الكتاب: الثقافة الجنسوية الكاتب: سليم دولة الناشر: مركز الإنماء الحضاري ما زال "مركز الإنماء الحضاري" يرفد ثقافتنا بكتب نوعية، تهتم باضاءة الاشكالي، من مثل كتاب "هسهسة اللغة" لرولان بارت و"العقلانية" لجون كوتنغهام و"فوكو قارئاً لديكارت"، ومنها أيضاً كتاب سليم دولة. ماذا عن الذكورة والانوثة؟ وكيف يمكن تهذيب الغريزة والارتقاء بالانسان من مملكة الحيوان الى مملكة العقل؟ أوليست الثقافة هي الفضاء الناقل من المملكة الأدنى الى المملكة الأعلى؟ إذن، أية ثقافة بامكانها أن تؤنسن الانسان؟ هل هي روسوية تنسجم بالكامل مع "العقد الاجتماعي" أم هي فرويدية تتحرك بين الليبيدو ومبدأ اللذة؟ أم أنها هيغلية تسعى الى تدشين الرغبة العاقلة بالخروج عن الحالة الطبيعية باعتبارها "حالة منافية للحرية"؟ ثم، هل الانسان حيوان رامز على حد تعبير الفيلسوف كاسيرر؟ أم أنه حيوان يستعمل اللغة كما يقول كلود ليفي شتراوس؟ أدرك ابن عربي الطبيعة الانسانية بين الثابت والمتحول، فعبّر عنها بعبارة ضاقت فاتسعت فيها الرؤيا: "وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر". كما أن أبو حيان التوحيدي أدرك عمق الذات الانسانية وظلالها، واشكاليتها، فقال في كتابه "الاشارات": "ان الانسان قد أشكل على الانسان". وعن هذه الطبيعة الاشكالية يطرح كتاب سليم دولة عناوين تتراكب لتنتج اجتراحاً جديداً يكسر زجاج التقاليد ويرتفع بالذكورة والانوثة الموجودة في كل انسان، من طبيعتها الثابتة الحيوانية الى أناها العليا وعبر فصول: الوجود الانساني واجتراح المعاني، نظام الانسانية ونظام الحيوانية، نقد مفهوم حالة الطبيعة، دور الثقافة من منظور التحليل النفسي الفرويدي، في ضرورة الاجتماع الانساني، تحديد الثقافة من وجهة نظر انتروبولوجية، اشكالية الطبيعة الانسانية بين النفي والاثبات، العرق والثقافة، النسبية الثقافية، الثقافة والثقافة المضادة، الجنسوية الثقافية: الذكر والأنثى ولعبة المهد، الأهمية النظرية والعملية لطرح مشكلة الذكورة والانوثة، الشواهد التي تفزع الوعي الاسمنتي المسلح. إذا قلنا الغريزة تشكل سلطة، فهل لهذه العلة لا يتحمّل الحيوان أي مسؤولية، ويبقى الانسان حاملاً هذه المسؤولية منذ طفولته؟ يؤكد كانط على أن سلوك الحيوان يعزى الى علة خارجية. وهذا السلوك الحيواني يترجم عن خضوع مطلق للحتميات الطبيعية. وعلى هذا، بنى ديكارت مقولته "الحيوان الآلة" فيما السلوك الانساني ليس مرسوماً مسبقاً لأن حضور الوعي يفتح على الاختيار، والاختيار يعني الوعي في عالم اللاتجانس. فالوعي يجعل الانسان مسؤولاً أمام ذاته. أي، يجعله عاقلاً. أوليس العقل هو المسؤول عن طبيعة السلوك ونمطه؟ أليس العقل الذي ركز عليه الخطاب الفلسفي الانتروبولوجي الكانطي هو المشرّع المطلق اذا تعلق الأمر بالمملكة الانسانية الراغبة في الانتقال من الزمن الوحشي الى الزمن الاجتماعي، المدني؟ تسعى الغريزة الى تحقيق ما يسميه فرويد "الطاقة الليبيدية". إلا أن الانسان، في غياب الأوامر والنواهي، في غياب الأنا الأعلى، في غياب الضمير الجمعي، في غياب الشرطي، يسلك حسب فرويد "مبدأ اللذة". فوظائف الأوامر والنواهي، الدين والأخلاق، المراقبة والقصاص، هي التهذيب والتثقيف والحد والكبت من سلطة الغرائز التي تعيش الزمان المتوحش. فالثقافة تقذف أيضاً بالانسان من الفضاء الوحشي الى الفضاء المدني ترتقي به من زمن اللامدني الى الزمن المدني، وتحيد به من طريق الحرية المطلقة الى الحرية المدنية وفق التحدي الروسوي في كتاب "العقد الاجتماعي". فالالتجاء الكانطي الى مقولة السبب الخارجي شرعي، أراد تحديد الهوة بين حيواني الحيوان وحيواني الانسان. ألم يقل كانط أن التربية - الثقافة، الأوامر والنواهي تحول الحيوانية الى انسانية. إذا كانت الثقافة تكتسي هذه الأهمية، وإذا كانت تؤنسن الانسان، فما تجلياتها؟ وهل تتجلى في ما هو مادي فقط؟ أم في ما هو روحي رمزي؟ أم في المادي والروحي والرمزي معاً؟ إن الثقافة تشكل البيئة الثانية التي يتنفس من روحها الانسان. إذ الفرد يحب ويكره، يتمنى ويرجو، يحتج ويحلم ويغضب من خلال ثقافته. فالثقافة هي اطار الاسناد الأساس بالنسبة الى الفرد والجماعة حسب هيروسكوفيتش لذا فإن السلوكات تفسر وفق السياقات الاجتماعية، وتخضع لشبكة من المثيرات معقدة. فالمعقول انما هو معقول ثقافي، والسوى سوي ثقافي والجنون جنون ثقافي، وحتى أكثر الصفات التي كنا نعتبرها حميمة ملازمة بنيوياً لنا، أصبحت بعد ثورات العلوم الانتروبولوجية المعاصرة صفات ثقافية: الذكورة والأنوثة، هاتان الصفتان الحميمتان انفجرتا أمام النقد الانتروبولوجي المعاصر. ألم يقل روزاك في كتابه "ذكورة وأنوثة": يلعب هو دور الذكر وتلعب هي دور الانثى وهو يلعب دور الذكر لأنها تلعب دور الأنثى... ولو لم يكن يلعب دور الذكر لكان على الأرجح أشد منها انوثة... الا في الحالات التي تكون فيها مسرفة في لعبة الانوثة. ولو لم تكن تلعب دور الأنثى لكانت على الأرجح أشد منه ذكورة الا في الحالات التي يكون فيها مسرفاً في لعبة الذكورة. وهكذا يزداد لعبه شدة، ويزداد لعبها نعومة. من خصائص الايديولوجيا، مهما كانت، تقدمية أو رجعية، عرقية أو مناهضة للعرقية، أنها تخاطب الوجدان والانفعالات والرغبات. فهي تهدف الى تعطيل آلية العقل لدى المخاطب، اذ تشله حتى لا يضع "المخاطبون" الآراء التي يأمر بها القائد موضع التساؤل سواء كان القائد فرداً أم طبقة. ألم يؤكد موسوليني على أن "القائد دائماً على حق". فما يأتي به مقدس، والنقد شيء مدنس. ألم يأمر موسوليني بتعطيل عقل أنطونيو غراو عن التفكير: "أوقفوا هذا العقل عن التفكير". أما على صعيد العرق، فإن العلم المعاصر يدحض مقولة التفوق العرقي، وبذلك يقول ليفي شتراوس: "لا شيء في الوضع الحاضر للعلم يسمح بتأكيد التفوق أو الدونية الثقافية لعرق من الأعراق"، واختلاف الثقافات لا يعود الى الإرث البيولوجي، وانما يرجع الى أسباب موضوعية. لكن التاريخ يبين أن الايديولوجيا العرقية تجعل من العلم أداة تطوعها لتنسجم مع أطروحاتها، وهذا يكشف لنا أن هناك أكثر من "شعب مختار"، لقد كان أرسطو ينسب غير الاغريقي وغير المواطنين الأحرار الى البربرية والتوحش. فكل من لا ينخرط في الثقافة اليونانية انما هو "همجي متوحش". كذلك نجد في الفترة المعاصرة، اللازمة نفسها، فكل من لا ينخرط في ثقافة الانسان الأبيض، يعتبر همجياً وبدائياً وما قبل منطقي. لكن، ماذا عن الصراع بين الثقافة والثقافة؟ نتوسل هنا مقولة هيغل: "يجب ألا نترك الغابة تحجب عنا الشجرة الواحدة كما ينبغي للشجرة الواحدة أن لا تحجب عنا الغابة". وهذه الموضوعية قد تتم من خلال "النسبية الثقافية" التي حددها هيرسكوفيتش في أنها "مذهب فلسفي من أهم مهماته تقديم نظرة مضادة الى الثقافات ضد النظرة التي تقدمها الانثروبولوجيا الاستعمارية". فهي تسعى الى انتاج أحكام موضوعية ضد وثوقية الأحكام الذاتية المطلقة. فهذه الفلسفة لا تختزل تجارب الشعوب ولا تحكم عليها انطلاقاً من حكم معياري انتجته ثقافة الباحث، لذا فهي تلاحظ ظاهرة التنوع الثقافي والأمثلة على هذا التنوع أكثر من أن تحصى. يكمن مفهوم الذكورة والأنوثة من مجتمع الى آخر في اختلاف سلوك الرجل والمرأة، اختلاف المراسيم الاحتفالية والمراسيم الجنائزية، واختلاف طرق المراقبة والقصاص، اختلاف الشخصيات. اضافة الى اختلاف تصور الفرد لذاته من مجتمع لآخر. في قبيلة الوانتو تغيب الأنا، بينما في مجتمع الماورى تغيب الملكية الفردية. لكن، في مقابل هذا التناثر، هناك قاسم مشترك بين الثقافات يتمثل في الاستجابة الى حاجات الفرد والجماعة، الحاجات النفسية والمادية، وأي ثقافة، مهما كانت بساطتها، لها قيم مثل: العدالة والحق والجمال. ولأن صراع الايديولوجيات ليس مجرد صراع فكري، بقدر ما هو صراع تتحكم فيه المعطيات والعوامل الاقتصادية السياسية، فإن الخطاب البديل عن الخطاب الاستعماري يحمل حلماً لا يبدو قابلاً للتحقيق. مقابل الثقافة ثقافة مختلفة مضادة لا تحدد فقط على أنها مجرد نفي للثقافة التقليدية. فلنفي الثقافة السائدة والايديولوجيا الاجتماعية - السياسية السائدة، يفترض أن يكون الرافض مثقفاً بفضل اعتماده على العلم والجماليات والوسائل العقلية والفكرية التي تقدمها الايديولوجيا الرسمية بغية التمكن من رفض هذا الإرث الايديولوجي. ان الاشتغال بالفكر وحده لا يجعل من مواطن ما كائناً مثقفاً. فمستوى الشهادات لا يجعل من المتعلم مثقفاً، اذ أن المثقف هو من يوظف رأسماله الرمزي: الفكر، لصالح المجتمع، ولا يوظفه لصالحه الخاص. ومن هنا لا بد من التمييز بين المثقف وتقني المعرفة. فتقني المعرفة هو من يملك رأسمالاً رمزياً معرفياً لا يتجاوز في توظيفه وضعه المهني. من أهم مهام المثقف العربي المعاصر، تحطيم نواة "الانسان ذي البعد الواحد"، حسب مصطلح ماركوز وممارسة النقد الابتسيمولوجي المرفود بموقف ايديولوجي تحرري، يعمل على تفجير المكبوت المهيمن عليه سلطوياً من السائد الثقافي. ومن أكثر المكبوتات في الحضارة العربية احراجاً: المكبوت الأنثوي". في بداية الفصل الحامل عنوان الكتاب - ويظهر للقارئ بأنه مأخوذ من مقولة رايلي نوردها لاحقاً - يستشهد المؤلف بفقرة من رواية "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي تكشف عن المكبوت الأنثوي. ليت سليم دولة لم يكتف باستشهاد وحيد، فأدبنا العربي من شعر وقصة ورواية، حافل بهذا المكبوت. ويورد لنا بعد ذلك متواليات الصفات التي اعتاد مجتمعنا اطلاقها على الذكر العقل/ الشجاعة/ السيطرة على الأهواء وعلىا لأنثى الكذب/ المراوغة/ الانفعال ليوصلنا بعد ذلك الى رايلي: "كلنا يلعب لعبة الذكر والأنثى. لقد تعلمناها من المهد" فماذا يقصد بذلك؟ نسبت آراؤنا المسبقة ومعتقداتها القديمة/ الجديدة "الصالحة لكل زمان ومكان" نعوتاً أبدية وتقييمات نهائية ومن خلال خلق مراتبية وخانات محددة تسجن فيها الأشياء والانفعالات والأهواء والسلوكات والكائنات الحية التي ننسب اليها أنماطاً محددة من السلوك مرة واحدة. كأن ننسب الى الرجل، اضافة الى الفحولة الجنسية، فحولة معرفية. وأن ننسب الى المرأة، اضافة الى الميوعة والنعوت التحقيرية، العجز المعرفي. ان ما تعودنا على اعتباره من المسائل "الواضحة" وفق اللغة الديكارتية، أي اعتبرناه من المسائل التي تربو على النقد ولا يطالها شك، مسألة التفوق العرقي، والتفوق الرجالي على النساء، وذلك كله نتيجة تقليد موغل في القدم. وعندما فجّر الخطاب الانتروبولوجي الثقافي المعاصر، معتقدات العقل المغلق، عاش هذا العقل لحظته الجنائزية فما كان منه إلا أن صرح "ان هي الا علامات الساعة". فعمد هذا الى الاحتماء بالمقدس، ليستر عورة المدنس وذلك في محاولات لاقصاء ونفي وبتر الجديد المشكك في المستندات الصريحة الضمنية التي بني عليها العقل المغلق ذاته. فهذا الخطاب الآثم لا بد أن يقصى من المدينة، تماماً كما دعا أفلاطون الى طرد الشعراء من جمهوريته وتكبيت الخطاب المغاير. في هذا الاطار، اطار مراجعة ومساءلة موروثنا الثقافي، نتبين أن أكثر الأشياء وأكثر الصفات وأكثر السلوكات الطبيعية لدينا انما هي ليست كذلك. أليس سلوك الذكر والأنثى وحب الملكية الفردية، أو الجماعية نتيجة لعبة تتعلم قواعدها من المهد؟ ان رايلي لا يشير الى الخصائص التشريحية والمورفولوجية أو البيوكيمياوية أو الفيزيولوجية، وانما يشير الى تلك البطانة التي لفّت الطبيعي لدى الأنثى فأنثنته، كما ذكّرت الطبيعي لدى ما يسمى ويتسمى بالذكر فخوشنته. ألم تقل سيمون دي بوفوار: "ان المرأة لا تولد امرأة ولكنها تصبح كذلك". ألا توقف القارئ كلمة الثقافة هنا؟ بالضرورة، لأن الثقافة المغايرة والأقرب الى ما يطرحه الكتاب، لا تثقف الرجل ليكون رجلاً بالمعنى المعتقدي القديم الذي يرفضه دولة. فلو أنجز المطابقة بين امكان قوله ودي بورفوار، لكان أكثر دقة: "ان الرجل لا يولد رجلاً ولكنه يصبح كذلك"، لأن كلمة يصبح تدل على نمطية البيئة المجتمعية بكل مستوياتها، تلك النمطية التي تجعل الكائن، ذكراً أو أنثى، يكون في النهاية جنسه المرغوب به في هذه البيئة. ولست أدري لماذا أضاف ذكراً الى كلمة رجل؟ وليتلافى المؤلف سوء فهمنا لمقولته المتماشية مع الخطاب الديبوفواري، نجده يكمل: التحديد الذي يعطيه رايلي لمفهوم الذكر والأنثى انما هو بالأساس يعتمد المتواليات من النعوت التي تنسب الى كل منهما وفقاً للثقافة: المهد، البيئة، الأسرة، السياسة، الثقافي هو الذي لطف ما سمي ويسمى الجنس اللطيف وخوشن الجنس الخشن. أما الطبيعة، فلا يبدو أنها جنسوية. وبعبارة أخرى، الطبيعة لم تنتصر للرجل ضد المرأة. ولكن الرجل انطلاقاً من وعيه الفحولي بالعالم، هو الذي ذكرن الذكر وذكرن المعرفة والعلم والسياسة والابداع، وأنثن - في المقابل - الطبيعة، والمرأة، والعاطفة والقلب كلنا يلعب لعبة الذكر والأنثى. لقد تعلمناها من المهد". حضور الرمز مكثف في اللعب، اللعب يستوجب قواعد. والطبيعة لا تقدم قواعدها. ربما انتبه القارئ الى إعادة تفوق الرجل من خلال جملة دولة: "ولكن الرجل انطلاقاً من وعيه الفحولي بالعالم". وهكذا ما بين الطبيعي - الطبيعي، والطبيعي - الثقافي، تستمر اللعبة ومن يخرج عن قواعدها التي مسرحها المتحكمون فهو مارق أو مهرطق، كافر، أو منسوب الى الخيانة الوطنية.