لعل مهمة كٌتّاب الفانتازيا العرب تغدو الآن سهلة اكثر من اي وقت مضى. بل انها، ربما كانت مع مُقبل الأيام والسنوات في متناول كتّاب أقل شأناً، وأدنى براعة. فالمعروف ان التقاط ومضة الفانتازيا تعوزه بصيرة نافذة وعميقة تقبض على روح المفارقة، وتقتنص لحظة قران المتضادات، والخروج على المألوف، وترفعها الى سدرة الدهشة، بحثاً عن توليد احساس ممزوج بالغرابة، وقد يُفضي الى بعض ألم. في ما مضى كات المهمة شاقة، وكثيراً ما وقع كتّاب في شراك الافتعال، وقاربوا وقائع ليست في حيّز الممكنات. كان الكتّاب، في ما مضى، يكدّون، وتتشظى مخيّلاتهم في سبيل انتاج نص ينتمي الى الفانتازيا. وكم من نصوص قاربت حدود هذا الهدف، فلم تقوَ على اختراقه، وظلت تسير على حوافه، فغرقت في الهلوسة والهذيان. حدث ذلك في الرواية، وفي ما أُطلق عليه "المسرح السياسي"، وايضاً جرى ما يُشبهه في الاغنية، ونحت اعمال، وأخفقت محاولات اخرى، لكن الاخفاق كان الأغلب الأعمَّ، الى درجة أن صار هو القاعدة، وما دونه ليس سوى الشذوذ والاستثناء. الآن تغيّرت المعادلة، وتغيرت معها شروط اللعبة، اي لعبة كتابة الفانتازيا التي كانت توصف ب"التحشيش الذهني" نظراً لما كانت تحتاجه من درجة تركيز عالية خارجة على المألوف والقوننة والنظام والسياق. .. الآن لم يعد الأمر في حاجة الى كدح فكري، فلقد غدا كل ما حولنا فانتازيا، وحسبُ "الكاتب العربي ان يرصد الوقائع العربية الجارية بكل دقة كي ينتج الفانتازيا" وفق ما صرح به احد الروائيين العرب. ان استغراق الحال العربي بمختلف أطيافه وشؤونه في اللامعقول، واقامته في منطقة الغرابة التي لا يبرحها أبداً، نزعا عن الفانتازيا تلك الهالة والسطوة، وأطاحاها، بعدما استدرجاها الى فخاخ العادي والمتوقع والطبيعي. حروبنا فانتازيا، وسلامنا ايضاً، وكذا سجالاتنا، وخطط حكوماتنا الخمسية والعشرية و... الألفية. فانتازيا احلامنا وأشواقنا. نصحو على الفانتازيا، وعليها ننام، وفي أقصى حالات اليقظة ثمة الفانتازيا. الحركية المجتمعية العربية برمتها تتأسس على الفانتازيا، وتؤول اليها. هل جرّب احدنا الاستماع الى محطة عربية، او قراءة صحيفة عربية، او مشاهدة نشرة اخبار ناطقة بلغة الضاد؟ ومن قبيل الاستطراد "انعاشُ" الذاكرة بتغيير حكومي جرى في احد الاقطار العربية، عُهدت فيه حقيبة الثقافة الى استاذ جامعي، فاستبشر مثقفو ذلك القُطر خيراً. وكان اول قرار اتخذه الوزير تغيير حمّام مكتبه بآخر يجاري حمامات ما بعد الحداثة. فتم له الأمر في زمن قياسي، ثم أتبع ذلك القرار التاريخي بقرار آخر جعل فيه "الشَّنينة" وهي اللبن السائل، الشراب الوحيد المتداول في وزارته، بدلاً من الشاي والقهوة والمشروبات الغازية. اما تصريحه الأول للصحافة فأعرب فيه عن عدم اقتناعه بشِعرٍ لا يكون في مديح الحاكم، داعياً الى تلحين اي قصيدة تراعي هذا الشرط الجمالي الرصين. وقد سبق هذا الوزير في ذلك البلد وغيره من البلدان العربية وزراء ثقافة طالب احدهم ذات زمن قريب مضى، باستضافة بيكاسو والتباحث معه شخصياً، لفض الاشتباك حول كيفية عرض لوحاته ومكانها وزمانها! ويجري في الثقافة ما يجري في السياسة والاقتصاد والتربية وغيرها من الحقول ذات العلاقة الحيوية بعيش المواطن العربي وسيرورته ككائن، وليس كانسان، حيث ما تزال انسانيته موضع شك ومثار التباس. الفانتازيا، والحال هذه، تبدو مثل الكلاسيكية والرومانسية، صارت جزءاً من الميراث المفهومي، ولا يمكن بعثُها واحياؤها الا بعودة الروح الى الجسد العربي، وانتشار العافية في مساماته، وانخراطه، بالتالي، في انتاج أنساقه ومنطقه الخاص، ومنجزه الحضاري والانساني الرفيع. لعل هذا الحلم ان يكون هو الفانتازيا عينُها بلحمها وشحمها، وبكوابيسها الضارية ايضاً. * كاتب فلسطيني