تتفق أحزاب المعارضة على مهاجمة سياسة التخصيص الحكومية، لكنها تختلف جذرياً، على خلافات مواقفها، التي تتراوح بين انتقادات الليبراليين، ورفض اليساريين، لبرنامج الاصلاح الاقتصادي المطبق في البلاد، منذ عشر سنوات. وعلي أساس هذا الخلاف، يمكن تفسير الترحيب الذي عبر عنه الليبراليون، بتعيين الدكتور عاطف عبيد رئيساً لمجلس الوزراء في تشرين الأول اكتوبر الماضي، وفي الوقت ذاته موجة الغضب التي اجتاحت صفوف اليسار، وبدت واضحة في اطلاق توصيف "حكومة البيع" على التشكيلة الجديدة. فمنذ العام 1990 تعرضت الحكومات المصرية لضغوط متعارضة، حيث دأب الليبراليون على اتهام خطوات الاصلاح الاقتصادي بالبطء، وتوصيف الخطط الحكومية ب"المناورة" وفقدان الرغبة الحقيقية في تطبيق آليات السوق، وفي المقابل يتهمها اليسار ب"الهرولة" و"الرغبة في البيع" كهدف لتصفية الأوضاع الاجتماعية التي أسستها ثورة تموز يوليو 1952. وعلى رغم هذا التناقض في الخلفيات، والذي يظهر مدى الخلاف بين المعارضة، في شأن التخصيص، إلا أن هذه المسافة الواسعة من التباين، لم تمنع تقارباً ظاهرياً في مواقف هذه الأحزاب من السياسات الحكومية المطبقة. وتعد قضية الشفافية، من أهم الملفات، التي تبرزها الأحزاب، ضد أساليب الحكومة في خصخصة الشركات العامة، إذ تعتبر المعارضة، أن السياسة المطبقة، اعتمدت ولفترة طويلة أسلوب التكتم والكتمان، على صفقات بيع الشركات، لاستهداف سياسي يرتبط بعدم الرغبة في إثارة مشاعر الرأي العام، وهو ما أدى الى نتائج معاكسة، حيث تحولت الحكومة الى سياسة العلانية في هذا الصدد. وأشهرت المعارضة سيف الشفافية من جانب ثانٍ، يتعلق بأسلوب ترسية الصفقات على المشترين الجدد للشركات، وتوافر ضمانات كافية للتأكد من قانونية عمليات البيع. ولعل أبرز ما أثير في هذا الشأن، مناقشة البرلمان صفقة بيع شركة الهاتف المحمول، وما تردد حولها من شكوك، غير أن كل تلك الحملات، ظلت في إطار المقولات، التي لم تجد سنداً لها من الإثباتات القانونية. ولسنوات طويلة، ظلت حصيلة بيع الشركات العامة، غامضة وغير معلومة للرأي العام، واستغلت المعارضة هذا الجانب، لإثارة الشكوك في نيات استخدام العوائد المادية، حتى نجحت الضغوط في إعلان الحكومة دورياً لحصيلة البيع، وأوجه استخدامها. وفي هذا الإطار بدا جانباً كبيراً من الخلاف مع الحكومة، التي استخدمت عوائد البيع في سداد ديون الشركات، والاتفاق على برامج المعاش المبكر، وغيرها من الآثار الجانبية لسياسة التخصيص، وهو ما اعتبرته المعارضة، إهداراً للموارد الوطنية، كان يجب استخدامها في إقامة صناعة بديلة، أو مشاريع اقتصادية أخرى بدلاً من المباعة، بما يضمن استمرار وجود أدوات اقتصادية تعين الحكومة على أداء مهامها وتنفيذ التزاماتها. وأخيراً شنت المعارضة على مختلف فصائلها، حملة انتقادات واسعة، لما أسمته الفساد وسوء الادارة والتسيب، خصوصاً في القطاع المصرفي، وجاء ذلك تواكباً مع ارتفاع سعر الدولار، وأزمة السيولة النقدية، وما تردد عن أزمات عنيفة تواجهها المصارف في توفير حاجات السوق من النقد الأجنبي والمحلي على السواء، وهي المظاهر التي اعتبرتها المعارضة نتاجاً طبيعياً لسوء ادارة الحكومة للنشاط الاقتصادي، وعدم التنسيق في تنفيذ السياسات، بسبب تضارب الأهداف، وتباين المعاني في أذهان المسؤولين. وتهاجم المعارضة سياسات التخصيص، من زاوية المسؤولية عن انتشار الفساد، خصوصاً في القطاع الإداري، والذي يعد احدى الثغرات المهمة في جوانب سياسة التخصيص، لا سيما أن الجهات الرقابية، وسلطات التحقيق، تعلن كثيراً عن قضايا في هذا الشأن، حتى أن السينما المصرية والتلفزيون الوطني لم يتجاهلا هذه الظاهرة، والتي كانت وما زالت محوراً للكثير من الأعمال الفنية المهمة، وتجاوزت في رصدها مستوى الموظفين العموميين، الى مستوى المسؤولين الكبار، ودأبت على الربط بين الخصخصة والفساد. ولعل الاستجواب الأخير الذي ناقشه البرلمان، وتقدم به نائب التجمع البدوي فرغلي ضد وزير الاقتصاد الدكتور يوسف بطرس غالي، يكشف عن جوانب مهمة من مواقف اليسار ضد التخصيص، حيث اعتبر المستجوب أن "هذه السياسة أثمرت تخبطاً في سياسات الدولة، وخلقت ثغرات قانونية تؤثر في المصلحة الوطنية وحاصرت الصناعة الوطنية، وساعدت على تصفيتها، وأنجبت فساداً متفشياً في قطاعات عدة، وجذبت قطاعاً مقامراً من رجال الأعمال، غير منتج، باحثاً عن الثروة من دون الاضافة لموارد الدولة". وترتب على الاستجواب، إعلان الحكومة قرارات فورية أمام البرلمان في شأن المستثمر الأجنبي، وإحالة ملف قضية المتورطين معه في التهرب من الجمارك، والتحايل على القانون، الى النائب العام وإلغاء الامتيازات التي حصل عليها، وهو ما استقبل بترحيب شديد من كل الدوائر، على خلفية ضخامة الفروق التي حصل عليها المستثمر من البنوك، وتداول روايات حول مغامراته لشهور طويلة في أوساط الرأي العام. وتتميز المعارضة اليسارية عن مثيلاتها الليبرالية في المواقف من التخصيص، فإذا كان أنصار الحرية الاقتصادية، يقفون عند حدود رصد وانتقاد الظواهر المترقبة على عملية التحول، فإن الاتجاهات اليسارية، تتجاوز ذلك الى الرفض المبدئي والمنهجي لهذا الاتجاه. فاليسار التجمع والناصريون يعتبرون أن برامج التخصيص، ستؤدي الى إهدار الثروة الوطنية، ودمج المجتمع المصري في الاقتصاد العالمي، بما في ذلك من مخاطر على الأوضاع المحلية، التي ما زالت تتصف بالهشاشة والضعف. ويرجع ذلك التصور، الى حداثة الانتاج الوطني، في مقابل الخبرات الطويلة المتراكمة للرأسمالية العالمية، تساعدها على المساهمة في حقيقة النشاط الوطني، عبر عمليات منافسة غير متوازنة، فضلاً عن العقبات الكثيرة التي واجهتها الصناعات الوطنية، من جراء الظروف الاستثنائية التي خاضتها لسنوات طويلة استنزفت طاقاتها في تمويل عمليات المواجهات العسكرية مع اسرائيل. وتتهم المعارضة اليسارية الحكومة بالمسؤولية عن فشل الشركات العاملة، عبر الزامها بسياسات اقتصادية واجتماعية محددة، أدت الى اغراقها في الديون، وتقليل قدرتها على تجويد الانتاج وترقيته الى المستويات العالمية القادرة على المنافسة مع الانتاج الأجنبي. وترى المعارضة ان تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي، وانهاء كل المحاذير على استيراد السلع من الخارج، في ظل الظروف التي عاشتها الصناعة الوطنية، استهدفا بالأساس تبرير عمليات بيع الشركات العامة، بزعم تخلص الدولة من الديون المتراكمة، والاستنزاف المستمر لموارد الدولة وموازنتها العامة. وفي هذا السياق يعتبر اليسار أن سياسات الخصخصة، أدت الى زيادة معدلات الفقر في المجتمع، وارتفاع معدلات البطالة، وتفشي الفساد، في ظل عجز كامل عن قصور حكومي استراتيجي لمواجهة هذه الظواهر الخطيرة، والتي من أبرزها عدم قدرة محدودي الدخل والمعدومين على تلبية حاجاتهم اليومية، إضافة الى تآكل الطبقة الوسطى، وانحدار قطاع غير قليل منها الى الفئات الأدنى. ويرجع المعارضون هذه الظواهر الى الارتباك في توزيع عوائد الملكية والذي ترتب على عملية "إعادة الصياغة" القانونية للملكية العامة، ما أدى الى احتكار القلة للثروة في البلاد، وهو ما أبرزته صحيفة "الأهالي" حينما نشرت نتائج تقرير الدليل الدولي لرجال الأعمال، لتأكيد ملاحظاتها على أن ثمار الاصلاح الاقتصادي لم تمتد الى الفقراء، حيث ارتفع نصيب أغنى 20 في المئة من السكان، الى نسبة 46 في المئة، من الناتج المحلي الاجمالي، بينما هبط نصيب أفقر 20 في المئة من السكان الى 7،1 في المئة بعد أن كان 7،3 في المئة. وترى المعارضة اليسارية، أن توجهات سياسة التخصيص، لا تهدف الى توسيع قاعدة الملكية الخاصة، أو تحقيق ما يطلق عليه "الرأسمالية الشعبية" وإنما حقق نقل الملكية العامة، الى فئات محددة بهدف تحويل البلاد الى النمط الرأسمالي، وتصفية الدور المركزي للدولة، بما يحقق دمج مصر بالمنظومة الرأسمالية العالمية. ويدلل اليسار على صحة تحليله، الى الواقع الاجتماعي في السنوات العشر الأخيرة، حيث يعتبر أن نظام الامتيازات الممنوحة للمستثمرين، والاعفاءات الجمركية والضريبية التي يحصلون عليها، قللت من موارد الدولة، ومن ثم تركت آثاراً واضحة في تمويل القطاعات الخدمية المتعددة، وعلى رغم زيادة نصيبها في الموازنة العامة للدولة، إلا أن ارتفاع الأسعار ونسب التضخم، وانتزاع الدولة لدورها في تنمية الخدمات العامة أدىا الى ابتلاع الزيادة في المخصصات النقدية، وكشفا عن تراجع القيمة الحقيقية لهذه الزيادات. ويرى اليسار بمختلف فصائله، انه لا مستقبل لحل المشكلات الأساسية في المجتمع المصري، والتي تتفاقم سنوياً، في ظل تخلي الدولة عن دورها في إطار سياسات التخصيص، وما يتبع ذلك من تراجع دور التخطيط، والبرامج المتكاملة، والاعتماد على القطاع الخاص، الذي يفضل النشاط التجاري والصناعات الخفيفة، ولا يقدم حلولاً فاعلة لمشكلات البطالة، أو تحديث الصناعة، أو إصلاح الجهاز الاداري، وتحقيق طفرة ايجابية في الانتاج الزراعي، وخصوصاً في المحاصيل الاستراتيجية أو في رفع معدلات الادخار، لتحقيق معدل نمو سنوي يزيد على 7 في المئة خلال المرحلة المقبلة.