دبابات ومجنزرات نصبت عليها المدافع والرشاشات ... قناصة يعتلون البنايات العالية ... دوريات اسرائيلية تحاصر المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية وتشدد الخناق من الخارج ... وصور شهداء الصقت في كل مكان واعلام سوداء علقت على السيارات وأناس يسيرون في غير اتجاه وكأنه يوم الساعة من الداخل. هذا جانب من مشهد "الحصار" الذي شرعت قوات الاحتلال الاسرائيلي بتشديده في اطار المرحلة الثالثة من خطتها العسكرية التي أخذت بتطبيقها لتنفيذ ما تسميه اسرائيل "فصل احادي الجانب عن السلطة الفلسطينية" وما يلمسه الفلسطينيون من "حرب مخططة لها عن سابق اصرار وتصميم". الشبان المحاصرون خرجوا مجموعات من المدارس التي عادت الى الدوام حتى لا يفوت الطلاب كثيرا من تحصيلهم العلمي. بوصلتهم مواقع الاحتكاك مع الجيش الاسرائيلي، يُسرون الى رفاقهم انهم لا يريدون ان يسقطوا جرحى بل شهداء لانهم "لا يطيقون رؤية الدموع في عيون امهاتهم". امرأة تجاوزت الخامسة والسبعين من العمر تحاول ابتياع بعض الخضار الذابلة من السوق المركزي بلا مبالاة. تردد بصوت مسموع ما تعلمته في المدارس منذ عقود: "اين صلاح الدين يا قومي كي يحميني ... اليس في العرين بقايا للعظام ... وابن الخطاب اين؟ فليبكي اليوم عينا ... او فليعد الينا ليُرجع السلام". الفلسطينيون الذين فقدوا الشهية للطعام والشراب وحتى النوم، يصفقون للمرأة العجوز ربما لانها لا زالت تتذكر ابيات الشعر وترددها بلغة سليمة رغم تقدمها في السن، او ربما لانها عبرت عما يجول في خواطرهم. أناشيد الثورة والاغاني الوطنية التي أخفيت لسنوات في الادراج، عادت تبث من صوت فلسطين والاذاعات المحلية تصدح وتلقى لها صدى في الشوارع وعلى الشفاه. سيدتان تناقشان تصريحات رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك وانذاراته وردود الفعل العالمية على ما يجري، وتقول واحدة: "نحن الذين نقتلهم؟ يريدون ان نوقف العنف؟ من الذي يقتل من؟ من الذي يقصف من في الطائرات؟". ساعات الهدوء ما لبثت ان تلاشت مع صوت المحال التجارية وهي تغلق في آن حسب تعليمات البيانات التي وزعت في الشارع، وصوت القنابل الخانقة والمسيلة للدموع يسبق رائحتها التي تحرق العيون والرصاص المطاط الذي يتقدم الرصاص الحي. في البداية، يقول الفلسطينيون، حاولت اسرائيل سياسة الارهاب والتخويف من خلال تحريك الاليات العسكرية الثقيلة واستخدام بعضا من ذخيرتها، ثم اطلقت يد المستوطنين ليلا ليقطعوا الطرق ويدبوا الرعب في قلوب المواطنين العزل، تعقبها صباحا بنداءات خجولة من بعض المسؤوليين تدعو المستوطنين الى عدم استخدام القوة المفرطة في اماكن محددة فقط مثل القدس حيث يمكن للعالم رصد ما يجري. واليوم تعزز اجراءات "العزل" و"الاستفراد" بكل تجمع سكني فلسطيني على حده وتقطع جميع طرق الاتصال والوصل بين المدن والقرى والمخيمات. هذه الخطوات العسكرية الثلاث تجمعت في آن واحد الآن، ولا ينتظر الفلسطينيون سوى ما هدد به باراك من "رد بقوة اشد"، وهذه هي الاوامر التي اصدرها امس الى قوات جيشه وشرطته لانه "اكتشف" ان "عرفات غير مستعد للسلام". واستعدت القوات الاسرائيلية لهذا الرد "بتنظيفها" بنايتين عاليتين في مفرق الشهداء بمحاذاة مستوطنة نتساريم في قلب مدينة غزة لتؤمن مجال رؤية افضل لقناصتها في "لحظة المواجهة" المقبلة ولتصل الرصاصات الى النوافذ المكشوفة لكل بيت فلسطيني في المنطقة. ويتكرر ذلك في الخليل كاشارة الى خطة ل"حماية المستوطنات". وبسبب الخبرة الفلسطينية الطويلة بسياسات الحصار التي تعودت اسرائيل على تطبيقها بحقهم، استشعر الفلسطينيون ما تنفذه اسرائيل بصمت من حصار اقتصادي بدأت آثاره تظهر من نقص في المواد الغذائية، خصوصا في القرى والمخيمات الفلسطينية التي لم تعد معزولة تماما عن محيطها الفلسطيني فحسب، بل ومحاصرة بالمستوطنين الذين استمروا في اعتداءاتهم في وضح النهار ايضا كما حصل امس في قرى حوارة ويتما والخضر اضافة الى 36 موقعا آخر في طول الضفة الغربية وعرضها. وقال مزارعون جنوب الضفة ان الجيش الاسرائيلي منع دخول شاحنات كانت تنقل 100 طن من العنب الفلسطيني عبر معبر ترقوميا الى السوق الاسرائيلية. كما لم تسمح الا لعشرة الاف فلسطيني بالعمل في اسرائيل، وسحبت بطاقات الشخصيات المهمة في اي بي التي كانت اصدرتها للتجار ورجال الاعمال الفلسطينيين وكبار الموظفين في السلطة، وذلك "لمعاقبتهم" على تصريحات ادلوا بها. الحصار الاسرائيلي لم يقتصر على كسرة الخبز، بل تعداه الى عقاب الجرحى الذين سقطوا بفعل الرصاص الاسرائيلي. فاخضعت السيارات التي تقل الجرحى الى المستشفيات في المدن وتلك التي تقل الجرحى الخطرة حالاتهم الى الاردن لاستكمال علاجهم، الى تأخير وتفتيش مطول واستفزازات وصفها مدير المستشفيات الفلسطينية محمود جمهور بانها "تلذذ في رؤية ضحايا لا حول لهم ولا قوة". كذلك قطعت اسرائيل الكهرباء في طولكرم والخليل، فيما قصفت المروحيات الاسرائيلية المتظاهرين في رام الله. وجابت مسيرة ضمت نحو 500 فلسطيني مدينة بيت لحم قبل ان تتوجه الى الحاجز الاسرائيلي عند قبة راحيل في المدخل الشمالي للمدينة وتشتبك مع عناصره. قطاع غزة ولم تكتف اسرائيل بهدم بنياتين في قطاع غزة، بل اغلقت المنطقة القريبة من تجمع مستوطنات غوض قطيف. كذلك احرق عشرات المستوطنين، وبحراسة جنود اسرائيليين ومساعدتهم، عشرين شاحنة عند معبر صوفيا قرب خان يونس وحطموا نحو 70 شاحنة اخرى كانت تقف عند معبري كارني وايريز". وافاد شهود ان مواجهات اندلعت في مدينة رفح جنوبي القطاع امس اسفرت عن اصابة سبعة فلسطينيين بجروح بينهم الطفل سامي ابو جزر 12 عاما الذي اعلن مستشفى الشفاء انه "ميت سريريا". كما اصيب فلسطيني بجروح خلال مواجهات في مستوطنة كفار دروم. وفي تطور خطير، خطف مستوطنون 3 شبان فلسطينيين في منطقة المواصي قرب شاطئ مدينة خانيونس. وقال شهود ل"الحياة" ان مستوطنين نزلوا من سيارة ترافقها 3 سيارات عسكرية وخطفوا الشبان وتوجهوا بهم الى احدى المستوطنات. وطالب السكان السلطة والارتباط العسكري بالتدخل باقصى سرعة لاطلاق الشبان قبل ان يلقوا مصير عصام جودة الذي خطفه مستوطنون وعذبوه قبل قتله والتمثيل بجثته.