تعاطى القادة الغربيون مع استقالة بوريس يلتسن بطريقة تشبه التذكير بحسنات الموتى. وربما كان الرئيس الاميركي بيل كلينتون اكثرهم صراحة حين اشار، في معرض تعداد اهم مناقب الرئيس الروسي السابق، الى انه هدم نظاماً سياسياً "معادياً بلا هوادة لمبادئ ومصالح" الولاياتالمتحدة. ولا يهم ماذا اقام يلتسن بدلاً من ذلك النظام وكم دفن تحت انقاضه. بل ان سيد البيت الابيض، وبالصراحة ذاتها، يعترف بأن هناك اعمالاً "لم ينجزها" صديقه بوريس ومنها الوضع الاقتصادي والاجرام والفساد والحرب الشيشانية. بالفصحى، هذا الكلام يعني انه اذا ضمنت مصالح الولاياتالمتحدة فلا ضير ان ينكمش اقتصاد روسيا بنسبة 51 في المئة ولا داعي للجزع اذا غدا القتل في شوارعها ظاهرة مألوفة، وليس ثمة غرابة في ان الرشوة اصبحت السبيل الوحيد لتحقيق "تفاهم" مع الموظفين في قاعدة هرم السلطة وقمته على حد سواء. ولئن اتبع الكرملين سياسة تتماشى مع "مبادئ" واشنطن فانه لن يتعرض الى اكثر من عتاب رقيق ان هو شن في القوقاز حرباً اودت بارواح 100 ألف شخص وعاد فجهز حملة اخرى لا يعلم الا الله حجم خسائرها الفعلية وعواقبها المستقبلية. وفي روسيا تبارى الساسة والمعلقون المؤيدون للسلطة في الحديث عن "الخطوة الشجاعة" و"حكمة رجل الدولة" الا انهم اظهروا خجلاً وتواضعاً في تعداد حسنات الراحل عن كرسي الكرملين، واكتفوا بالاشارة الى "افضاله" في الانتقال بروسيا من الظلمات الى النور. واعتصر الكتّاب اقلامهم ليتحدثوا عن الحريات الديموقراطية التي "ترسخت" في عهد يلتسن، ناسين او متناسين ان ميخائيل غورباتشوف هو الذي بدأ مسيرة الانفتاح، وان الانتخابات البرلمانية الاخيرة اثبتت بالدليل القاطع ان وسائل الاعلام الحكومية تدار باسلوب ابشع مما في عهد هيمنة القسم الايديولوجي للحزب الشيوعي. هل يعني ذلك ان حَمَلة المباخر منافقون؟ حاشاهم، انهم ينظرون من زاويتهم الى حصيلة ثماني سنوات جرت خلالها خصخصة جعلت فئة ضئيلة تسيطر على ثروات الدولة ووسائل اعلامها والسلطة فيها، وهذه الفئة مدينة، بالتأكيد، لبوريس يلتسن، والارجح انها ارغمته على الاستقالة بعدما انجز مهمته اولاً، وخوفاً من اقدامه على واحدة من خطواته "المفاجئة" التي يمكن ان تقلب الطاولة على رؤوس اللاعبين، كاقالة فلاديمير بوتين من رئاسة الحكومة او اتخاذ قرار ببدء مفاوضات مع القيادة الشيشانية. ورغم ان الانتخابات المبكرة ستجرى قبل 70 يوماً فقط من موعدها الدستوري، فان هذه الفترة القصيرة كان يمكن ان تؤدي الى اعادة اصطفاف تقضي على حظوظ بوتين في الفوز بامتياز على منافسيه المحتملين. ولذا كان على يلتسن ان يرحل حاصلاً على حصانة مدى الحياة كي يظل حصيناً ايضاً النظام السياسي الذي اقام ركائزه. والاعلام المُسيّر كفيل بتغليف الاستقالة وتلميع الصورة كي تبدو المثالب… حسنات موتى.