عندما توفي الزعيم الفرنسي جورج كليمنصو في تشرين الثاني نوفمبر 1929، كان أضحى عجوزاً في الثمانين من عمره، لكنه لم يكن أخلد بعد الى الهدوء أو الراحة. فالرجل الذي أمضى نحو ستين عاماً من عمره يعيش معترك السياسة الفرنسية، لا يهدأ له في الراحة بال. من هنا نراه يمضي الأعوام الأخيرة من عمره، في شقته الباريسية في شارع فرانكلين منكباً على وضع كتبه العديدة التي كان من أشهرها كتابه عن "ديموستين" 1926 وكتابع الثاني بعنوان "عظمة وبؤس الانتصار" 1928. لم يكن ثمة في بدايات جورج كليمنصو ما كان من شأنه أن يشير الى أن الرجل سوف يلعب ذلك الدور الكبير في تاريخ بلاده. فكليمنصو الذي ولد في منطقة الفاندي، في الغرب الفرنسي في 1841، لم يدخل معترك الحياة السياسية بصورة فعلية الا غداة اندلاع كومونة باريس في 1870، حيث انتخبه الثوار عمدة للدائرة الباريسية الثامنة عشرة، وبعد سقوط الكومونة انضم، وهو الذي كان محسوباً على اليسار المتطرف عند ذاك، الى الحزب الراديكالي فانتخب نائباً في 1871، وكانت أول معركة خاضها، معركته ضد سياسة ماكماهون، وهي معركة اضفت عليه شهرة كبيرة، خاصة وأنه تمكن بعدها من اسقاط العديد من الوزراء والحكومات مما جعله يلقب ب"مسقط الوزراء" ثم ب"النمر" - وهذا اللقب الأخير هو الذي رافقه طوال حياته ولا يزال يعرف به الى اليوم. غير أنه كما لكل حصان كبوة، كانت كبوة كليمنصو تورطه في فضيحة قناة باناما حيث اتهم، بأنه عميل للبريطانيين. ولقد أدت تلك التهمة الى سقوطه في انتخابات 1893. وظل اثر ذلك يعيش في الظل، حتى اندلعت قضية درايفوس فوجدها فرصة سانحة لعودته الى معترك السياسة ففعل ووقف الى جانب درايفوس، مما اسبغ عليه شعبية جديدة وأنسى الناس ماضيه القريب. وفي 1902 انتخب كليمنصو عضواً في مجلس الشيوخ، ثم صار وزيراً للداخلية. وهنا كانت كبوته الثانية، حيث نراه يساهم - وهو اليساري السابق المتحمس - في قمع الحركات الاجتماعية وخاصة منها اضراب عمال المناجم في با-دو-كالي. ومن جديد سقط الرجل فعاد الى المعارضة. وفي 1917 دعي لتشكيل الحكومة الفرنسية، وكان بهذا المفاوض الرئيسي في معاهدة فرساي. هذا الموقع جعله يعتقد أنه آن الاوان لترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية ففعل لكنه سقط سقوطاً ذريعاً في 1920، جعله يترك السياسة نهائياً وينصرف الى الكتابة.