يبقى الوضع المعيشي للشعب العراقي من الامور التي قلما يتم تداولها في الاعلام الرسمي او الصحافة المحلية في الكويت. واذا تطرق الاعلام الى هذا الوضع فإن ذلك يكون ضمن خبر سياسي او عسكري عن نشاط المعارضة العراقية وباسلوب مكرر. وقلما يخوض هذا الاعلام في تفاصيل مستجدة عما بلغه الوضع المأسوي لهذا الشعب من وضع معيشي يومي او صحي. ومع ان الغزو العراقي والاحتلال اللذين امتدا لسبعة شهور وما رافقهما من آلام واستنزاف للموارد سيبقيان في الذاكرة محددين تطلعات الكويتيين وموجهين علاقات الكويت بالدول الاخرى. ومع ان مدخلات التجربة المأسوية للاحتلال على الذاكرة متشابهة لمعظم الكويتيين فإن هناك تمايزاً في تأثير هذه التجربة في تكوين القناعات وأطر التفكير، ومن ضمن ذلك رؤية الكويتيين الى مستقبل العلاقات الاقليمية والدولية الاخرى. ويكون التمايز او الخلاف اكثر وضوحاً عند محاولة تحديد مواقف من علاقة مستقبلية مع العراق ما بعد صدام، مثلاً، او حتى من تحديد موقف من الوضع المعيشي للشعب العراقي. ويمكن تلمس ثلاث اتجاهات للكويتيين في تقويم الوضع المعيشي لهذا البلد: الاول هو الذي لا يفرق بين النظام العراقي وشعبه ويرى ان النظام نتاج شعبه وبذلك فإن الوضع المأسوي للشعب العراقي ليس من اهتماماته ويفضل ان ينسى وجود العراق الجغرافي في شمال الكويت وغربها. ويلاحظ ان الفئة التي تتبنى هذا الرأي ينتمي اليها كثير من المواطنين الذين كانوا ابدوا حماساً غير عادي للنظام العراقي ابان الحرب العراقية - الايرانية، ويتراجع عدد المنتمين الى هذه الفئة بمرور الزمن. اما الاتجاه الثاني فهو لا يرغب في إزعاج نفسه بما يحصل في العراق الآن، الا بمدى ما قد يؤثر ذلك في الكويت. فالوضع المعيشي للشعب العراقي بعيد عن اولويات متبني هذا الاتجاه، لذا يؤثرون ان يعتبروا ما تتناقله وسائل الاعلام العالمية من تدهور كبير في الحال الصحية والمعيشية بأنه مجرد كلام اعلامي يستخدمه النظام العراقي لكسب التعاطف العالمي ولرفع الحصار عنه. واصحاب هذا الرأي هم الذين يجدون مثلاً تأكيداً لقناعتهم في الصورة التي نشرتها "القبس" بتاريخ 13/1/2000 لفتاتين عراقيتين تعرضان الازياء في احد فنادق بغداد، ونشرت الصورة تحت عنوان: ويقولون حصار! ويبدي اصحاب الاتجاه الثالث تعاطفاً كبيراً مع مأساة الشعب العراقي لاقتناعهم بأن هذا النظام الذي اضطهد الكويتيين لسبعة شهور، يضطهد شعبه منذ عقود، ولادراكهم بأن ما يجمعنا من لغة ودين وتاريخ وجوار كاف لأن يجعل من تكوين علاقة قوية تستند الى المصالح المشتركة مع عراق ما بعد صدام امراً طبيعياً، وانه يمكن الكويت ان تلعب دوراً رئيسياً في المساعدة على ان ينشأ في عراق المستقبل نظام مدني ديموقراطي، وان هذا سيكون عاملاً مهماً لضمان امن الكويت وسلامتها. ويكتسب هذا الرأي ثقلاً وتأثيراً في المجتمع الكويتي بمرور الزمن. ويشارك اصحاب هذا الرأي الاخير التوجهات العامة لدول عديدة من بينها بريطانيا وهولندا وحتى اميركا في رؤيتها الى عراق ما بعد صدام والى ضرورة العمل على تحسين الوضع الحالي الصحي والاقتصادي للمواطنين العراقيين. فقد ادركت هذه الدول متأخرة ان الوضع المعيشي المأسوي للشعب العراقي جعل هذا الشعب رهينة اسهل للتحكم به من جانب النظام الظالم. فعندما يكون الدخل الشهري للمدرّس دولارين لا يتوقع منه ان يفكر في غير الانتظار في الطوابير الطويلة للحصول على حصة عائلته من الطحين التي لا تغطي الحد الادنى من السعرات الحرارية الضرورية. ولقد كان مراسل "الايكونوميست" البريطانية معبراً في وصفه حال الشعب العراقي عندما قال انه لم يعد هناك وقت لدى غالبية العراقيين للوم النظام او اميركا على الوضع المؤلم الذي وُضعوا فيه، فهم مشغولون في الحصول على لقمة العيش. وقد كان لتقارير المراسلين وممثلي الهيئات الدولية التأثير الكبير في مضي بريطانيا وهولندا في تقديم اقتراح الى مجلس الامن بتعديل اتفاق النفط مقابل الغذاء. وقد صدر قرار مجلس الامن 1284 بالموافقة على الاقتراح بغالبية 11 صوتاً مقابل امتناع 3 عن التصويت. ولم تعارضه الولاياتالمتحدة لأن قناعات جديدة تكونت لديها بضرورة تحسين الاوضاع المعيشية للشعب العراقي كونه اصبح منهكاً الى حد عدم اهتمامه بالتساؤل عن المتسبب بحاله المزرية هذه. ينقل المراسلون وممثلو الهيئات الانسانية العربية والعالمية حالات مختلفة جداً عما شاهدناه في صورة عارضات الازياء. ففي زيارة قامت بها الباحثة النفسية اللبنانية فيوليت داغر الى بغداد في ايار مايو 99 ضمن بعثة من اللجنة العربية لحقوق الانسان، كتبت في "الحياة" بتاريخ 10/6/99 واصفة زيارتها لأحد المستشفيات في بغداد: "تصارع المستشفيات لتدبير امورها بسبب قلة الادوية، اذ لا يؤمن اتفاق النفط مقابل الغذاء الا جزءاً زهيداً منها. ويتم اجراء العمليات الجراحية ومنها الولادة القيصرية من دون مخدر وتفتقد المختبرات ومعدات كثيرة كتلك المتعلقة بالانعاش مثلاً لقطع الغيار وتكتظ اجنحة المستشفيات بالاطفال المحتضرين. في مستشفى الاطفال الذي يستقبل 1500 مراجع يومياً، يموت كل يوم ثلاثة اطفال اي بمعدل 85 طفلاً في الشهر، تنطلق جنازاتهم اسبوعياً منها. اثناء زيارتنا لهذا المستشفى كان صراخ الاطفال يصمّ الآذان بينما يحاول اهلهم التخفيف عنهم والاهتمام بهم بما اوتوا من قوة وصبر وامل. لم استطع تحمل رؤية اطفال يصارعون الألم في انتظار الموت في مكان ليس لهم فيه خيار واصبحوا ضحايا بامتياز، فاعتذرت من الطبيب المرافق وخرجت شبه هاربة". اما مراسل "الايكونوميست" فكتب عن زيارته لمدرسة ومستشفى في جنوبالعراق في عددها الصادر في 12/12/99: "ان آثار التدهور في كل مكان. فعند زيارة مدرسة، وجدت ستين طفلاً يجلسون على ارض من الكونكريت في غرفة لا تتسع الا الى نصف عددهم، فلم يعد هناك ادراج او كراسي. لقد رأيت آثار اسلاك كهربائية لكنني لم أرَ الاسلاك. اما الابواب فغير موجودة حتى اطاراتها ازيلت والشبابيك بدون زجاج. وقد اخبرني مدير المدرسة ان الحضور الى المدرسة اصبح لا يهم المدرسين الذين بات راتبهم يعادل دولارين في الشهر فقط. وعلى رغم هذه الحال المزرية لندرة المباني المدرسية الصالحة فإن هناك ثلاث ورديات تتعاقب على استخدام مباني المدرسة نفسها، كل وردية يستغرق اجمالي وقتها في المدرسة ثلاث ساعات… وعند زيارتي لمستشفى المدينة علمت انه لا توجد مطهرات لتنظيف الارضيات وعلى رغم وجود اطباء اكفاء متخصصين فإنهم لا يستطيعون الا اجراء عمليات بسيطة وذلك لعدم توفر الادوات والمعدات والمواد الضرورية". وحول تدهور مستوى التعليم ذكرت نشرت منظمة "اليونسكو" الصادرة بتاريخ 8/6/1999 ان معدل الطلبة في كل فصل ارتفع من 35 الى 70 ومع ان التعليم الزامي في العراق الا ان ما يقارب 20 في المئة من الطلاب الذين هم في سن الدراسة غير مسجلين في المدارس الابتدائية. وتقول مديرة برنامج الغذاء العالمي ان معدل وفاة الاطفال ارتفع الى ستة اضعاف ما كان عليه عام 1990، وان ما يزيد على اربعة ملايين شخص يواجهون خطراً غذائياً شديداً. ويشمل هذا العدد 2.4 مليون طفل دون الخامسة وزهاء 600 ألف من النساء وان 70 في المئة من النساء لا يحصلون الا على مقدار قليل من الطعام. وتنشر الصحافة العالمية العديد من الصور لنساء ينقلن الماء في حلل على رؤوسهن واخريات انتظمن في طوابير لاستجداء وجبات مجانية قرب المساجد، وصوراً لرجال يبيعون أثاثهم المنزلي واساتذة يبيعون كتبهم، فهذه هي الصورة التي تعبّر حقيقة عن الوضع المعيشي للشعب العراقي. اما عرض الازياء في احد فنادق بغداد فلا شك انه من نشاطات الترفيه عن البطانة التي تحيط بالسلطة والتي نمت في ظل خلل اخلاقي وصدع اجتماعي. ويبدو ان النظام حريص على رفع ذوق نساء هذه البطانة. فدعوة رئيس النظام للعراقيين في خطابه الاخير للاستغناء عن "غير ضروري… والضروري ايضاً" ليست موجهة الى البطانة هذه. * كاتب وباحث كويتي