هناك أحداث تكررت في الدورة الرياضية التاسعة في العاصمة الأردنية، فشهدنا تجاوزات ومواجهات ومشاحنات سياسية، مثل إكساب قطر جنسيتها لعدد من المصارعين البلغار، ومثل اعتراض اللاعبين والجمهور على قرارات حكام المباريات، ومثل حدوث اشتباكات بالأيدي والأرجل بين مناصري الفرق المتنافسة شارك فيها أحياناً أعضاء الفرق نفسها، ومثل تدخل شخصيات سياسية عربية حضرت لتشجيع فرقها واعتراضات على نتائج المباريات أدت إلى تدخل الشرطة الأردنية أكثر من مرة. كما أن حماس الجمهور الأردني لفرقه أدى به إلى سلوكيات دفعت الأميرة هيا - بعد وقف إحدى المباريات - إلى مخاطبة الجمهور ودعوته الى التزام الهدوء والنظام. حدث ذلك في المباريات بين ليبيا وفلسطين، وبين الأردنوالعراق، ثم بلغ أقصى مدى له في التخريب في مباراة كرة القدم بين العراق وليبيا. فلماذا يحدث ذلك؟ ولماذا هذا التداخل والخلط بين الرياضة والسياسة؟ وهل ننفرد، نحن العرب، بذلك أم تشاركنا فيه بقية الشعوب والأقوام؟ وقديماً، قال أرسطو إن السياسة هي ملكة العلوم وكان يقصد بذلك أن لكل علم من العلوم جانبه السياسي. ومن المتعارف عليه اليوم بين الباحثين والمراقبين أن الوضع السياسي في مجتمع عادة ما تكون له تأثيراته في مختلف جوانب الحياة. وعلى سبيل المثال، هناك دراسات عن التفسير السياسي الموسيقي. وعن كيف تؤثر الأحداث السياسية الكبرى في أنماط الموسيقى الذائعة في المجتمع. وهناك من الباحثين من يربط بين الأوضاع السياسية وحالات الانتحار أو الخلل العقلي بين أبناء مجتمع ما. وبالمنطق نفسه، فإن دراسة تطور أنماط الرياضة المختلفة لا يمكن فصله عن التطور السياسي في المجتمع، وبالذات في العصر الحديث عندما أثرت العلاقات السياسية على المباريات والأنشطة الرياضية. ولعلنا نتذكر، مثلاً، أن الدول الغربية قاطعت الدورة الأولمبية في برلين في العام 1936 بسبب نظام هتلر النازي وسياساته، ومقاطعة الدول الغربية لدورة موسكو العام 1980، ومقاطعة الاتحاد السوفياتي، وعدد من دول شرق أوروبا دورة لوس أنغلوس عام 1984، وكذا مقاطعة عدد كبير من الدول الافريقية دورة مونتريال العام 1976 بسبب مشاركة جنوب افريقيا. ومع أن الرياضة في جوهرها هي تعبير عن تنافس شريف، وعن قدرة الرياضيين على التفوق والتميز كل في مجال لعبته، فإن الأنشطة الرياضية ارتبطت دوماً باعتبارات سياسية. لعل أهمها أنها تغرس روح الانتماء القومي، وتعكس المباريات الرياضية حماس كل شعب لفريقه، وأحياناً يصل هذا الحماس الى درجة التعصب المقيت. ونذكر في هذا المجال سلوك المشجعين البريطانيين لفريقهم في كرة القدم، وقيامهم بأعمال التخريب في حال الخسارة، ما أدى إلى القبض عليهم في أكثر من دولة أوروبية. كما ارتبط انتشار بعض الألعاب الرياضية بالنفوذ الاستعماري الذي مارسته بعض الدول الأوروبية في مستعمراتها. وهذا ما يفسر انتشار لعبة "الكريكيت" في الهند وباكستان ودول البحر الكاريبي، أو ارتباط لعبة الرجبي بالأغنياء والطبقات العليا في عدد من الدول الآسيوية التي خضعت للنفوذ البريطاني. كما أن حماس الكوريين واليابانيين للعبة البيسبول يعود الى أنها لعبة اميركية في المقام الأول. ويرتبط بعض الأنشطة الرياضية ارتباطاً مباشراً بالتقدم التكنولوجي مثل سباق السيارات. ففي هذا النوع من الرياضة توضع القواعد والضوابط الخاصة بصناعة السيارات المشاركة في السباق حتى يكون هناك مجال لإبراز مهارة السائق وقدراته. والشيء نفسه يحدث في سباق اليخوت. وفي عالمنا المعاصر الذي يرتبط فيه كثير من الأمور بهيكل الثروة والمال، فإن الرياضة أيضاً تحولت إلى "صناعة اقتصادية" وارتبطت بشركات الإعلان الكبرى وكذلك الجوائز الضخمة التي تقدمها هذه الشركات لجذب مزيد من الاهتمام بها. يظهر ذلك في بروز الإعلانات على ملابس لاعبي كرة القدم، أو أبطال لعبة التنس، كما تظهر الإعلانات في الملاعب. ولم يكن من المتصور أن يصبح ذلك ممكناً من دون البث التلفزيوني الذي نقل هذه المباريات الى المنازل. وهكذا لم يعد الأمر تنافساً بين فرق رياضية وحسب، وإنما عملية تجارية ومالية واسعة النطاق تلعب فيها محطات التلفزيون وشركات الإعلان والدعاية دوراً أساسياً. وإذا كان البث التلفزيوني المباشر نقل الألعاب الرياضية الى كل بيت، فإنه أيضاً فتح الباب لاحتكار بعض المحطات التلفزيونية نقل الدورات الرياضية. وثار جدل واسع في مصر أخيراً بسبب عجز التلفزيون المصري عن نقل دورة المكسيك نتيجة عدم وصوله إلى اتفاق مع الشركة التي احتكرت نقل تلك الدورة. نتيجة لهذا الجو المحموم، إزداد التنافس بين اللاعبين والرياضيين، وسعى كل بطل إلى إظهار أفضل ما عنده، ولجأ البعض إلى المنبهات والأدوية المنشطة لتعظيم الأداء في الملعب. وكانت فضيحة كبرى ما حدث في الدورة الاولمبية في سيول العام 1988 عندما اثبتت التحاليل الطبية أن الفائز بلقب "أسرع رجل في العالم" كان تعاطى بعض المنشطات، ولذلك سحبت اللجنة الاولمبية اللقب منه. وهذا ما تكرر كثيراً في ما بعد، خصوصاً في مجال ألعاب القوى، كما حدث أخيراً في الدورة العربية التي شهدتها الأردن. فهناك سباق صامت بين شركات الأدوية التي تنتج منشطات منبهات يمكن أن يستخدمها الرياضيون من دون أن تترك أي أثر في الدم. وتسعى اللجان الطبية التابعة للدورات الاولمبية بدورها الى الكشف عن هذه التجاوزات من خلال التحاليل الطبية. وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفياتي، كانت دورة برشلونة العام 1992 هي الدورة الاولى التي يشارك فيها أكبر عدد من الدول، إذ ان دول الاتحاد السوفياتي السابق شاركت تحت اسم "الفريق الموحد"، كما شاركت جنوب افريقيا في عهدها الجديد. ولعلنا نتذكر أن بداية كسر الجليد بين الصين والولايات المتحدة بدأت بديبلوماسية البنغ بونغ، وأن مباراة كرة القدم بين إيران وأميركا كانت مؤشراًَ لرغبة متبادلة في إيجاد قنوات للاتصال بين البلدين. ويعتبر كثير من الدول، خصوصاً في العالم المتخلف، أن الانتصارات الرياضية تعتبر رمزاً للهيبة القومية. وصارت الدول تتنافس في دعم فرقها القومية للحصول على مثل هذه الانتصارات، فكثير من الدول يعتبر تلك الانتصارات بمثابة دليل على قوة الدولة، ورقي نظامها السياسي والاجتماعي، وحسن صحة ومستوى معيشة ابنائها. ومن خلال الجوائز الضخمة من ناحية، والبث التلفزيوني الواسع النطاق على مستوى العالم من ناحية أخرى تستمر العوامل السياسية في ممارسة دورها. ولا بأس من هذا وذاك طالما أن النتيجة هي مباريات رياضية رفيعة المستوى تبرز قدرة الانسان المستمرة على التفوق، وعلى إحراز أرقام قياسية جديدة. ويبدو أنه في عالم العقل والمعرفة، وفي عالم الرياضة والجسد، فإن قدرات البشر يمكن تطويرها وتعظيمها باستمرار. وطالما استمر ذلك، وطالما اعتبرت الدول أن الانتصار في ساحة الرياضة لا يمثل انتصاراً فردياً وحسب. بل يعتبر انجازاً وطنياً للدول فسوف تظل الاعتبارات السياسية ذات وجود واعتبار. وسوف تستمر الصلة الوثيقة بين الرياضة والسياسة. ولكن شتان ما بين تلك الاعتبارات التي تربط بين السياسة والرياضة، وبين ما حدث في دورة الحسين والتجاوزات الشعبية والرسمية التي تعكس مفهوماً "بدائياً" للرياضة، وعدم احترام لما يصدره الحكام من قرارات. وعندما يحدث ذلك بالنسبة الى مباراة رياضية، فهل لنا أن نندهش من عدم احترام القانون في بلادنا، أو من ذيوع تصور بأن القانون وضع لكي يتم التحايل عليه والالتفاف من حوله.. وكلها مظاهر لثقافة لا تحترم القانون. وللأسف، فإن بعض الممارسات الرسمية من كبار القوم، وبعض التعليقات الإذاعية والتلفزيونية تكرس مثل تلك المفاهيم والممارسات. ومرحباً بالقرن الحادي والعشرين في بلادنا العربية! * عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة.