تعكف المؤسسات والأوساط المعنية بالتجارة العالمية وبالعلاقات الدولية على دراسة النتائج التي تمخض عنها مؤتمر منظمة التجارة العالمية الثالث في سياتل. ولربما كان الاستنتاج الاهم الذي خرج به عدد وافر من هذه المؤسسات هو التأكيد على ان العولمة هي ظاهرة ذات حدين. انها تنقذ الملايين من الفقر والمجاعة والامراض والجهل، كذلك تقرب بين الشعوب وتخلق المزيد من الفرص للتعاون والتفاهم في ما بينها. بيد ان العولمة قد تسبب الشقاء للملايين ايضاً، كما حذر قبلاً تقرير التنمية البشرية لعام 1999 الصادر عن برنامج الأممالمتحدة الانمائي. فالإنترنت مثلاً تمكن اليوم 150 مليوناً من البشر من التواصل بصورة مباشرة وسريعة وقليلة الكلفة على نحو يحقق لهم اعظم الفوائد. الا انه مقابل هؤلاء سيبقى مئات الملايين محرومين من وسيلة الاتصال هذه بسبب الجهل او الفقر ومن ثم ستكرس قسمة المجتمع الدولي كما يقول الى "موصولين" ومعزولين. وفي سياتل اطلت العولمة ايضاً بوجه جانوسي مزدوج: انها تحمل الخير والرفاه الى الكثيرين ولكنها تنشر او تعمق آلام كثيرين آخرين. ازاء هذا الواقع يسعى المعنيون بمستقبل الشعوب والمجتمعات الانسانية، والعالم يقترب من الألفية الثالثة، للبحث عن وسائل تعظيم منافع العولمة والحد من اضرارها. هذا السعي كان موضوعاً لمؤتمرات وندوات عديدة نظمت في اماكن شتى من المنطقة العربية، منها مؤتمر بعنوان "العالم العربي والعولمة: تحديات وفرص" الذي نظم في تونس في نهاية شهر تشرين الثاني نوفمبر الفائت من قبل وزارة التعاون الدولي والاستثمار الاجنبي التونسية، بالتعاون مع المكتب الاقليمي للدول العربية التابع لبرنامج الاممالمتحدة الانمائي. وركز المؤتمر كما هو واضح من العنوان على ان هذه المنطقة قادرة على الافادة من العولمة شرط تطبيق اصلاحات واسعة فيها على اصعدة مختلفة. فعلى صعيد المعلومات والاتصالات دعا انطوان زحلان الى رعاية الابتكار وتعزيز التصرف العملاني المنتج واقامة انظمة وطنية للعلم والتقانة، وعلى صعيد الثقافة دعا جورج طرابيشي الى "عولمة العالم العربية"، والى تحويل العالم العربي الى "قرية ثقافية اقليمية واحدة" مقدمة لانضمامه الى القرية الدولية الواحدة، كما دعا نبيل علي الى تهيئة اللغة العربية لمطالب عصر المعلومات. وعلى الصعيد الانمائي الاجتماعي دعت ليلى الخواجا الى "ادارة عملية العولمة وفق منظور استراتيجي يوفر الضمان الاجتماعي للشعب". على الصعيد الاقتصادي، حيث التحولات الأصعب وحيث ان تحقيق تحرير التجارة الدولية والاقليمية يؤدي الى ما يشبه آلام الولادة، اقترح رائد الصفدي العمل على خلق مناخ شعبي ملائم لهذه التحولات. تصطدم هذه الدعوة الاخيرة، اي احاطة مسارات العولمة في المنطقة العربية بالتأييد والتفهم، صعوبات ومعارضات شتى. بعض هذه الصعوبات والمعارضات ناشئ عن طبيعة العولمة نفسها وعن مساسها بمصالح فئات واسعة من المواطنين في المنطقة العربية. فتحرير تجارة المغرب طبقاً لمشاريع اتفاقات بينه وبين الاتحاد الاوروبي سيؤدي، كما تقول بعض الاحصاءات، الى القضاء على 60 في المئة من مصانعه الصغيرة. ومن الطبيعي ان يقف اصحاب هذه المصانع، ما لم تقدم اليهم التعويضات المناسبة، ضد تحرير التجارة الخارجية. وتحرير التجارة الخارجية يلحق اضراراً فادحة بالمزارعين اللبنانيين مما دفع فريقاً منهم الى مطالبة الحكومة اللبنانية بالعمل على تأجيل الانضمام الى منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى. البعض الآخر من الصعوبات التي تعرقل "عولمة العالم العربي" او تعريب العولمة يرجع الى جملة من المفاهيم التي اقترنت خطأ بالعولمة، يأتي في مقدمها ما يلي: 1 - الاعتقاد بأن العولمة حتمية وان ما تستطيع الجماعات البشرية ان تفعله حيالها هو ان تعد نفسها لركوب قطارها عندما يتوقف في محطاتها المحلية. ان هذه الصورة صحيحة بمقدار ما تسلط الضوء على تنامي حجم التجارة الدولية، وعلى التسارع والتوسع المذهل في ثورة المواصلات والمعلومات. كذلك فإن هذه الصورة قد تخدم الهدف الذي يتطلع الى تحقيقه المتحمسون للعولمة الذين يصح وصفهم بالعولميين الراديكاليين من حيث انها تقنع عدداً كبيراً من اصحاب المواقف المترددة او المعارضة للعولمة بالتخلي عن هذه المواقف وبالالتحاق بقوة تاريخية جارفة وصاعدة. الا ان هذه الصورة لا تفيد اذا كان المطلوب تعزيز قدرة العربي على التفاعل النقدي والخلاق مع الظواهر الدولية وصولاً الى تحقيق أقصى الفوائد منها وتلافي سلبياتها. كما ان هذه الصورة قد تؤدي الى عكس المطلوب منها اذ تخلق مناخاً دهرياً ازاء ظاهرة العولمة. فبينما يقتضي التعولم تحمل الأفراد والجماعات مسؤوليتهم حتى يسهموا في تذليل الصعوبات امام هذا التحول، فإن الافتراض بأن العولمة حتمية يضعف حس المسؤولية عند هؤلاء ويقلل من اندفاعهم لفتح الابواب امام العولمة. فضلاً عن هذا وذاك فإن فكرة حتمية العولمة تعبر عن نهج فكري تاريخاني لم تبرهن تجارب القرن العشرين على صوابه. 2 - الخلط بين العولمة وبين الأمركة بحيث يعتبر قبول الهيمنة الاميركية بكل ما تنطوي عليه من نتائج شرطاً ضرورياً من شروط الالتحاق بالعولمة. ولا تستند هذه النظرة الى واقع الهيمنة الاميركية على النظام الدولي فحسب، ولكنها تستند ايضاً الى ما يشبه تأييد هذا الواقع وتحبيذه. ان معتنقي هذه النظرة يرفضون التوقعات حول تراجع الزعامة الاميركية التي تقدم بها بعض المؤرخين وعلماء السياسة والاجتماع مثل بول كنيدي، كينيث والتز ومؤخراً صموئيل هانتنغتون. ويعتبر الذين ناقدوا كنيدي ووالتز وهانتنغتون انه من الخطأ المقارنة بين الهيمنة الاميركية الراهنة على النظام الدولي، وبين الهيمنة التي مارستها في الماضي بعض الامبراطوريات الاوروبية. ويرجع خطأ هذه المقارنات، في تقدير الذين يربطون بين العولمة والامركة، الى ان تلك الامبراطوريات الكبرى التي أفلت كانت تتفوق على منافسيها في بعض مجالات القوة، بينما تتفوق الولاياتالمتحدة على منافسيها تفوقاً كبيراً في اكثر مجالات القوة. الولاياتالمتحدة تنفق، مثلاً، على قوتها العسكرية 52 في المئة من مجموع ما تنفقه الدول السبع الأقوى عسكرياً في العالم، بينما تنفق الدولة التي تليها في القوة العسكرية اي روسيا 13 في المئة فقط، وتنفق الصين المرشحة، بحسب بعض التقديرات لاحتلال مركز الاتحاد السوفياتي في الزعامة الدولية، 7 في المئة فقط على جيشها. وتحفظ الولاياتالمتحدة بمثل هذا التفوق الساحق ايضاً في مجال الانتاج الصناعي وفي استخدام الطاقة وفي معدل دخل الفرد. ان قوة الولاياتالمتحدة الاستثنائية تسمح لها بالامساك بقيادة عملية العولمة وبتوجيهها، مما يجعل من الانضمام الى ركب العولمة وتحدي الزعامة الاميركية في نفس الوقت امراً غير ممكن عملياً، من وجهة نظر الذين يخلطون بين العولمة، من جهة، وبين الأمركة من جهة اخرى. ان هذه النظرة تستند، ضمنياً، الى مفهوم سكوني للعولمة يتناقض مع طبيعتها. فالمفروض ان العولمة تطلق عقالا اجتماعية وبشرية وتفسح لها المجال، بصورة غير مسبوقة، في التاريخ للمساهمة في نهضة المجتمع البشري. ان هذه التطورات سوف ستؤثر، على الأرجح، على النظام الدولي، مثلما اثر انتقال الثورة الصناعية من بريطانيا الى دول اخرى في الماضي على علاقات القوة في العالم. ان ارهاصات هذا التغيير بدأت، بالفعل، في ظهور النمور الآسيوية مثل ماليزيا التي انضمت الى رحب العولمة من دون ان تخضع لاملاءات الادارة الاميركية ولإرادتها. كذلك اظهرت دول الاتحاد الاوروبي في سياتل بأنها قادرة على تشكيل جبهة موحدة في الدفاع عن مصالحها خلافاً لصورة النظام الدولي الذي يرضخ كلياً لقطب دولي واحد التي يقدمها الذين يلغون الفواصل بين العولمة والأمركة. 3 - اعتبار التفاهم مع اسرائيل بما تملك من تفوق تقني ومن نفوذ واسع لدى القطب الدولي الأعظم، اي الولاياتالمتحدة، هو من الشروط الضرورية للالتحاق بركب العولمة. المشكلة هنا هو ان الذين يتبنون هذا المفهوم يستخدمونه في كثير من الحالات لإقناع العرب بأنه مقابل التنازلات المجحفة التي يقدمونها الى الاسرائيليين، فانهم سيحققون مكاسب مجزية اذ يتمكنون من ولوج العولمة عبر البوابة الاسرائيلية. ان هذه النظرة تخدم اسرائيل وتخدم الذين يؤيدون مشاريعها في المنطقة ولكنها لا تخدم فكرة التحاق العرب بركب العولمة. فليس من السهل اقناع العرب بأن طريقهم الى العولمة يمر عبر اسرائيل، او ان الاسرائيليين، الذين يجدون في تقدمهم التقني ضماناً لأمنهم وتفوقهم الاقليمي سيسهلون على العرب دخول عصر العولمة. خلافاً لهذه النظرة، واذا كان للعلاقات الاقليمية والدولية ان تسرع انتقال العرب الى عصر العولمة واستفادتهم من مزايا هذه الظاهرة، فإن الأفضل، كما ترجح جهات عدة منها بيان القمة الخليجية الاخيرة المنعقدة في اواخر شهر تشرين الثاني نوفمبر المنصرم، هو ان تعمل الدول المعنية على تنمية العلاقات في ما بينها بهدف تكوين كتلة اقليمية حقيقية. فهذا التكتل الاقليمي يمنح هذه الدول فرصة دخول العولمة من بابها الأمامي ويسمح لهما بالدفاع عن مصالحهما في مواجهة الأطراف الدولية القوية الاخرى. وقيام مثل هذا التكتل يخلق مناخاً افضل لاقتناع العرب بمزايا العولمة ولإقناعهم بأنه من مصلحتهم الاسراع في الاسهام فيها واتخاذ موقف مسؤول وفاعل تجاهها بحيث تحقق لهم الفوائد المرجوة. * كاتب وباحث لبناني.