكان طرف تحمل جزء من كلفة الأطراف الأخرى، لا يمكن النظر الى الكهرباء الا كمنتج اقتصادي، فهي تنتج عن سلسلة من العمليات الصناعية والخدمية ذات قيمة، وقد كان الأمر حسم لصالح الحل الاقتصادي انقاذاً لقطاع الكهرباء السعودي من الوقوع صريع الخسائر المتراكمة، وكانت خطوة عملاقة تحسب لصالح الاصلاح الاقتصادي الذي نادت به الخطة الخمسية السادسة مناداة غير مسبوقة من التوجه للتبرير الاقتصادي للأنشطة الانتاجية كافة. ومن جهة أخرى، توسيع الاعتماد على القطاع الخاص استثماراً وادارة. وليس من الانصاف تصوير تعرفة الكهرباء، وكأنها مجال أخذ ورد بين طرفين: الأول يريد خفض السعر والآخر يريد زيادته. ذلك أن القضية ليست زيادة أو خفض أسعار استهلاك الكهرباء، ولا تنتهي القضية عند ازدهار قطاع الكهرباء السعودي أو انكماشه، فالشأن الأهم تطور التنمية من مرحلة تقوم على الاتاحة كأساس والتضحية نظير ذلك بالربح، وهذه مرحلة مضت، الى مرحلة لاحقة تجسد الدفع بسعر اقتصادي نظير الخدمة كأساس، مع الأخذ في الاعتبار الشرائح الاجتماعية المحتاجة من خلال برنامج قسائم مثلاً تقدم لهم الكهرباء بأسعار مخفضة أو بالمجان حسب تقرير الجهات الحكومية المناط بها مسؤولية الشأن الاجتماعي، ووفق قدرتها على اقتسام الأدوار. اثبات الذات مما تقدم يمكن القول بجدوى منح تعرفة الكهرباء المعمول بها حالياً، فرصة لتثبت ذاتها، وعلى رغم وجاهة التخفيف عن كاهل المشتركين نظير استهلاكهم المنزلي، فقد لا يكون مفيداً للمناخ الاقتصادي العام العودة عن سحب القطاعات الاقتصادية من تحت عباءة الحكومة الى حظيرة التعامل الاقتصادي مع الأشياء. وعلى رغم أن تقدير الحكومة للتعرفة المنزلية قد يصل، نظرياً، حتى الى تقديم الكهرباء مجاناً ان رأت أن في ذلك خدمة للمصلحة العامة للبلاد، ومع ذلك يجب أن لا يغيب عن الذهن أن خفض التعرفة المنزلية خفضاً كبيراً سيعني بالضرورة تغطية الخسائر الناتجة عن ذلك اما من الخزانة العامة كما كان الأمر في السابق أو من خلال تحميل الشرائح غير السكنية مزيداً من الأعباء، وهذا يعني عملياً الحد من قدرة المؤسسات الاقتصادية على المنافسة. وهكذا نجد أن التوصل الى صيغة متوازنة أمر يخضع لاعتبارات متداخلة ليس بالامكان تجاوزها. لذا يمكن القول إن تعديل التعرفة أمر يستحق التفحص والتدبر، بل إن التدبر مطلب يعكس الحرص الذي توليه الدوائر المعنية للرفاه الاجتماعي والازدهار الاقتصادي في آن معاً. وحتى تتاح الفرصة للتعامل مع الاعتبارات المتداخلة التي أشير اليها، وللتثبت من أن أي تعديل مستقبلي سينطوي على تطوير لما هو قائم بما يخدم قطاع الكهرباء والاقتصاد السعودي والمجتمع ككل ولا يرمي بتبعات ثقيلة على الخزانة العامة، فلعل من المناسب اقتراح تطوير التعرفة الحالية من خلال ثلاث نقاط: 1 - التعجيل بتأسيس هيئة الكهرباء السعودية، التي نص عليها النظام، باعتبارها هيئة فنية مستقلة معنية بمراجعة التعرفة على أسس محددة، ومراقبة قطاع الكهرباء من حيث كفاءة الأداء، والتمهيد لاجراء آليات مناسبة لحفز المنافسة لشركة الكهرباء السعودية، خصوصاً في مجال التوليد الذي يتطلب استثمارات كبيرة. 2 - التمعن في تأثير تعرفة الكهرباء وتعديلاتها على الأنشطة الاقتصادية المتنوعة وعلى القطاعات الانتاجية والخدمية، ومن ثم على الاقتصاد السعودي ككل. وقد يكون مناسباً أن يضع المجلس الاقتصادي الأعلى توجهاً في هذا النطاق، انطلاقاً من أن قطاع الكهرباء جزء حرج الأهمية لنمو الاقتصاد الوطني. 3 - أما القضية الأشمل، التي حظيت دائماً بعناية واضحة، فهي الكلفة الاجتماعية، والرغبة في توفير الكهرباء للاستخدامات المنزلية للسكان بأقل كلفة ممكنة. فهذا جانب يستحق تعاملاً جراحياً يقدم العون لمستحقيه مباشرة، عوضاً عن تقديم أسعار مخفضة أو مدعومة للجميع تشمل من يحتاج ومن لا يحتاج. * اقتصادي سعودي متخصص في المعلوماتية والانتاج.