زادت الحملة التي حصلت في لبنان ضد مارسيل خليفة من شهرته كمغنٍ وملحن وموسيقي كبير، وطرحته أكثر في المنطقة العربية. فهذا الفنان كان بغنى عن تلك الحملة التي أفادته بقدر ما أضرت به بفعل الظلال التي لحقت به بسبب تلحينه وغنائه لتلك الآية القرآنية الكريمة التي تتعلق بيوسف عليه السلام. كان يمكن لتلك الظلال أن تنحسر عنه لو أنه سحب أغنيته تلك مع كلمة اعتذاء محببة، كانت ستكون ذات وقع كبير عند من يعنيهم أن لا تُمس قناعات ومعتقدات لديهم، خصوصاً أن هؤلاء الذين انزعجوا مما حدث هم جزء من حجم كبير من البشر يتجاوز البليون نسمة. وهذا الاعتذار كان وارداً بعد أن أعلن مارسيل نفسه في المحكمة أنه لم يكن يعلم أن هناك آية قرآنية ضمن أغنيته، ولم يلفت نظره إلى خطورة الأمر. وحتى لو وجد من يعلم ذلك، إلا أن الرغبة في الحملة، لدى أصحابها، كانت المتوافرة والغالبة عند كثيرين ممن يفتشون عن هزات من هذا الحجم. من هنا كان يمكن لبيان الألف مثقف أن يمتص المشكلة في لبنان، داعماً مارسيل خليفة في سحب أغنيته، ومقيماً جسر اتصال واعٍ مع الحال الدينية التي تدق الأبواب والسمع والوعي في كل العالم. وإذا لم يكن هذا الأمر مطلوباً من خليفة، فإنه كان مطلوباً من الألف مثقف الذين كان يجدر بهم وعي وقع تلك الحال الدينية، وخصوصاً الإسلامية. لكن الألف مثقف وقعوا في ثنائية خطرة هي أن يبقى خطابهم من دون تغيّر وتعديل وتطوير، وأن يبقى اعتقادهم ان التطور لم يلحق بالحال الدينية وجمهورها. والخوف ان يكونوا، وهم في تلك الثنائية، قد وقعوا، قصداً أو عرضاً، خارج دائرة العقل والمنطق والعلم، وهي التي تؤكد التطور دائماً مع الزمن وتوالي الأحداث. لكن، هل صحيح ان الحال الدينية هي في مستوى جديد وحجمها هو ذاك الحجم، وان الحال الإسلامية بالذات باتت لا بد من أن تؤخذ في الاعتبار لأنها ليست حال مجتمع ديني بقدر ما هي حال مجتمع مدني واسع وشامل ومتنوع ومتعدد؟ إن الجواب يقتضي متابعة واسعة لمستجدات كثيرة فكرية وسياسية واجتماعية شهدها العالم. وعلى صعوبة ذلك، إلا أن التوقف عند ما ورد في كتاب زعيم الحزب الشيوعي الروسي غينادي زوغانوف والفقرات المهمة التي تضمنها بشأن الحال الدينية يبدو أمراً مهماً ومفيداً لهذه المقاربة لمشكلة الحال الدينية في المرحلة الراهنة. والذهاب إلى زوغانوف مبرر، وفي الذهن أن الألف مثقف أو أكثرهم هم هناك، أو كانوا يوماً هناك، أو ما زالوا يحنون إلى أيام خوال هناك، على رغم أنهم يعتبرون أنفسهم هم أصحاب النظرية وحماتها حتى وإن تداعت هناك. الكتاب اسمه "روسيا وطني: الايديولوجيا الوطنية للدولة"، صدر في طبعته العربية عن دار الفارابي في بيروت وترجمه الدكتور مفيد قطيش، وهو عموماً اعطى للحال الدينية ككل احترامها آخذاً في حسابه تطور الحال نفسها والتطور في المواقف من الحالة لديه ولدى رفاقه الجدد. يقول زوغانوف: "إن التركيب الديني للعالم اليوم متنوع ومتقلب، ومع ذلك يمكن إبراز سبعة تجمعات طائفية فيه، سيحدد تنافسها الوضع في هذا المجال، وهي: الارثوذكسية، الكاثوليكية، الإسلام، البوذية، الكونفوشيوسية، اليهودية، الوثنية، والخليط العجيب من عناصر البروتستانتية واليهودية والوثنية الذي يشكل أساساً روحياً للغرب المعاصر" ص133. وبعد أن يدعو زوغانوف للاهتمام بالعلاقات الدينية والقومية، وإلى عدم السماح بتعقيد العلاقات مع أوكرانيا والعالم الإسلامي والصين، إذ أن "الخيريين الغربيين" يدفعون بقوة بهذا الاتجاه ص133 يصل إلى القول: "إن مصالح روسيا تتطلب، من دون شك، أن تؤمن السياسة الحكومية الدفاع عن الارثوذكسية ودعمها، وعن الإسلام والبوذية - الديانات التقليدية المنتشرة على أراضيها - وأصبحت قيماً اخلاقية معنوية وثقافية أعلى من القيم الاستهلاكية - التجارية. ويمكن لهذه السياسة أن تستند، بثقة، إلى النواة الطائفية المنسجمة التي تشكل الوحدة الدينية للشعوب الارثوذكسية المتآخية قاعدة لها" ص134. ثم يرسي بوضوح مبدأ مهماً للوفاق الوطني ينص أحد بنوده، كما يقول زعيم الحزب الشيوعي الروسي، على النحو الآتي: "التخلي عن الثأر الايديولوجي وعن الاستهزاء بالعلم والثقافة وبالديانات" ص101. وليست عباراته هذه بمعزولة ونادرة، بل إنها تشير إلى سياق عام تتداخل فيه كلمات لم تكن ترد في قواميس الشيوعيين القدامى كتعابير "وينبغي فهم دائرة الحاجة كجملة وسائل مادية وروحية وضرورية للإنسان من أجل تحقيق قدراته في العالم المحيط به" ص172، أو "وستؤدي انسنة الاستهلاك، بالضرورة، لنقل مركز الثقل في الحاجات إلى المجال الروحي في ظل توسيع دائرته" ص173. ثم يفرد فقرات عدة للحديث عن الكنيسة الروسية ودورها كما يقول "في حياتنا القومية والاجتماعية والحكومية، يدين الشعب الروسي بظهوره إلى الوجود كوحدة روحية فريدة لتأثير الكنيسة" ص246، ونكاد نقول معه هنا إن الشعب العربي مدين بظهوره إلى الوجود كوحدة روحية لتأثير الإسلام، إذ التشبيه وارد ومنطقي، فلماذا يصعب قوله؟ ثم ترد لدى زوغانوف تعابير "الحركة الدينية - الوطنية" في أكثر من مجال ص248. ويصل إلى الفصل السابع من كتابه تحت عنوان "من أجل روسيا جديدة" ليقول: "باستطاعة الكنيسة الارثوذكسية الروسية أن تقوم بدور كبير لاشاعة السلم، وهي برهنت خلال تاريخ الدولة الروسية على التأثير الذي يمكن أن تمارسه على التوحيد الروحي للشعب" ص288. ثم يورد فقرة ذات أهمية كبيرة يرد فيها على الحقبة الماضية في الاتحاد السوفياتي وخارجه عندما يقول: "ومن المهم بمكان كبير لفت أنظار بعض معارضي وجهة نظري، المصّرين على تقييم الدين على أنه أفيون وخداع للشعب، لأهمية ومشروعية التعاون مع الكنيسة. لا يجوز عدم الاعتراف بأمر واقع مفاده انه لم يتسن اقتلاع الدين من وعي الشعب خلال الحقبة السوفياتية على رغم الصراع الشديد معه. فالكثيرون تعمّدوا وتزوجوا زواجاً دينياً ومارسوا الطقوس الدينية الأخرى، واحتلفوا بالأعياد الدينية. فلماذا رفض ما يحافظ عليه الشعب بهذا الحرص، والصراع معه. أوليس من الأفضل التعامل باحترام وبتفهم مع معتقدات الناس. وحيثما كنت والتقيت بقيادة الكنيسة الارثوذكسية وجدت تفاهماً ودعماً" 288-289. وفي هذا الفصل الكثير من هذه النظرة الواقعية من جانب زعيم الحزب الشيوعي الروسي. ما يقوله زوغانوف هو دعوة لإعادة بناء دور العبادة الارثوذكسية وغيرها من علاقات الثقة إلى أن يقول: "علينا ان ندعم الملل التقليدية في بلادنا من دون السماح بتفجير العداوات بين أفراد الطوائف الدينية. فالحرب في الشيشان تعتبر محاولة لفتح مجابهة بين المسيحيين والمسلمين ولمفاقمة الوضع في كل روسيا. ونحن ضد هكذا تطور للأحداث بشكل قاطع. فباستطاعة المسيحيين والمسلمين، بل ينبغي أن يعيشوا بسلام مع بعضهم البعض" ص292. إنها نظرة متقدمة أطلقها زوغانوف قبل أكثر من سنة من اندلاع الحرب الثانية في الشيشان. ويرحب بدور للكنيسة في انبعاث روسيا وبناء المجتمع المدني فيها على أساس التنوع. حتى أنه يعلن العمل لتشكيل تدريجي لايديولوجيا شعبية - وطنية حكومية عامة بمشاركة واسعة من الاتحادات الدينية والمنظمات الاجتماعية ص293. ويعلن أخيراً: "ونحن نتخلى كلياً عن سياسة الحاد الدولة الرسمي" ص294. هل يكفي هذا للقول لدعاة "حملة مارسيل خليفة" إنهم أضروا بالفنان الكبير في تعاطيهم بيسارية نمطية وتقليدية مع تلك المشكلة؟ انه الضيق الايديولوجي القديم الذي استطاع زوغانوف نقضه. واستندنا إلى هذا النقض في التعاطي مع تلك الحملة، من دون أن نستند للكثير من معطيات الواقع الراهن التي راحت ترجّح الإسلام وتفرضه حقيقة واقعة، بعد أن بدأ الطلاء الغربي يتساقط سياسياً وثقافياً في نهايات القرن الماضي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ككل. إن حالة إسلامية مدنيّة ستفرض نفسها لتتسع للجميع، ولا مصلحة، ولا منطق في التناقض معها، ولا مبررات ولا ضرورات لذلك التناقض كما حدث في "حملة الألف مثقف"، التي يبدو أنها كانت حملتهم هم ولم تكن كلها من أجل مارسيل خليفة. أما الطرف الآخر في المشكلة فمدعو للقبول باعتذار من خليفة بعد اقفال المحكمة ملف الأغنية انسجاماً مع روح الإسلام وتسامحه.