خوض اسرائيل المفاوضات وهي منقسمة على نفسها. فالرأي العام فيها موزع، حسب الاستقصاءات، مناصفة تقريباً بين من يؤيد انسحاباً كاملاً من الجولان مقابل سلام كامل ومن يرفض ذلك. والظاهر، حتى الآن على الأقل، أن نسبة المؤيدين تتراجع. والأحزاب مختلفة بين جبهة تثق برئيس الحكومة ايهود باراك وأخرى تتهمه أنه ذاهب الى واشنطن لبيع مصالح اسرائيل وتهديد أمنها. ووسائل الإعلام تحولت الى منابر للداعمين والمعترضين مع ميل اجمالي لكل واحدة منها الى موقف. والمؤسسة العسكرية نفسها ليست موحدة تماماً برغم أن معالم "السلام" لم تتوضح بعد ويصل الانشطار الى الحكومة إذ أن هناك وزراء يقاومون السياسة الحالية ويصرّحون بذلك ويصل بهم الأمر الى الاقتراع ضدها في الكنيست. ... ومع ذلك لا يوجد ميل، ولا حتى صوت وازن، للقول بأن هذا المشهد يضعف اسرائيل "في هذه الظروف الإقليمية الدقيقة" التي لا تختصر بالتفاوض مع سورية، وربما مع لبنان، بل مع الفلسطينيين أيضاً وتترجم نفسها انسحابات محدودة وجزئية من أراض في الضفة. على العكس هناك من يرى في هذا "التعدد" غنى وحيوية يمكن لهما أن يفيدا المفاوض ويجعلانه أكثر قوة. في هذا الوقت، بالتحديد، تنشأ أزمات صعبة في اسرائيل. فأحد أحزاب الائتلاف، "شاس"، يهدد بعدم التصويت على الميزانية مع ما يعنيه ذلك من سحب للثقة بالحكومة. ويطالب بحصة من المالية العامة لمدارسه مدركاً أن باراك مضطر للتجاوب حرصاً على "الأكثرية اليهودية" في الكنيست. وتتصاعد الأزمة قبل أن تعرف حلاً من غير أن يتعرض قادة الحزب ووزراؤه الى اتهام بأنهم يلعبون لعبة العرب ويقدمون الجولان على طبق من فضة لدمشق. وما أن تنتهي المشكلة حتى تنفجر واحدة أخرى. تنشر الصحف معلومات أن رئيس الجمهورية عيزر وايزمن، وهو شخص محترم في بلاده، تلقى أموالاً من مليونير يهودي يعيش في فرنسا مخالفاً بذلك القوانين. وتعلو الأصوات مطالبة وايزمن بالاستقالة برغم الخدمات التي سبق له تقديمها منذ أن كان قائداً للطيران في حرب 48. ويصدف أن الفضيحة لحقت بالرجل بعدما ألقى بثقله الى جانب باراك رابطاً بين استمراره في منصبه وبين نجاح الاستفتاء الخاص بالجولان. وبرغم هذا التزامن لم يشكك أحد بالإعلام أو بالقضاء بحجة أن التهجم على سمعة رئيس الجمهورية يضر بالموقف الإجمالي لإسرائيل وبتيار التسوية ضمنها. وفي حين تتوالى فصول الفضيحة يقرر باراك، من مكان وجوده في أميركا، تعيين حاكم للمصرف المركزي لا يحظى برضى وزير المال وأوساط اقتصادية وسياسية. وليس مستبعداً أن يتحول الأمر الى مواجهة محدودة من غير أن يتم استحضار الظروف الإقليمية الدقيقة للقول بأن لا صوت يعلو فوق صوت المفاوضات. لا تحصل هذه الأمور عندنا في البلاد العربية وهي غريبة عن بلد مثل لبنان. فالحكومات السابقة استخدمت سلاح "الظروف الإقليمية" ودقتها حتى كادت تفقده فعاليته. وأخذ معارضوها بالأمس وهم حكام اليوم عليها هذا الاستسهال في استحضار "خطورة المرحلة" لضبط الأوضاع. ولكنهم، اليوم، لا يتورعون عن اشهار هذه الذريعة السهلة. قد تكون لأحداث الشمال وبيروت صلة عضوية ومباشرة بالمفاوضات. فهذا أمر يجب على التحقيقات الجارية أن تحسم فيه. وإذا فعلت فإنها تضيء للبنانيين وغيرهم جوانب لا تزال معتمة في نوع الصلة بين هذه الأحداث وبين "الظروف الإقليمية الدقيقة" التي يمر بها لبنان. ولكن، في انتظار ذلك، يبدو أن الميل هو للإنزعاج من طرح التساؤلات حول ما جرى، ولمطالبة دعاة التفكير، مجرد التفكير، فيه بالصمت، وللإغراق في كيل المدائح التي تمنع من استخلاص العبر السياسية والأمنية والاجتماعية القادرة وحدها على رسم طريق المناعة الوطنية. لا يسع المرء إلا أن يحسد الإسرائيليين على كثرة انتصاراتهم التي كانت كثرة نقاشاتهم عنصراً مؤكداً فيها.